إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

"مدام بترفلاي" لبوتشيني ونهاية التقاليد الأوبرالية الإيطالية .. في ليلة أوبرالية عمانية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "مدام بترفلاي" لبوتشيني ونهاية التقاليد الأوبرالية الإيطالية .. في ليلة أوبرالية عمانية


    كتب: ناصر الطائي
    تختتم اليوم-الأحد- أوبرا مارينسكي العريقة عروضها الثلاثة لأوبرا بوتشيني الشهيرة "مدام بترفلاي" والتي تعرض على خشبة دار الأوبرا السلطانية مسقط بقيادة المايسترو فاليري جيرجييف. يتميز العرض بالبساطة والمرونة المسرحية مدعوماً بأصوات أوبرالية روسية ضخمة وبخامات متألقة. تحولت خشبة مسرح دار الأوبرا إلى ميناء "ناجازاكي" الياباني في مطلع القرن العشرين حيث جاءت البيوت اليابانية الخشبية وحدائقها الروحانية المميزة ترجمة للمدرسة الواقعية التي بنى عليها الموسيقار الإيطالي "بوتشيني" انطباعاته عن الشرق وسحره الأخاذ.
    وعكست الإضاءة مناخات التراجيديا وقسوتها المتدرجة بدءاً من مشهد الزفاف المتوقد بأنواره اللامعة والبراقة ومروراً بقساوة الهجر والانتظار الطويلة ونهاية بتراجيديا الانتحار حيث يتحول المسرح إلى بركان من الدم الأحمر المتقد. وفيما يلي نستعرض تاريخ العمل وشخصياته الأوبرالية كمدخل لفهم التركيب الدرامي والفني والسياسي لأوبرا بوتشيني الخالدة.
    *****
    بالرغم من فشل ليلة الافتتاح التي شهدتها أوبرا مسرح "لاسكالا" في 17 نوفمبر عام 1904، لازالت أوبرا "مدام بترفلاي" لبوتشيني تسحر الجماهير والنقاد على حد سواء بفضل جاذبيتها الموسيقية المميزة. اعتمد بوتشيني على ألحان موسيقية تقليدية ترمز إلى الشرق، وجمع ودرس مقطوعات وتسجيلات للموسيقى اليابانية واستشار متخصصون حتى يتمكن من دمج وتضمين عناصره الغربية في الألحان اليابانية. وبالفعل تشتهر اليوم أوبرا "مدام بترفلاي" لبوتشيني باستحضارها لأجواء الشرق الأقصى، وخاصة مدينة ناجازاكي في اليابان. إنّ افتتاحية الفصل الثاني واستخدام بوتشيني للألحان الشعبية يخلقان إطاراً عاماً لا خلاف عليه للتصوير الغرائبي الذي يرسم سحر الشرق الأبدي ورومانسية أراضيه البعيدة والغريبة.
    شَعر بوتشيني بالإلهام لكتابة أوبرا "مدام بترفلاي" عقب حُضوره مسرحية لبيلاسكو في لندن في يونيو عام 1900. انجذب بوتشيني بشدة لشخصية البطلة ومعاناتها، فسارع بالتواصل مع بيلاسكو لشراء حقوق النشر. لا تعد القصة فريدة من حيث تلاقي الشرق والغرب المتمثل في شخصية الجندي الغربي (البطل) والفتاة الشرقية (البطلة) فكانت هناك أعمال كثيرة سابقة (مثل أوبرا "كارمن" لبيزيه) وأعمال لاحقة (مثل المسرحية الغنائية "مس سايجون" لكلود ميشيل شونبيرج وألان بوبليل) يمكنها تجسيد اللقاءات الصدامية بين الشرق والغرب.
    المسرحية مستوحاة من حياة جون لوثر لونج، المحامي الأمريكي من مدينة فيلاديلفيا وتحكي قصة ملازم أول أمريكي ("بي. إف. بينكرتون") الذي تتوقف سفينته مؤقتًا في ناجازاكي. وهناك يقرر الزواج من فتاة "جيشا" شابة وفقاً للقوانين اليابانية، لكنّه يضطر لهجرها ويقطع لها وعداً بالعودة "عندما تبدأ طيور أبو الحناء في بناء أعشاشها". تُدعى زوجته "تشو تشو سان" وهي فتاة تبلغ من العمر 15 عاماً فقط، تخلت عن أسرتها وعقيدتها من أجله وجاءت مستعدة لتقبل هويّتها (الغربية) الجديدة. يعود "بينكرتون" بعد ثلاث سنوات مع زوجته الأمريكية ليأخذ ابنه فتقدم "تشو تشو سان" على الانتحار بطريقة "هارا كيري" اليابانية لاستعادة كرامتها وصون شرفها.
