الرؤية - مركز البحوث
مُستقبل الديمقراطية الاجتماعية فى الولايات المتحدة، وهل تتحول أمريكا من الرأسمالية المتوحشة إلى الرأسمالية الاجتماعية؟.. تساؤلٌ طرحته مجلة "فورين آفيرز" (الشؤون الخارجية) الأمريكية، فى عددها الأخير.. موضحة الاختلافات الجوهرية بين الليبراليين والمحافظين تجاه التوجه الأمريكى فى المستقبل.
وأشارت المجلة إلى أنه منذ أن وقع الرئيس بارك أوباما فى مارس 2010، قانون الرعاية الصحية الجديدة، والذى أصبح معروفا باسم"أوباما كير"، تلامس هذا القانون مع لب وصميم السياسة العامة، بل والنظام الامريكى ككل، وهو ما جعل نشطاء حزب الشاي "بارتي تي" وحلفاءهم في الحزب الجمهوري، يعملون على إحباط إصدار تشريع هذا القانون، بل صوَّت مجلس النواب -الذي يُسيطر عليه الجمهوريون- أكثر من 40 مرة لصالح إلغائه أو تأجيله، بل وصل الأمر في أكتوبر الماضي، بأن سمح الكونجرس بإغلاق جزئي للحكومة الاتحادية في محاولة لمنع أو تأخير القانون، ومازال الجدل الدائر حول "أوباما كير" مستمرًا ولا علامة على انتهاء الأزمة فى أي وقت قريب.
فيما يرى الإصلاحيون الأمريكيون أن "أوباما كير" هو أهم إصلاح تشريعى لنظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة منذ أكثر من نصف قرن؛ فهو يهدف إلى زيادة قدرة الأمريكيين الذين لديهم تأمين صحي لتحسين نوعية خطط التأمين الصحي، وإبطاء نمو الإنفاق على الرعاية الصحية.
ولكن المعركة حول القانون أصبحت أكثر بكثير من الاختلاف حول سياسة الرعاية الصحية فقط، حتى أصبحت معركة حول سمات النظام الأمريكى، وهو أمر تحركه مرارة الصراع والاستقطاب الحزبي، التي تحوَّل معها التشريع لساحة المعركة الرئيسية في الحرب الدائرة بين الليبراليين والمحافظين بشأن حجم ونطاق اختصاص الحكومة الأمريكية، وهى معركة تمتد تاريخيًّا منذ فترة الكساد العظيم وسياسة (New Deal) "الصفقة الجديدة" التى أعلنها الرئيس فرانكلين لجذب البلاد من الهوة الاقتصادية فى الثلاثينيات من القرن العشرين.. وتم تطوير وزيادة الإصلاحات ضمن "الصفقة الجديدة" خلال عهدى ترومان وآيزنهاور؛ لتقفز الولايات المتحدة نحو دولة الرفاهية في عهد ليندون جونسون، الذي حمل برنامجه أجندة اجتماعية عُظمى ساهمت في توسيع المساعدة العامة للفقراء وإنشاء برامج التأمين الصحي التي تديرها الحكومة.
ولكن في العقود التالية، شهدت بعض الإضافات الإصلاحية الرئيسية، وبعض النكسات المشهودة، بما في ذلك فشل جهود إصلاح الرعاية الصحية فى عهد الرئيس بيل كلينتون عام 1994، وصولا إلى محاولة تمرير الرئيس أوباما للمشروع الجديد.
ومنطلق تشريع "أوباما كير" هو السبب وراء هذا الجدل، لأنه في جزء منه يبدو كإشارة إلى مرحلة جديدة من استعادة الدور والنشاط الحكومي فى تسيير المجتمع وتوجيهه؛ مما دفع بعض المحافظين لمعارضة التشريع، واعتباره منعطفاً حاسما، وقد يكون خطوة نحو اليسار.
الصحفى المحافظ "بيتر وينر" كتب مؤخرا في "ويكلي ستاندارد" إن قانون الرعاية بأسعار معقولة هو تحقيق لحلم طويل لليبرالية يرجع تاريخه لأكثر من نصف قرن، وإذا فشل سيكون ضربة ساحقة ليس فقط لباراك أوباما ولكن لليبرالية الأمريكية نفسها؛ لأن "أوباما كير" من جوانب عدة هو تجسيد لنموذج الليبرالية الحديثة.
ويرى الإصلاحيون أن معارضي الديمقراطية الاجتماعية على الطريقة الأمريكية يخوضون معركة خاسرة.. وأن الحجج التى تساق باعتبار أن تشريع أوباما كير يشوه النظام الأمريكى هى حجج مروعة ومبالغ فيها إلى حد كبير؛ فهذا التشريع يُمثل خطوة أخرى في رحلة طويلة وبطيئة، ولكنها ثابتة بعيدا عن الدولة الرأسمالية الليبرالية الكلاسيكية ويقترب بشكل مميز نحو النسخة الأمريكية من الديمقراطية الاجتماعية.
