إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

في أربعينية المعمري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في أربعينية المعمري


    أصدقاء الراحل يقفون دقيقة حداد على روحه
    في أمسية كان عنوانها "الوفاء لأهل العطاء" التقى أصدقاء ومحبو الكاتب والروائي الراحل المقيم علي المعمري، الذي رحل عن دنيانا قبل واحد وأربعين ليلة.. اللقاء كان بطعم حياته الحافلة بفيض الكلمات والمعاني التي تمثل الإنسانية قاطبة.. ومشوبًا بنبرة حزن على فراق ورحيل آلم الجميع.. وجعل الأسى مخيما على كل من عرفه أو كحل عينيه بمنحيات حروفه ومفرداته وصوره الفنية، وقدّم فيها الشاعر سماء عيسى وعبد الله حبيب في ذلك الاقاء ورقتين ناقشتا أهم منتوجاته الأدبية التي رفد بها المكتبة العربية والعالمية. وقد قام بالتقديم للأمسية وإدارة دفة حوارها الأستاذ حمود الشكيلي، واستهل الجلسة الحزينة والمحضورة بروح الفقيد بأن دعا الحضور للوقوف دقيقة صمت وحزن حداد على روح الراحل، وتلا بعدها جانبا من السيرة الذاتية للفقيد، وأهم أعماله الأدبية ومن ثم قرأ قصيدة للشاعر علي المخمري مهداة إلى روح الراحل المعمري.
    ثمّ قدم الشاعر سماء عيسى ورقة عن كتابات الراحل، تطرق فيها إلى أنّ الناقد حمود الشكيلي والكاتبة عزيزة الطائي هما من أكثر الذين تعمقوا في كتابات الراحل، وتطرقوا إليها بالنقد والتحليل، وسبر أغوار الصور الفنية فيها، وأصلوا فيها لسرديات مختلفة وثيمات متعددة، وسرد سماء عددًا من المواقف الحياتية التي جمعته بالراحل المقيم، وأنّ صداقتهم بدأت منذ نيف وثلاثين عاماً، ووصفه بأنّه ابن الحياة قائلاً: إنّه كان في حياته أقرب إلى رواية مفتوحة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي والمتخيل والواقعي والحقيقة والخيال، ويقول الشاعر سماء إنّ هناك من شبه الفقيد في حياته وأسلوبه بالروائي الأمريكي آرنست همنجواي ثمّ قام بقراءة مقطع من رواية همس الجسور حيث يسأل الروائي صديقته هل حقاً أشبه همنجواي، فتقول له مؤكدة أنت الآن واقف أمامي وكأني أرى همنجواي.
    وشبه سماء حياة المعمري بمسرحية جورج شحادة "مهاجر بريسبان" التي تحكي حكاية مهاجر أسباني يُهاجر إلى أستراليا ثمّ يعود بعدها إلى مسقط رأسه ليموت.
    وقد عاش على حياته مهاجراً وباحثاً عن الحياة التي عشقها وعاشها بقوة ليعود إلى مسقط رأسه ويموت؛ لكنه خلد لنا ثمانية أعمال أدبية، أربعة منها قصصية وأربعة روائية. وركّز سماء في قراءته على رواية "همس الجسور" التي يوثّق فيها للحراك الوطني ويُقارن بينه وبين عبد الله الطائي وأحمد الزبير في رواياته. وقال إن ما يُميّز المعمري أنّه جاء بعد أن هدأت المنطقة فاستطاع أن يرصد العلاقات الإنسانية.
    بعد ذلك قرأ الكاتب سليمان المعمري ورقة للكاتب عبد الله حبيب بعنوان "الذي من حفيت" جاء فيها الآتي:
    تحيّة إلى علي المعمري في الحتف..
    لم يعد علي المعمري قادراً على أن يتذكرني، وأنا لا أريد أن أتذكره. يكفينا من الذكرى شبح مظاهرة بعيدة شاركنا فيها في أبوظبي – من دون أن نعرف بعضنا البعض بصورة شخصية عندها - وذلك احتجاجاً على احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى). لم نكن بالطبع نفهم ما الذي حدث بالضبط في خارطة المنطقة، ومن هو شاه إيران، وما هي مشاريعه ومشاريع من يقفون وراءه، ولكن كان علينا أن نكون مجرد قطرتين صغيرتين في تلك الأمواج الصاخبة التي خرجت طوفاناً هائلاً من الإبتدائيات، والإعداديّات، والثانويات، والأقسام الداخلية التي كان الطلبة العمانيون يشكلون جُلَّ قاطنيها في زمن كان أقل انكساراً من هذا الزمن، وأن نشارك مع الجموع الصاخبة في ترديد هتافات وشعارات عالية لا نفقه معناها أصلاً.
    ويكفينا من الذكرى أننا، بعد سنوات طويلة من ذلك، غنيّنا - هو، الذي أصبح اليوم مرحوماً، والمرحوم أحمد راشد ثاني، وخالد البدور، الذي عليه ألا يضنّ علينا بما أمكن من الرحمة أمام كل هذا الموت المتلاحق، وأنا، الذي بالطبع سأكون "مرحوماً" في يوم لا يبدو أنه بعيد جداً.. غنيّنا، إذاً مع الشيخ إمام عبر أشرطة الكاسيت، على أحد الكثبان الرملية في الشارقة منذ آخر الليل وحتى انبلاج الفجر ("ناح النَّواح والنَّواحة/ على بقرة حاحا النَّطاحة/ والبقرة حلوب/ حاحا/ تحلب قنطار/ حاحا/ لكن مسلوب/ حاحا/ من أهل الدار/ حاحا"). وفي هذا ما يكفي الرمال من مغبّة الأخوّة، والحليب، والنسيان.