    تذكرنا ("تشو تشو سان") "بترفلاي" بالمفاهيم التقليدية الصارمة للتأكيد على الأفكار الخاطئة المتأصلة منذ القدم حول الشرق مع إتاحة الفرصة لأفراد الجمهور للتفكر في حياتهم الواقعيّة وواقعهم الاجتماعي والسياسي. ولأنّها ضحيّة يائسة للظلم الاجتماعي والسياسي، تجد "بترفلاي" نفسها مكبلة بواقع ظالم؛ فقد تخلّت عن أسرتها وثقافتها وعقيدتها وتقف وحيدة في وجه الطبيعة المفترسة للعسكري ألامريكي التوسعي وشهواته.
    يمثل "جورو"، وسيط الزواج، المنظومة الاجتماعية الظالمة في الشرق التي تهدد النسق الدنيوي للممارسات الغربية. كشخصية "الكاهن الأكبر" في أوبرا "عايدة" لفيردي، تكمن قوة "جورو" في التحالف الوثيق بين السلطة الدينية والمنظومة السياسية في الشرق الأقصى، ويعكس عنصر الازدراء الغربي للتقاليد الشرقية القديمة.
    تعمل موسيقى بوتشيني على تعزيز المواجهة بين الشرق والغرب من خلال تطعيم العمل الموسيقي بالمشاعر الوطنية للنشيدين الوطنيين الأمريكي والياباني ومن خلال تطويع الألحان الفولكلورية اليابانية في قالب أوبرالي غربي وتصادمي للعالم الغربي. أثرت هذه الاستراتيجيّات على موسيقى بوتشيني وجعلت أوبرا "مدام بترفلاي" واحدة من أكثر الأوبرات التراجيدية عاطفة ونبضاً بالحياة في التاريخ.
    تتجسد المواجهة بين الشرق والغرب في المشهد الأول عندما تلتقي "تشو تشو سان" بعريسها الأمريكي الملازم أول "بينكرتون" لأوّل مرة. تبدي "بترفلاي" تخوّفها من معاملة الغرب للفراشات وتقول: "سمعت أنّه في الغرب، إذا وقعت الفراشة في يد رجل، يتم طعنها بدبوس وتعليقها على الجدار." فيسارع "بينكرتون" بتبديد مخاوفها لكنّه يؤكد الحقيقة المظلمة كدليل على الحب حتى "يمنعها" من الطيران بعيداً عنه. بعدها بوقت قصير، يعزز "بينكرتون" الاتجاهات الغربية عندما يخاطب "بترفلاي" قائلاَ: "أمسكت بك... أنت الآن ملكي." لقد وقعت الفراشة البائسة في الفخ وسرعان ما سيتم طعنها وتثبيتها على جدار الهجر والخيانة والعار.
    يمكن رؤية مدى ضلال وانخداع "بترفلاي" في أغنيتها "يوم واحد جميل"، وفيها تظهر كطفلة بريئة يصاحب خجلها صوت عزف منفرد للكمان والقيثارة والكلارينت لتجسيد وحدتها وضعفها. لا تقدم الآلات تآلفات هارمونية بل تصاحب الأنغام مع إشارات لهويتها اليابانية عبر استخدام السلم الموسيقي الخماسي الخاص بالشرق الأقصى.
    تقوم توجهات الأفضلية والاستعلاء بتهدئة الجمهور الغربي بشأن اضمحلال الشرق الأقصى، ولا سيما اليابان مع بداية القرن الجديد، ذلك القرن الذي شهد مواجهات دموية أدت إلى نتائج كارثية في عام 1945 بتدمير هيروشيما وناجازاكي واستسلام اليابان في الحرب العالمية الثانية. تتلخص مغامرة "بينكرتون" التوسعية في أغنيته "جميع أنحاء العالم"، المستمدة من السلسلة الافتتاحية للنشيد الوطني الأمريكي (التي استُخدمت لاحقاً كموتيف لحني متكرر). يبرز "بينكرتون" شخصيته كعسكري أمريكي يجوب العالم بحثاً عن المتعة واللهو دون مراعاة لمشاعر وآلام الآخرين من حوله. حاجاته مبررة والعهود التي قطعها لفتاة "الجيشا" اليابانية زائفة حيث يرنو إلى اليوم الذي يعود فيه إلى بلاده ويستقر مع "زوجة أمريكية حقيقية".
