الرؤية- أحمد عمر
البولونيوم المشع.. إنّه الموت البطيء بعينه، لا تدركه الأبصار ولا يشعر به الجسد، لكن باستطاعة التحاليل والأبحاث العلمية أن تثبت وجوده في الجسم البشري، لكن بعد فوات الأوان.
والبولونيوم- وهو عنصر كيميائي شديد السمية- إذا ما وضع في جسد ما أخذ ينهش منه دون رحمة ولا شفقة، ولما لا وهو لا يترك خلفه أي بصمات تؤكد استخدمه.
وبتعريف بسيط لهذا العنصر الذي يرمز له بـ"Po" في الجدول الدوري، فإنّه يحمل 84 ذرة، وهو من أشباه الفلزات، وله نشاط إشعاعي نادر، وهو شبيه كيميائياً بعنصري التيلوريوم والبزموت. وهذا العنصر الخطير شديد السمية والإشعاع، يفتك بالإنسان إذا ما ابتلعه المرء أو دخل في ثنايا أحشائه، حيث تقوم أجسام ألفا- التي يشعها العنصر- تدمر الأنسجة الحيوية بسهولة، وما إن يدخل مجرى الدم حتى يبدأ مباشرة بتعطيل الجهاز المناعي؛ حيث يخترق نخاع العظام، ما يؤدي إلى أن يعجز الجسد البشري عن مقاومة البكتيريا المهاجمة، والتي تبدأ في أكله من الداخل إلى الخارج، ويقوم البولونيوم بمهاجمه الحمض النووي، كما يوقف الأعضاء الداخلية، فضلاً عن أن جرعة كبيرة منه، قد تفضي إلى الهلاك في 24 ساعة فقط.
ومن أشهر الحالات التي قضت بفعل التعرض لكميات من هذا العنصر السام، الجاسوس الروسي الراحل ألكساندر ليتفينينكو، وهو عميل سابق لدى الاستخبارات الروسية في مجال مكافحة الجرائم المنظمة. وتثار اتهامات للمخابرات الروسية بأنها من قتله انتقامًا منه بعدما توقف عن التعاون معها، وأخذ يكشف يومًا بعد الآخر عن فضائح غير قانونية تتعلق بأثرياء روس وتسريب معلومات استخباراتية. ومن أبرز ما نقل عن الجاسوس الروسي أنه قال في كتاب "تفجير روسيا"، إن موسكو نفذت عمليات تفجير في أنحاء روسيا لتحريض الشعب على الحرب على الأقليات المسلمة عبر إلصاق التهم بالمتمردين الشيشان.
غير أن الشخصية الأشهر والأكثر جدلاً على الإطلاق التي يشتبه في اغتيالها بالبولونيوم المشع، هو الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والذي وافته المنية في نوفمبر 2004.
وقد كشف باحثون في سويسرا عن وجود بولونيوم مشع في رفات عرفات، حيث من المرجح أن يكون تمّ استخدامه لقتل الزعيم الراحل. وعثر العلماء المكلفون بفحص عينات من رفات عرفات، على مقادير تصل إلى 18 ضعف المعدل الاعتيادي من مادة البولونيوم المشع، مما يرفع إلى 83% نسبة الاشتباه بأنه مات مسموماً بهذه المادة.
وبحسب ما نقلته قناة الجزيرة القطرية عن التقرير المنشور في 108 صفحات، وصادر عن المركز الجامعي للطب الشرعي في مدينة لوزان السويسرية، فإنّ مقادير غير طبيعية من البولونيوم وجدت في حوض عرفات وأضلاعه وفي التربة الموجودة تحت جثمانه. وتسلمت سهى عرفات أرملة أبوعمار نسخة من تقرير الخبراء السويسريين في باريس منتصف الأسبوع، من محاميها سعد جبار بحضور عالم الطب الشرعي البريطاني ديفد باركلي الذي تولى شرح مضمونه. وقال باركلي إنّ تلك النتائج تؤكد أن عرفات مات مقتولاً عبر تسميمه بالبولونيوم. وأضاف أن "ما تم العثور عليه هو البندقية التي قتلته والدخان يتصاعد منها.. ما لا نعرفه حتى الآن من كان ممسكاً بها وقت حصول الجريمة".
وأشار التقرير الذي أعدته قناة الجزيرة- واطلعت "الرؤية" على نسخة منه- إلى أنه بعد تسليم نتائج التقرير، فإنّ الخبير البريطاني أكد أن "كافة النتائج أشارت إلى أن البولونيوم الذي عثر عليه في (رفات) عرفات كان أعلى من كل حالات التسمم السابقة " بهذه المادة, مما يعني حسبه "أننا أمام ما يمكن أن يكون اغتيالا". ومضى باركلي قائلاً إن البولونيوم المعروف بأن عمره ينخفض بمعدل النصف كل ستة أشهر "انخفض ليتساوى مع الرصاص" في رفات عرفات، وقال إنه بإمكان التحقيق البحث الآن في "من كان له الدافع وأتيحت له الفرصة" لقتل الزعيم الفلسطيني.
وبحسب تصريحات أرملة الراحل، فإنّ نتائج الفحص السويسري تظهر أن الزعيم الفلسطيني مات مقتولاً، وأن جريمة ارتكبت.
وكان علماء سويسريون وفرنسيون وروس قد حصلوا في نوفمبر 2012 على عينات استخرجت من رفات عرفات بعد نبش قبره في رام الله. وأصيب عرفات بمرض غامض يوم 12 أكتوبر 2004 أثناء حصار مقر المقاطعة برام الله من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على خلفية أحداث الانتفاضة الفلسطينية. وظهرت على عرفات أعراض غثيان يصحبه قيء وآلام بطن شخّصها طبييه حينها بأنفلونزا أصيب بها قبل مدة. لكن حالة عرفات استمرت في التدهور ولم ينجح في إيقافه أطباء مصريون وتونسيون، مما استدعى نقله يوم 29 أكتوبر إلى مستشفى بيرسي العسكري في باريس. وأخفق الأطباء الفرنسيون في تشخيص حالته، فدخل في غيبوبة ما لبث أن توفي بعدها يوم 11 نوفمبر من العام نفسه عن 75 عامًا. ولم يخضع عرفات بعد وفاته في فرنسا للتشريح أو يتحدد سبب وفاته أو يكشف عن سجله الطبي، وهو ما أثار الاشتباه في أوساط الفلسطينيين بأنه مات مسمومًا.
في المقابل، قالت حكومة الاحتلال الإسرائيلي إنها لم تسمم عرفات، وقال سيلفان شالوم وزير الطاقة الذي شغل عام 2004 منصب وزير الخارجية وكان عضواً في الحكومة الإسرائيلية المصغرة المعنية بشؤون الأمن لراديو إسرائيل "لم نتخذ قط قرارا بإيذائه بدنيا". وأضاف "في رأيي.. هذه زوبعة في فنجان. وحتى لو كان (سمم) فلم تكن إسرائيل بالقطع. ربما كان هناك أحد في الداخل لديه أفكار أو مصلحة في ذلك".