إضاءة-
مسعود الحمداني-
زمان..وحين كان الزمان غير الزمان، والنّاس غير الناس، والذمم غير الذمم، كانت الأمور تسير على منوال آخر، وكانت كلمة الرجل وثيقة قانونية واجتماعية لا تقبل الجدال والمناقشة، وكانت (كلمة الشرف) تحل محل المستندات والدفع الآجل، ولم يكن لأحد من الناس أن يفرّط في وعد وعده، أو عهد تعهد به، وكانت (شعرة) من لحية أحدهم كفيلة بأن تكون هي الفيصل في البيع والشراء والتعاملات..وكانت تبجّل اللحية بوصفها اللصيق (الغانمة)، وعن طريقها تُعتق الرقاب، ويُرفع العقاب، وكان الرجال (يترابطون بالكلام)، كما يقول المثل العماني، في الزواج، والعهود، والمواثيق..
ذلك زمن ولّى إلى غير رجعة، وحلّ مكانه زمن آخر، زمنٌ لا يعترف بالكلمات، والمواثيق الكلامية، وأصبحت عبارة (العقد شريعة المتعاقدين) هي الفيصل في كل شيء، ومن لا يملك ورقة لا يساوي ورقة في المحكمة!!، ولذلك نامت الذمم، واُنتهكت الاتفاقيات الشفوية، وباتت كلمة الشرف مجرد محاولة للتنصّل، والهروب من الالتزام.
فحين تتعاقد ـ شفوياً ووديّاًـ مع مقاول لبناء غرفة في منزلك، فإنّ البعض يعوّل على الالتزام الأخلاقي بينه وبين المقاول، وحين يخل أحدهما بالتزامه، تبدأ مشاكل لا أوّل لها ولا آخر، وحين يشتري أحدهم سيارة من شخص آخر ثم يكتشف أنّها مجرد (خردة) يبدأ الجري وراء البائع في كل شوارع البلاد دون أن يُسوّى الأمر، وحين يؤجر أحدهم منزله على اعتبار أن يحصل على إيجاره آخر كل شهر، ثم يتهرّب المستأجر عن الدفع، فإنّ حقوق المؤجر قد تضيع، وحين يصلح أحدهم سيارته في ورشة التصليح ثم يكتشف أن هناك تلاعباً في قطع الغيار، أو أنه لم يتم استبدالها أصلاً، فإنّ المسائل قد تأخذ منحى قضائياً بعد حين.
كل ما ذكرته من أمثلة وغيرها، لم تكن لتوجد لو أن هناك التزاماً أخلاقياً وأدبياً يحفظ حقوق الناس من التعدّي، ويصون تلك العلاقة الاجتماعية القائمة على الثقة، وعلى عناصر التبادل القائم على المنفعة المشتركة، ولو حافظ الرجل على كلمته لما كنّا بحاجة إلى عقود مكتوبة إلا في حالات محدودة، ولو خشي البعض من تبعات اجتماعية من عدم وفائهم بتعهداتهم الشفوية لفكّروا ألف مرة في أكل حقوق غيرهم، ولكن ذهب الأولون حتى بأدبيات التعامل الرفيع، وصار كل شيء غير مكتوب في وقتنا الحاضر، وغير موثق في عقود قانونية مآله إلى الضياع والريح..وبسبب الثقة المفرطة التي تعامل بها البعض مع الآخرين، ضاعت حقوق أناس كثيرين، وبسبب عدم التزام الغالبية بعهودهم الشفوية أصبحنا نعيش أزمة ثقة، وحتى في حالة العقود المكتوبة تجد هناك من يجيد التملّص، وتفسير الكلمات، وتمييع الحقوق، واللعب على القانون باسم القانون، ولذلك لم يُجدِ لا كلمة شرف، ولا شعرة من لحية، ولا كتابة في ورق موثّق في المحكمة من وقف الانحدار السحيق في هوّة الضحالة الأخلاقية التي أصابت المجتمعات التقليدية المحافظة.
إنّ المحاكم مليئة بقضايا النصب والاحتيال والغش والتدليس التي يرتكبها أناس استغلوا ثقة الآخرين، وأوردوهم موارد الإفلاس، واستطاعوا أن يجعلوا من المجتمع وسيلة للتحايل، والنظر بريبة تجاه أي تعامل نبيل يقوم على الثقة المتبادلة برابط (كلمة الشرف)، وفي المقابل هناك عشرات من الناس لم تصل قضاياهم إلى المحاكم لأنّهم لا يملكون ورقة مكتوبة يقدمونها للمحكمة، ولا يملكون دليل حقوقهم، (فالقانون لا يحمي المغفلين)، على رأي القانونيين، وكأن الثقة أصبحت سمة من سمات المغفلين في زمن لم تعد (كلمة الشرف) سوى أغنيةٍ قديمة، وتركةٍ من تركات الماضي الجميل!!..والله المستعان.
[email protected]
أكثر...
