الرؤية - أحمد الجهوري
تصوير – راشد الكندي
في احتفالية رائعة أقيمت بقاعة الجمعية العمانية للفنون التشكيلية، سلَّمت مبادرة "القراءة نور وبصيرة" الأديب عبدالله حبيب جائزة الإنجاز الثقافي البارز في السلطنة لعام 2011، ويأتي تكريمه لاجتهاده بتنشيط الحركة الثقافية بالسلطنة، وعمله المتواصل في الجوانب الثقافية والمحلية والحوارية في ذلك العام؛ حيث اختارت لجنة تحكيم جائزة الإنجاز الثقافي البارز، عبدالله حبيب، والذي عرف شاعرًا وقاصًّا وناقدًا وسينمائيًّا ومترجمًا، واعتبرت جميع ذلك أسبابًا كافية لينال تلك الجائزة لنشاطه ودأبه الثقافي الملحوظ خلال العام 2011.
وحملت الأمسية العديد من الفقرات التي أدارها الكاتب والإعلامي سليمان المعمري، وكانت البداية بكلمة مبادرة "نور وبصيرة" تحت عنوان "لماذا عبدالله حبيب؟"، ألقاها الكاتب سعيد الهاشمي؛ وقال فيها: لأن مبادرة "القراءة نور وبصيرة" هي مبادرة مدنية ترنو إلى تأصيل فعل القراءة وثقافة الحوار الحرِّ؛ من خلال التواصل بين الأفكار واحترام اختلافها، وخلق جسر من التثاقف الحضاري بين التجارب الإنسانية المتنوعة".
ولأن عبدالله حبيب هو المثال الأبرز بين مثقفينا المعاصرين الذين نرى بأنهم يساهمون بصدق في رؤيتنا التي حددناها من أجل "حوار متمدنٍ، واعٍ، حرٍّ، ومسؤول". فإن هذا الاختيار لا يمكن إلا أن يكون واجباً مستحقاً.
.... إن جائزة الإنجاز الثقافي البارز للعام 2011 عندما اختارت عبدالله حبيب، إنما أصابت إنساناً مبدعاً كرّس حياته لوطن حر مستنير، اشتغل بدأب وتؤدة وصبر على مشروعه التنويري، الذي يؤصل لثقافة الحوار المتمدن في المجتمع ليكون سلوكاً إنسانياً راسخاً. كما عزز جهد عبدالله حبيب المبثوث طوال العقود الثلاثة الماضية البعد المعرفي العميق والنضال الفكري المشرق من أجل احترام الإبداع الإنساني المختلف والمتنوع ذي القيمة المضافة العالية. كل ذلك من أجل ثقافة الحب والخير والجمال،الاحتفاء بكل هذه الكثافة الإبداعية التي يمثلها عبدالله حبيب شرفٌ لمبادرة القراءة نور وبصيرة.
ثم تم عرض فيلم وثائقي قصير بعنوان "ليس من زماننا عبدالله حبيب" من إخراج الفنان محمد بن زايد الحبسي، ومن بعده تم تكريم وتسليم الجائزة لعبدالله حبيب، الذي قال: كيف لي أن أدعي أنني بينكم في هذه الليلة، وأنا ليس لدي حتى جناح واحد كي أرعف بالريش، وكي يعفيني الريش من واجبات السماء؟ كيف للنكال أن يكون مضاعفاً مع الأحباب أكثر مما هو مألوف في غريزة الأعداء؟ كيف لي أن أتعرض لقسوة الحب مرة أخرى كما لو كنت في حاجة إلى قبلة أخرى، وشفتين متشققتين ترافقاني وتَرْتُقاني في الأخاديد حتى مقتل كافة الخنادق؟ كيف لي أن أتظاهر بالنعاس أمام بحر لا ينام، وكم أحسد ماياكوفسكي كثيراً لأنه تمكن بعبقرية حمقاء من إسكان غيمة في بنطاله، ثم انتحر، لأنه كان يخاف؟ كيف للبحر أن يدعي أنني لا أراه في موجة صغيرة فيها المرايا التي أغرقت كل حياتي في ماء صغير؟ كيف للموجة أن تتخلَّق ورقة في تعوب الكحالي الذي مات وهو يحبني، ويتذكرني، وينتظر عودتي من الدراسة في الولايات المتحدة؟ "يوم عبدالله بخير، أنا بخير"، كان يقول في احتضاره. وليس من حقي ولا من طبعي أن أتهرب من الزرقة.
