بيروت- فانا
صرخة غضب أطلقتها الهيئات الاقتصادية في لبنان من "البيال" في يونيو الماضي، مع استمرار التباطؤ الاقتصادي والتراجع في مختلف المؤشرات الاقتصادية، حتى إنّ نسبة النمو المتوقعة بنحو 2 في المئة- حسب تقديرات المسؤولين الماليين والخبراء والمؤسسات المحلية والدولية- لن ترسو على هذا الرقم بسبب عدم نجاح الموسم السياحي في الصيف في استقطاب السياح والمصطافين الذين يشكل إنفاقهم السياحي ارتفاعا في نسبة النمو.
وعبثا يحاول رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق عدنان القصار لملمة ما تبقى من هذا الاقتصاد، رافضا "أخذ البلاد والاقتصاد رهينة المغامرات وإدخالنا إلى عالم المجهول"، ومطالبا بـ"تشكيل حكومة تتحمل مسؤولياتها، خصوصا وأن أهل الاقتصاد قادرون على استدراك التراجع الحاصل في ما لو استقرت الأمور وتوفرت الأجواء السياسية المناسبة"، معتبرا أن تشكيل مثل هذه الحكومة يمكن أن تعيد تعبئة الفراغ الذي يشل كل مرافق الدولة وتنعش الاقتصاد وتعيد إليه الدور الذي كان يلعبه في السابق. فكل المؤشرات الاقتصادية جاءت سلبية في العام 2013 باستثناء القطاع المصرفي الذي سجل نموا تجاوز الـ8 في المئة، واستمرت التوقعات المالية الدائرة ضمن إطار التفاعل بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر وانتعاش الحركة في مرفأ بيروت.
وحده الاستقرار الأمني السياسي ينعش الاقتصاد والقطاعات الاقتصادية المختلفة، وإذا كانت هذه المقولة صحيحة، فإن لبنان يكون قد فوت فرصًا ذهبية عدة آخرها تداعيات "الربيع العربي" التي أتت سلبية بعد ان كان متوقعا لها أن تكون إيجابية، خصوصا في ما يتعلق بالنازحين السوريين الذين باتوا يشكلون ثلث عدد اللبنانيين المقيمين، وما يشكل هذا الوجود من بعد اقتصادي واجتماعي إلى جانب بعده الإنساني بات يهدد معيشة اللبنانيين، خصوصًا بالنسبة لسوق العمل أو بالنسبة لما يشكله النازحون من وجود على صعيد حاجاتهم إلى الكهرباء والمياه والنقل والتعليم والاستفشاء وغيرها التي باتت تشكل عبئا على حكومة تقوم اليوم بتصريف الأعمال ولو بالحد الأدنى من المتطلبات الضرورية.
هذا المشهد الاقتصادي يكرس لبنان في اتجاه انحداري في ظل الغيبوبة السياسية المرتجاة. النمو كان في العام 2010 8 في المئة وتراجع الى 1,5 في المئة على الرغم من ان صندوق النقد الدولي توقع ان تكون النسبة 2 في المئة عام 2013.
ففي القطاع السياحي، تراجع عدد السياح بنسبة 12 في المئة في النصف الأول من العام الحالي عن الفترة ذاتها من العام الماضي في ظل قرار خليجي بمنع الرعايا الخليجين من المجيء إلى لبنان والذين يشكلون ثلث عدد السياح الذين كانوا يفدون إلى لبنان، وفي ظل تراجع عدد السياح الآخرين بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني، كما أنّ الإنفاق السياحي تراجع من 8 مليارات دولار في العام 2010 إلى حدود الـ4 مليارات دولار متوقعة هذا العام، وفي ظل تراجع عدد اللبنانيين المنتشرين في العالم من المجيء إلى وطن الآباء والأجداد للأسباب عينها وآخرها خطف الطيارين التركيين وانعكاس ذلك على قطاع السياحة وعلى مطار رفيق الحريري الدولي المتنفس الوحيد والنافذة الوحيدة على العالم الخارجي في ظل الاضطرابات السورية.
نقيب أصحاب الفنادق ورئيس اتحاد المؤسسات السياحية بيار الاشقر أكّد أن القطاع الفندقي تراجعت مداخليه بنسبة 54 في المئة مقارنة بالعام 2009 و2010 على الرغم من الحسومات التي قدمتها الفنادق والتي ناهزت الـ 30 في المئة. وفي ظل الأوضاع التي تمر بها سوريا أصبح السوريون يعتمدون مطار رفيق الحريري الدولي للسفر إلى الخارج مما انعكس نموا على حركة قطع تذاكر السفر بنحو 17 في المئة، وهذا ما أدى إلى نمو في حركة الركاب في المطار بنسبة 7 في المئة بإضافة العراقيين الذين بات البعض منهم يعتمد المطار وقطع تذاكر السفر من لبنان.