    توجهنا الافتتاحية الموسيقية على الفور إلى مرفأ مدينة ناجازاكي في اليابان. نرقب وسيط الزواج "جورو" متحمساً ومنفعلاً وسعيداً لعرض كل ركن من أركان منزله الجديد وخدمه وعروسه على الملازم الأول الأمريكي "بينكرتون". يتيح دخول القنصل الأمريكي في ناجازاكي "شاربليس" فرصة أكبر لفهم شخصية "بينكرتون"، الذي يفضي إلى "شاربليس" بنواياه؛ الزواج من شابة على الطريقة اليابانية على أساس "مؤقت" حتى موعد عودته إلى أمريكا. ثم يشرح حكمته "الأمريكية" في العيش من أجل المتعة في كل مرفأ تطأه قدماه لكن "شاربليس"، وكشخص دبلوماسي، لا يعجبه ذلك ويحاول تحذير "بينكرتون" من عواقب مغامرته الساذجة، لكن العسكري المتهور لا يعير كلامه أي اهتمام.
    تضيف الألحان اليابانية عناصر جديدة وتزيد شعور الواقعية في الأوبرا. مع اقتراب "بترفلاي"، نستمع إلى أول لحن فلكلوري ياباني ضمن مجموعة كبيرة. فنبدأ بـ "أسد إشيجو" وهي رقصة من مسرح الكابوكي تعتمد على السلم الخماسي الياباني.
    يزداد المشهد درامية حينما تخبرنا "تشو تشو سان" عن ماضيها. فنعرف عن نبل أصلها ونتعرف على الظروف المأساوية التي أجبرتها على كسب قوتها من العمل كفتاة "جيشا." كما تخبرنا بالقصة التراجيدية لوفاة والدها الذي انتحر ليحافظ على شرفه، في تمهيد للحدث المأساوي الذي سيصيب البطلة نفسها. يحدث هذا على خلفية من الألحان اليابانية الأصلية المستوحاة من "أغنية الربيع" اليابانية.
    يتم تقديم المفوض الياباني بمصاحبة عزف للنشيد الوطني الياباني بتناغم غربي. أثناء عرض "بترفلاي" لممتلكاتها، يقحم بوتشيني في عرضها أغنية فلكلورية أصلية بعنوان "زهرة الكرز"، حيث تعلق الأوركسترا على حديثها. وتختتم مشهدها بإخبار "بينكرتون" حول زيارتها السرية للكنيسة المسيحية لاعتناق عقيدتها الجديدة.
    يخلوا المسرح ويجد "بترفلاي" و"بينكرتون" نفسهما وحدهما، ينشدان أغنية الحب الثنائية وهي واحدة من أشهر الأغنيات الثنائية والأطول بين كل ما كتب بوتشيني. تتألف الثنائية من عدة مقاطع غنائية، تبلغ ذروتها في المقطع الأخير مع عزف لحن "بترفلاي" الأساسي المرتبط بظهورها. أما المقطع الأوسط "طفلة عينيها مليئتان بالسحر" فيؤديه "بينكرتون" الذي يؤكد بحرارة لـ "بترفلاي" أنّ "الحب يجلب الحياة وليس الموت" في حين يتحد صوتيهما في وحدة تبلغ الذروة. ومع هدوء الليل تنزل السكينة على قلب "بترفلاي" وتتلاشى مخاوفها- مؤقتا- حيث يتوجه الثنائي صوب المنزل معلنين انتهاء الفصل الأول.
    تدور أحداث الفصل الثاني داخل منزل "بترفلاي" بعد مرور ثلاث سنوات على زواجها. تقدم الافتتاحية الموسيقية المختصرة الكئيبة صورة مناقضة تماماً للافتتاحية المزدحمة في الفصل الأول. تعكس المدونة النحيلة والرنين الصوتي الهادئ وحدة "بترفلاي" واشتياقها وعذابها فقد نبذها "بينكرتون" لكنها لم تفقد يوماً الأمل في عودته بينما تقدم "سوزوكي" الصلوات للآلهة.