ونهج الديمقراطية الاجتماعية فى الولايات المتحدة أكثر تواضعا، وشبكة الأمان الاجتماعي غير مكتملة؛ نتيجة لمواقف السياسيين والتكنوقراط؛ وذلك خلافا لما حدث في شمال أوروبا؛ حيث تم سن الديمقراطية الاجتماعية عمدا وبصورة شاملة مع مرور السنوات من قبل الحركات السياسية التى وعت ضرورة ترويض الرسمالية المتوحشة بشكل أو آخر.
وأبرز ما يعيق نمو الديمقراطية الاجتماعية في الولايات المتحدة، هو قوى الضغط المهيمنة والتى ستواصل محاربتها، وهو ما سيؤدى إلى مزيد من سياسات التأمين الاجتماعي المتدرجة وغير الفاعلة والأقل عالمية، ولكنَّ المعارضين سيخوضون معركة خاسرة، ويُمكن أن يتمكنوا من إبطاء العملية أو تشويه النتيجة النهائية لها، لكنهم لن يستطيعوا إيقافها؛ وذلك بفضل مزيج من كونها مطلبًا شعبيًّا، ونتيجة الزيادة التدريجية للثروة الوطنية، وهو ما سيجعل الديمقراطية الاجتماعية هى مستقبل الولايات المتحدة.
والديمقراطية الاجتماعية نشأت في أوائل القرن العشرين كاستراتيجية لتحسين الرأسمالية وترويضها، دون أن تكون نظاما بديلا يحل محلها. واليوم أصبحت هذه السياسة هى قلب سياسات وبرامج الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية، خصوصا تلك الموجودة في بلدان الشمال الأوروبي؛ مثل: الدانمارك والسويد.
وأصبحت الديمقراطية الاجتماعية الحديثة، تُعنى التزام الحكومة لتعزيز الأمن الاقتصادي، وتوسيع الفرص، وضمان ارتفاع مستويات المعيشة للجميع، مع الحفاظ أيضًا على الحرية الاقتصادية، والمرونة الاقتصادية، وديناميكية السوق.
وعلى مدى النصف قرن المقبل، يرى الإصلاحيون أنه يجب على الحكومة الأمريكية الفيدرالية أن تقدم مجموعة من البرامج الاجتماعية التى تأتي على نحو متزايد لتشبه تلك التي تقدمها تلك البلدان الاوربية. وهذا التوقع يعني شيئا مختلفا تماما اليوم عمَّا كان يتم تداوله حول سياسات "الديمقراطية الاجتماعية" قبل جيل واحد، لقد كانت المفاهيم ضيقة، وممارسة الديمقراطية الاجتماعية يعني في الغالب الحفاظ على شبكة الأمان العامة كبيرة.
أما في العقود الأخيرة، فقد طوَّرت بلدان الشمال الأوروبي مفهوم "الديمقراطية الاجتماعية" لتضم البرامج الاجتماعية السخية مع الخدمات التي تهدف إلى زيادة فرص العمل وتعزيز الإنتاجية.. وأصبح القطاع العام والحكومة الممول لتحسين رعاية الطفل ومرحلة ما قبل المدرسة، فضلا عن العمل والتدريب وبرامج التوظيف، ومشروعات البنية الأساسية، ودعم الحكومة للقطاع الخاص كذلك مجالات البحث والتطوير.
وفي الوقت نفسه، اتخذت الحكومات الإسكندنافية نهجًا معتدلًا فى مجال التدخل من أجل تنظيم الأسواق، والحفاظ على لوائح لحماية العمال والمستهلكين، والبيئة، وتحقيق التوازن بين تلك الحماية مع النظام الذي يشجع روح المبادرة والمرونة.
وتختتم "الفورين آفيرز" مقالها بالتاكيد على أن الدروس المستفادة من المائة سنة الماضية، أن الولايات المتحدة تنمو وتصبح الأكثر ثراء، وأكثر الأمريكيين على استعداد لإنفاق المزيد للتأمين ضد المخاطر وتعزيز النزاهة وتحقيق الرفاهية والعدالة الاجتماعية. ولكنَّ التقدم في اتجاه السياسة الاجتماعية يتم بشكل متقطع وغير منتظم، لكنه سيأتى، وإذا جاء فعادة ما يستمر؛ فقوس الديمقراطية الاجتماعية مُمتد وطويل، ولكن ينحني نحو إقرار العدالة.
وصناع السياسة الأمريكيون سيدركون الفوائد من لعب دور أكبر للحكومة في متابعة الأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وارتفاع مستويات المعيشة، وسيحاول هؤلاء دفع البلاد في هذا الاتجاه تدريجيًّا.
وإذا نجحت هذه السياسات وأصبحت البرامج الاجتماعية تعمل بشكل جيد وذات شعبية كبيرة، فسيجعل هذا من الصعب على معارضي الديمقراطية الاجتماعية عرقلتها وإيقاف عجلتها، وسيكون الأثر التراكمي للزيادة الكبيرة في اتساع وسخاء البرامج الاجتماعية الحكومية، هو الضامن لنجاح البلاد فى ترويض الراسمالية المتوحشة وإضفاء طابع العدالة الاجتماعية عليها.