إذن القطاع السياحي الذي كان يعول عليه لبنان كثيرًا أصبح بحاجة إلى من ينقذه في ظل ارتفاع صرخة أهل القطاع ومطالبة الدولة بمساعدتهم، كما طالب رئيس نقابة المجمعات البحرية السياحية جان بيروتي رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بدعوة اللجنة العليا للسياحة إلى اجتماع استثنائي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل خراب القطاع. أمّا بالنسبة للقطاعين الزراعي والصناعي، فقد واصلت التطورات الإقليمية التأثير عليهما كما على قطاعات اقتصادية أخرى. فارتفعت الصادرات الصناعيّة بنسبة 13,5 في المئة عن الفترة ذاتها من العام الماضي وقد احتلت الصادرات المعدنية المرتبة الأولى في قائمة الصادرات، وقد تمّ إدخال مادة المازوت ضمن هذه الصادرات المعدنية إلى سوريا بعد أن كانت هذه الأخيرة تصدر هذه المادة إلى لبنان إبّان الهدوء، وشكلت الدول العربية السوق الرئيسية للصادرات اللبنانية وتصدرت سوريا المرتبة الأولى بعد أن كانت السعودية هي المستورد الأول للبنان. ومرد ارتفاع الصادرات الصناعية يعود إلى أنّ القطاع الصناعي تمكن من التصدير بحرًا ولو بكلفة أعلى من التصدير البري الذي تعرض لانتكاسات عدة بسبب التطورات الأمنية التي تحصل داخل سوريا. وفي هذا الاطار حافظ الميزان التجاري الصناعي على مستواه المسجل في النصف الأول من العام 2012، إثر تراجع عجزه من 7,9 مليارات دولار في النصف الأول من العام 2012 الى 7,5 مليارات دولار في الفترة ذاتها من العام الماضي.
أمّا بالنسبة للقطاع الزراعي، فإنّ ما يسرد على القطاع الصناعي يسرد عليه أيضا. فقد نمت صادراته بنسبة 34,4% وكانت حصة السوق الرئيسية منها كبيرة كون المنتجات اللبنانية تقوم بالتعويض عن النقص الحاصل في السوق الرئيسية.
وفي القطاع العقاري، فإنّه يعيش في حالة ترقب وتريث وتباطؤ بسبب تراجع في الطلب حيث يتم التركيز على الشقق الصغيرة الحجم على الرغم من إجراءات مصرف لبنان التي ساهمت في ضخ السيولة في الأسواق والحفاظ على استقرار هذا القطاع وتأمين مساكن للطبقة الميسورة والمتوسطة الدخل، في ظل ابتعاد المستثمر العربي وتريث المستثمر المغترب وإحجام المستثمر المقيم بسبب ضعف إمكانياته. أما أسعار العقارات فإنّها تراجعت بالنسبة للشقق الكبيرة وبقيت على أسعارها بنسبة للشقق الصغيرة، وقد تراجعت قيمة المبيعات العقارية 8,1 في المئة مقارنة مع السنة الماضية، كما تراجعت حركة المبيعات للأجانب حوالي 8,6 في المئة.
أمّا في القطاع التجاري فصرخة رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس ما تزال مدوية في آذان المسؤولين والمواطنين مع اتجاه بعض المحلات التجارية إلى الإفلاس أو الإقفال، معلنا أنّ الوضع الاقتصادي متجه نحو الانحدار والتراجع، مؤكدا أنّ هناك تجار خسروا وكالاتهم لأنهم غير قادرين على دفع المستحقات أو لانهم غير قادرين على دفع ضريبة الدخل أو الضريبة على القيمة المضافة.
غير أنّ القطاع المصرفي، لا يزال يتمتع بالثقة المحلية والاقليمية وحتى الدولية بسبب الإدارة الحذرة وتعاليم السلطات النقدية والملاءة المالية والسيولة المرتفعة، وهذا ما أدى إلى نموه بنسبة 8 في المئة؛ حيث وصلت موجوداته إلى 157,9 مليار دولار، ووصلت ودائعه إلى 131,9 مليار دولار في يونيو الماضي. ثم إنّ حجم الودائع الإضافيّة والبالغة 6,3 مليارات دولار جاء أكبر نسبيًا من نمو الودائع في الفترة ذاتها في العام الماضي مما يعكس قدرة المصارف اللبنانية على اجتذاب أموال المقيمين وغير المقيمين حتى في الأوقات الصعبة. ويواجه هذا القطاع تحديات كثيرة تمكن من تجاوزها منها وجوده في المناطق التي تتعرض لاضطرابات أمنية، والتحذيرات الدولية والعقوبات ضد سوريا ومكافحة تبييض الأموال، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي يؤثر سلبًا على حركة التسليفات والاستثمارات في البلد. وانخفضت قيمة الأسهم المتداولة في بورصة بيروت بنسبة 37 في المئة خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي وقد بلغت الرسملة السوقية للبورصة 10,56 مليارات دولار في نهاية شهر يوليو من العام الحالي مقابل 10,24 مليارات في شهر يونيو وحوالي 10,25 مليارات دولار في نهاية يوليو من العام 2012.