    أظن أنّ هذا يكفي في الوجع الذي سيتبقى منه الكثير، وما الوجع في الرحيل إلا شقيق الرمل والأغاني. ليس على علي المعمري أن يعذرني، وليس من القمين بي أن أعتذر له، فالدروب مضت بنا خارج ما يمكن أن يقدمه البشر للبشر.
    لقد ضقت سأماً وذرعاً بكل هؤلاء وأولئك الذين يذكّرونني فقداً بعد فقد، وموتاً بعد موت، بهشاشتي الشديدة وضعفي المفرط أمام الحتوف في هذا العالم الذي يتضاءل باعتباره مكاناً غير ملائم حتى للإقامة المؤقتة والسريعة، ولذلك فإنني لا أشعر إلا بالسخط العارم أمام كل هذا. لقد أصبح كل هذا الموت المتلاحق صعباً جداً بالفعل.
    لا نستطيع أن نسخط بهذا الشكل إلا سوى أمام لا يجدي أمامه السخط، وقد يكون في هذا ما يكفي الأحياء من حكمة صغيرة. قد يكون من حق الموتى أن يخاتلوا، وليس من شيم الموت سوى المخاتلة. لكن المخاتلة ليست بالضرورة واجباً مفروضاً على كل الأحياء، ولذلك فإنّ علينا أن نسمي الأشياء بما أمكن من الأسماء. فبالله عليكم كيف يمكن لأي إنسان أن يكون أكثر قسوة من أن يدعوك إلى فنجان قهوة، أو كأس نبيذ، ثم يذهب - هكذا بكل بساطة وعجرفة - إلى المقبرة؟.
    لم يعد الموتى يستحقون منّا سوى الغضب الشديد، وعليهم أن يفهموا أنّ الأحياء أقل قدرة منهم على الصبر. حقاً، ليس هناك من هم أكثر قسوة من الأموات. قد تكون لهم اختياراتهم الكثيرة، أمّا نحن فخياراتنا محدودة جداً بعدهم، وهم يصرون على التظاهر بأنّهم لا يعرفون ذلك. لماذا يفعلون كل هذا بنا ونحن لا نستحق منهم غير المحبة، والقهوة، والنبيذ؟ يسكنون هناك بكل الرضا، والدعة، والاطمئنان، ولا يعلمون، أو يعلمون (وهذا هو الأسوأ)، ما يحدث بنا بعد ذلك، لماذا يفعلون كل هذا بنا؟، لماذا؟.
    لم يشبهني علي المعمري في حضوره كي أتشبَّه به في غيابه، ولم نكن نبخل على بعضنا البعض باحتمالات سوء الفهم الوافرة، وكم في الصداقات من عسر لا يتّضح بالفداحة المطلوبة إلا بعد الموت. في هذا لنا من الحِل حِلٌّ، ولنا ما تشاء الكلمات من لعثمة، ولنا في الدروب دروب، وعلينا أيضاً ما تريد السماوات من أراضٍ، وما تشاء الجذور من أنساغ. لا أريد اقتراف الحزن عليه لأن في أحزان الأرض كلها ما سيحرج ضحكته وبهجته، وأنا لا أريد أن أحرج ضحكته وبهجته، كي لا تحرجني ضحكته وبهجته.
    لقد كان طفيفاً كالفطرة، أو كالفكرة، وكنّا نبحث عن المزيد من الغضب فيما تبقى من غضب. لا أريد أن أنساه، ولا أريد أن أتذكره، لأنني بطبيعتي الشخصية غير قادر على الغيوم، أو على من يذهب إلى هناك.
    تمضي السنوات تباعاً، وتجيء الدعوة المتكررة: "تعال حفيت، متى بتجي تزورني فِ حفيت؟. إنته ما تتذكر إني زرتك في مجز أكثر من مرة"؟ ثم مضى علي المعمري إلى مكان هو ليس حفيت بالضبط، وأنا لن أذهب إلى حفيت بعد علي المعمري أبداً.
    كم أشكر علي المعمري الليلة لأنّه تبرع بسخاء شديد لمساعدتي في ارتكاب الحماقات الكثيرة بحثاً عن الأصدقاء والأعداء معاً، والإيغال معهم في عين الوقت.
    كان لا ينقصه الكرم الزائد في تسديد الفواتير الباهظة لليالي المدلهمات الطويلة. وكان غريباً في محاورة الكائنات، وما تَهْدِم الكائنات، وما تبني الكائنات، ليس بدءاً بـ "بن سولع"، وليس انتهاء بآخر "همس الجسور". غريباً كان، غريباً أتى، غريباً مضى، وغريباً سيبقى. وأنا أذهب إليه فأغيب عنه في غيّه وفي كتابه، وأتظاهر بالصمت عنه فأنصت إلى المآل فيه.
    لم أعرف في حياتي الصغيرة شخصاً مثل علي المعمري بتلك القدرة الهائلة على اجتراح المفاجآت إن في الليل، أو في النهار، أو في غير ذلك من أوقات - من "مفاجأة الأحبة" إلى مفاجأة الموت؛ فما "المفاجأة" إلا الكلمة الوحيدة اللائقة لوصف الروح. ولذلك فقد كان يسرف علينا، وكان يسرف منّا، وكان يسرف فينا، وأخيراً فقد أسرف على نفسه أكثر مما ينبغي، وتركنا كمن يبحث عن الشيء في اللاشيء. وها نحن نبحث عنه في المناجاة، فنراه ذاهباً في الغدر، ويفتش السؤال عنه وعنّا فيجيء، دوماً يجيء.
    على موته لن يسامحنا علي المعمري أبداً، وعليه، في الآن ذاته، ألا يتوقع منّا أن نسامحه.. شكراً جزيلاً.






    أكثر...
يعمل...
X