كيف للحلاج أن يرتضي الجُبَّة والنار معاً؟ كيف لهم أن يشوهوا وجه بازوليني بأن يسحقوه سحقاً تحت عجلات سيارة جيئة وذهاباً فور أن أنجز فيلمه الخالد "سالو" الذي فضح فيه الفضيحة نفسها؟ كيف لي أن أذوب في الوطن من غير أن أريد أي بلاد، ولا أرغب في أي أرض؟ كيف لي أن أعجز عن أرغفة "رخال" مخلوطة بالبيض تستيقظ أمي في حوالي الرابعة صباحاً لخبزها لغيري ولي، مصحوبة بشاي الحليب بالزنجبيل، قبل الذهاب في السيارة العرجاء الوحيدة المتاحة عهدذاك إلى مدرسة يعرب بن بلعرب ومدرسة خديجة الكبرى في صحم. ونعود إلى القرية عند العصر ببطون أكثر جوعاً من بطون الأموات كي نهرع للعمل في المزارع أو البحر، وفي الليل لنا موعد مع التثاؤب والمذاكرة على ضوء وأدخنة فوانيس الكاز؟ كيف لي أن أغفر لأمي إصرارها على أن كل أولاد وبنات مجز الصغرى يجب أن يغادروا الكتاتيب فوراً، وأن يلتحقوا بالتعليم في المدارس الحديثة (أو "العصرية" كما كانت تقول)؟
وقدَّم بعدها الشاعر البحريني قاسم حداد كلمته، وتلاها عنه الشاعر سماء عيسى، وقال فيها: ثمة مسافة يصعب علاجها، عندما يتعلق الأمر بالأمل، عبدالله حبيب يقترح تجربته على واقعه، بوصفه جزءاً من الأمل. وكنت سأشعر بقدر أحتاهُ من توازن العواطف لو أنني تمكنت من الحضور شخصياً في هذا الحفل، لكي أقول للأصدقاء الذين يحاولون تبريد أوجاع عبدالله حبيب التي ورث شيئاً منها من تراثنا الحديث، وزاد عليها مما يسبغه علينا وضع العرب الراهن، غير أنها محاولة ربما سنفشل فيها جميعاً، لأنها لا تقل استحالة من تثليج الشمس، أيها الأصدقاء في هذا الحفل وحوله، تمنيت أن أكون معكم هذه المرة لاستعادة تأمل تاريخ شخصي سبق لكم جميعاً أن منحتموني فرصة أولى منذ سنوات لكي أستحضره في عمان التي أحب. وكي، هذه المرة خصوصاً، أعبر عن محبتي الخالصة لهذا الصديق الذي يبتكر جماليات التمرد على أبوّتي، ويحسن صقل الجذوة الغامضة في موهبة الصداقة.
وبعدها بالتوالي، قدَّم كل من الدبلوماسي والبرلماني السابق عبدالرحمن بن حسن الشامسي مؤسس مجلة الرافد الثقافية، والأديب والناقد البحريني حسن مدن، والسينمائي الإماراتي مسعود أمر الله رئيس مهرجان الخليج السينمائي، والشاعر العماني صالح العامري، شهاداتهم في الأديب عبدالله حبيب.
وقبل الختام، تم الإعلان عن الفائز الجديد بجائزة الإنجاز الثقافي البارز لعام 2012.
وجاء في ختام الاحتفالية توقيع عبدالله حبيب لكتاب "ليس من زماننا.. عبدالله حبيب"، والذي أصدرته مبادرة "القراءة نور وبصيرة"، مؤخرًا، عن دار الانتشار العربي ببيروت، وتضمن شهادات من شعراء وأدباء وسينمائيين ومثقفين عرب وأجانب عن عبدالله حبيب مثقفا وإنسانا.
أكثر...