وعلى صعيد تراكمي، انخفضت قيمة الاسهم المتداولة من 291,54 مليون دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الماضي إلى حوالي 184,70 مليون دولار في الفترة ذاتها من العام الحالي. في المقابل بلغ الاحتياطي من العملات الأجنبية في مصرف لبنان أكثر من 36 مليار دولار وهي كمية تعتبر كافية لكي يبقى مصرف لبنان اللاعب الرئيسي في سوق القطع اللبنانية وهذا ما يؤدي إلى استقرار الليرة اللبنانية.
أمّا على صعيد مرفأ بيروت فإنه ما زال يحقق الأرقام القياسية بكميات البضائع المستوردة والمصدرة وحركة الحاويات والسيارات التي يتداولها، رغم تفاقم الأزمات الداخلية والأحداث الأمنية الخطيرة في المنطقة، وقد انعكست هذه الأرقام إيجابًا على المجموع العام للواردات المصرفية.
وقد أوضح رئيس غرفة الملاحة الدولية إيلي زخور أنّ السبب المباشر لهذه النتائج يعود إلى تحول لبنان إلى محطة توريد للبضائع لتغطية الأسواق السورية بسبب العقوبات الاقتصادية الضريبية المفروضة عليها، كما أن المخاطر المحدقة بالشاحنات العابرة للأراضي السورية بسبب الأحداث الأمنية الجارية فيها، دفعت قسما كبيرًا من التجار اللبنانيين إلى تحويل مستورداتهم وصادراتهم التي كانت تتم برا من وإلى الدول العربية إلى مرفا بيروت. وأشار زخور إلى أنّ هذه الحركة الجيدة ستستمر إلى أمد غير منظور، حتى بعد عودة الأمن والاستقرار إلى سوريا. فالمرفأن السوريان، طرطوس واللاذقية لن يكونا قادرين على استيعاب ما قد تحتاجه سوريا من مواد وبضائع لإعادة إعمار مدنها ومصانعها المدمرة. وأوضح زخور أنّه في الوقت الذي تشكو فيه كافة القطاعات الاقتصادية من تراجع حركة البيع والشراء في الأسواق اللبنانية نتيجة للأوضاع في المنطقة، نرى أنّ مرفأ بيروت هو المستفيد الأول من هذه الأحداث، فالتاجر اللبناني الذي كان يستورد عددًا محدودًا من الحاويات وكميات البضائع لتغطية حاجات الأسواق اللبنانية ضاعف من حجم مستورداته لتغطية الأسواق السورية أيضًا.
ولا بد من التذكير أنّ الحركة الاقتصادية مستمرة في ظل غياب الحكومة التي تقوم بتصريف الأعمال وفي ظل الحديث عن مشروع قانون لسلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام الذي سيرتب على الخزينة اللبنانية أعباء إضافية مع عدم قدرة المواطن اللبناني على عدم إمكانيته تحمل أعباء ضرائبية جديدة وهذا ما سيؤدي إلى استمرار العجز في خزينة الدولة دون وجود أية بوادر أمل في هذا الموضوع. ويمكن الوصول إلى نتيجة أن الاقتصاد اللبناني دخل في غرفة العناية الفائقة لقطاعات اقتصادية بينما تمده قطاعات أخرى ببعض الاوكسجين كالقطاع المصرفي وقطاع النقل عبر مرفأ بيروت، وذلك نتيجة عدم الاستقرار الأمني والسياسي في لبنان وامتدادات الأزمة السورية إلى الداخل اللبناني. وبالتالي فإنّ الاقتصاد اللبناني أصبح بحاجة إلى عملية انقاذ توفر له الاستقرار، وما الدعوة التي وجهها رئيس الهيئات الاقتصادية الوزير السابق عدنان القصار إلى قيام جبهة إنقاذية تضم مختلف النقابات والاتحادات والمواطنين والمجتمع المدني من أجل تحييد الاقتصاد في السياسة تصب في هذا الاتجاه. فهل يفلح في ذلك وهل يتمكن الاقتصاد الوطني من النفاذ؟.