    يحاول "شاربليس" من خلال حواره مع "بترفلاي" أن يلمح إلى فكرة أن "بينكرتون" لن يعود وينصحها بقبول عرض للأمير "يامادوري" بالزواج لكنّها ترفض الفكرة.
    تلخص مقطوعة "الكورس الهامس" الشهيرة يقظة "بترفلاي" أثناء الليل. القطعة هادئة ووقورة مع توزيع أوركسترالي ضئيل. تظل "بترفلاي" مملوءة بالأمل المضلل وتتوقع الجوقة المهمهمة النهاية المأساوية مع إسدال الستار في ظلام تام. ولإبراز شدة وحدة "بترفلاي"، يستخدم بوتشيني نغمات طويلة ترمز لطول الليل في نسيج ضئيل لعزل الشخصية عن العالم من حولها. ينجح المؤلف في تصوير ساعات الانتظار الطويلة، مما يضخم حجم آلام "بترفلاي" وحتمية نهايتها المأساوية التي تعزز بدورها فكرة الشرق الجامد وغير قابل على التغيير وكمكان بدائي يسير وفقاً للطقوس والممارسات القديمة. بالفعل تظهر الطقوس بقوة في الأوبرا عندما تبدأ "بترفلاي" حياتها بزواج "معقود" عبر وسيط، وزفاف تقليدي، وصلوات خدمها، وانتحارها الياباني.
    عندما تصل سفينة "بينكرتون" برفقة زوجته الأمريكية تضطر "بترفلاي" إلى تسليم ابنها إذا حضر "بينكرتون" للمطالبة به. خلف الستار، تقوم "بترفلاي" بطقوس الانتحار بنفس الخنجر الذي انتحر به والدها بمصاحبة آلة التيمباني وطبل الباص والناقوس. إنه ملاذها الوحيد لاسترجاع شرفها. ومن خلف الستار يُسمع صوت "بينكرتون" وهو يصرخ منادياً اسمها "بترفلاي!"
    *****
    إن استعراض أوبرا "مدام بترفلاي" لبوتشيني من منظور الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي بين الشرق الأقصى والغرب في مطلع القرن العشرين يثري فهمنا للأوبرا، ويأخذنا إلى قضايا أكبر من مجرد قصة الحب البسيطة التي تنتهي نهاية مشؤومة. بل نجد أمامنا قضايا محورية تتعلق بالاستشراق والصدام الاجتماعي والسياسي والديني بين حضارتين متنافستين.
    تتمتع "بترفلاي" - ضحية الخداع والمعاناة والتضليل- بشخصية مذهلة ومعقدة تضم أكثر مما يظهر. فبالرغم من تعرضها لنفس مصير "مانون" و"ميمي" و"ليو" من أوبرات بوتشيني ("مانون" بسبب الجوع، و"ميمي" بسبب السل، و"ليو" بسبب الانتحار)، تعكس "بترفلاي" تطوراً نفسياً مدهشاً أثناء نضوجها من شخصية الطفلة الساذجة في المشهد الأول إلى شخصية الأم المضحية الناضجة في النهاية. قد يزعم البعض، وهم محقون أنّها صورة غرائبية تعبر عن التصور الغربي للنساء الشرقيات السلبيات، لكنها اتخذت قرار الموت بكامل إرادتها. كانت أمامها خيارات أخرى، بما في ذلك العودة إلى مهنتها السابقة والزواج بأمير، لكنها حبذت اختيار نفس مصير والدها. عززت "بترفلاي" تمسك الشرق بالأفكار التقليدية الخاصة بدورة الحياة، وحتمية المصير، وأهمية الشرف في القيم الآسيوية.
    موسيقى أوبرا "مدام بترفلاي" لبوتشيني تعد واحدة من أغنى المؤلفات الأوبرالية التي تجمع بين الشرق والغرب في هارمونية مدهشة تعكس الصراع بين الحضارتين ولكنّها في نفس الوقت تمنح الأمل والتجديد للموسيقى الأوروبية بسحر الشرق ونغماته العذبة وقيمه النبيلة.


    أكثر...
يعمل...
X