مسعود الحمداني-
زمان..وحين كان الزمان غير الزمان، والنّاس غير الناس، والذمم غير الذمم، كانت الأمور تسير على منوال آخر، وكانت كلمة الرجل وثيقة قانونية واجتماعية لا تقبل الجدال والمناقشة، وكانت (كلمة الشرف) تحل محل المستندات والدفع الآجل، ولم يكن لأحد من الناس أن يفرّط في وعد وعده، أو عهد تعهد به، وكانت (شعرة) من لحية أحدهم كفيلة بأن تكون هي الفيصل في البيع والشراء والتعاملات..وكانت تبجّل اللحية بوصفها اللصيق (الغانمة)، وعن طريقها تُعتق الرقاب، ويُرفع العقاب، وكان الرجال (يترابطون بالكلام)، كما يقول المثل العماني، في الزواج، والعهود، والمواثيق..
ذلك زمن ولّى إلى غير رجعة، وحلّ مكانه زمن آخر، زمنٌ لا يعترف بالكلمات، والمواثيق الكلامية، وأصبحت عبارة (العقد شريعة المتعاقدين) هي الفيصل في كل شيء، ومن لا يملك ورقة لا يساوي ورقة في المحكمة!!، ولذلك نامت الذمم، واُنتهكت الاتفاقيات الشفوية، وباتت كلمة الشرف مجرد محاولة للتنصّل، والهروب من الالتزام.
فحين تتعاقد ـ شفوياً ووديّاًـ مع مقاول لبناء غرفة في منزلك، فإنّ البعض يعوّل على الالتزام الأخلاقي بينه وبين المقاول، وحين يخل أحدهما بالتزامه، تبدأ مشاكل لا أوّل لها ولا آخر، وحين يشتري أحدهم سيارة من شخص آخر ثم يكتشف أنّها مجرد (خردة) يبدأ الجري وراء البائع في كل شوارع البلاد دون أن يُسوّى الأمر، وحين يؤجر أحدهم منزله على اعتبار أن يحصل على إيجاره آخر كل شهر، ثم يتهرّب المستأجر عن الدفع، فإنّ حقوق المؤجر قد تضيع، وحين يصلح أحدهم سيارته في ورشة التصليح ثم يكتشف أن هناك تلاعباً في قطع الغيار، أو أنه لم يتم استبدالها أصلاً، فإنّ المسائل قد تأخذ منحى قضائياً بعد حين.
كل ما ذكرته من أمثلة وغيرها، لم تكن لتوجد لو أن هناك التزاماً أخلاقياً وأدبياً يحفظ حقوق الناس من التعدّي، ويصون تلك العلاقة الاجتماعية القائمة على الثقة، وعلى عناصر التبادل القائم على المنفعة المشتركة، ولو حافظ الرجل على كلمته لما كنّا بحاجة إلى عقود مكتوبة إلا في حالات محدودة، ولو خشي البعض من تبعات اجتماعية من عدم وفائهم بتعهداتهم الشفوية لفكّروا ألف مرة في أكل حقوق غيرهم، ولكن ذهب الأولون حتى بأدبيات التعامل الرفيع، وصار كل شيء غير مكتوب في وقتنا الحاضر، وغير موثق في عقود قانونية مآله إلى الضياع والريح..وبسبب الثقة المفرطة التي تعامل بها البعض مع الآخرين، ضاعت حقوق أناس كثيرين، وبسبب عدم التزام الغالبية بعهودهم الشفوية أصبحنا نعيش أزمة ثقة، وحتى في حالة العقود المكتوبة تجد هناك من يجيد التملّص، وتفسير الكلمات، وتمييع الحقوق، واللعب على القانون باسم القانون، ولذلك لم يُجدِ لا كلمة شرف، ولا شعرة من لحية، ولا كتابة في ورق موثّق في المحكمة من وقف الانحدار السحيق في هوّة الضحالة الأخلاقية التي أصابت المجتمعات التقليدية المحافظة.
إنّ المحاكم مليئة بقضايا النصب والاحتيال والغش والتدليس التي يرتكبها أناس استغلوا ثقة الآخرين، وأوردوهم موارد الإفلاس، واستطاعوا أن يجعلوا من المجتمع وسيلة للتحايل، والنظر بريبة تجاه أي تعامل نبيل يقوم على الثقة المتبادلة برابط (كلمة الشرف)، وفي المقابل هناك عشرات من الناس لم تصل قضاياهم إلى المحاكم لأنّهم لا يملكون ورقة مكتوبة يقدمونها للمحكمة، ولا يملكون دليل حقوقهم، (فالقانون لا يحمي المغفلين)، على رأي القانونيين، وكأن الثقة أصبحت سمة من سمات المغفلين في زمن لم تعد (كلمة الشرف) سوى أغنيةٍ قديمة، وتركةٍ من تركات الماضي الجميل!!..والله المستعان.
[email protected]
أكثر...