جبل السراة- سعيد الهنائي
إنها ليست مجرد موجة برد موسمية تهب من الشمال، لكنها ظرف مناخي قاسٍ اعتاد عليه السكان كل عام، فعلى ارتفاع نحو ثلاثة آلاف متر فوق مستوى سطح البحر، وفي صبيحة يوم شتوي قارص، اقتربت درجات الحرارة فيه لما دون الصفر، كانت قمة جبل شمس بولاية الحمراء في محافظة الداخلية على موعد مع رحلة استكشافية لمعاناة السكان هناك.. الرحلة كان هدفها المبيت في أحد المخيمات السياحية بجبل شمس في مغامرة للبحث عن الصقيع والثلوج التي قد تتساقط في مثل هذا الوقت من العام، خاصة مع المؤشرات التي أعلنتها الهيئة العامة للأرصاد الجوية عن احتمالية حدوث ذلك مع هبوب تيارات الهواء الباردة القادمة من الشمال واصطدامها بكتل السحب الكثيفة التي تلامس قمم الجبال.
ومع التنقل من قرية لأخرى في الجبال، انطلقت الرحلة وعقارب الساعة تشير الى السادسة صباحًا، والشمس لم ترسل خيوطها بعد، ومؤشر درجات الحرارة يوضح أن الحرارة لم تتجاوز الـ3 درجات مئوية.. ووسط برد قاس يلسع الأجساد، رغم الملابس الثقيلة، تنطلق السيارة ذات الدفع الرباعي تمخر هذه القمة الشاهقة الارتفاع، وكأن المشهد بطائرة تغوص في جبال من السحب والضباب يغطي النوافذ والطرقات الضيفة، فيما يحف المكان سكنية وهدوء لا مثيل لهما. سيارات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تمر من أمامنا أو تسير خلفنا، مع بدء تحرك الطلاب نحو نيل العلم والمعرفة في أقسى الظروف الحياتية.
المشهد لم يخلو من الجماليات عند هذا الحد، فالسياح الذين وفدوا الى القمة الجبلية الأعلى في الخليج، عقدوا النية في بلادهم البعيدة للمجئ إلى عمان وقمة جبل شمس تحديدًا، وها هم يجوبون المنطقة يستمتعون بجمالها الطبيعي الزاخر بإبداع الخالق، وفي هذه اللحظات بدأت آشعة الشمس تخترق السحب مشكلة لوحة فنية بديعة من صنع الخالق، وبدأ البرد ينقشع قليلاً، ليحل محله دفء ولو بسيط.
في هذه القمة الشاهقة، لا أثر للثلوج أوالصقيع خلال الرحلة، غير أن أهالي القرى المتفرقة ذكروا أن الأرض امتلأت بالصقيع في اليوم السابق للرحلة، لكنها ما لبثت أن ذابت سريعا. وفي تلك اللحظة قررنا التوجه إلى قمة جبل السراة التابع لولاية عبري بمحافظة الظاهرة، والذي يبعد نحو 15 كيلومترا في طريق ترابي عن جبل شمس، لنستكشف المكان. وكان القصد هو الاقتراب من حياة طلاب وطالبات المدرسة في مثل هذه الظروف والأجواء شديدة البرودة. وعند الوصول إلى نقطة التلاقي، رأينا الطلبة وهم يترجلون عن الحافلات التي أقلتهم من قراهم إلى محافل العلم. ورغم برودة الجو وقد اقتربت درجة الحرارة من الصفر، إلا أن الناظر في هذه الوجوه المليئة بالأمل يستطيع أن يلحظ ذلك الإصرار على الرغبة في العلم والدراسة، بل إن النشاط الحيوي كان حاضرا في مشهد طابور الصباح بالمدرسة.
وفي مدرسة جبل السراة للتعليم الأساسي للصفوف (1-10) بولاية عبري؛ استقبلنا بترحاب شديد من الهيئة الإدارية والتدريسية ومن الطلبة والطالبات في مدرسة تضم نحو 82 طالبًا وطالبة من أبناء التجمعات السكانية بالجبل؛ حيث يدرسون في ظروف استثنائية وغير عادية، وسعدنا معهم بهذه اللحظة، حيث بدأ طابور المدرسة بالتمارين الصباحية المعتادة وتحية العلم وأداء السلام السلطاني والإذاعة المدرسية التي تردد صداها بين فجاج الجبال الشاهقة. ودخلنا مع الطلبة والمعلمين إلى الصفوف الدراسية التي جرى تزويدها بأجهزة التدفئة الكهربائية التي تعمل بواسطة المولد الكهربائي؛ حيث تم مؤخرا ايصال التيار الكهربائي للمدرسة، فيما ينتظرون أن يتم ربطه بالمبنى المدرسي عما قريب، وانتقلنا من صف لآخر ونحن نقرأ في وجوه الجميع إصرارًا على إنهاء مواصلة اليوم الدراسي حتى الحصة الدراسية الأخيرة من قبل الجميع من المعلمين ومن الطلبة والطالبات.
ويقول علي الحاتمي مدير المدرسة الذي تحدث للرؤية: "يعيش أبناء هذا الجبل وخاصة في مثل هذا الوقت من العام بردا قارسا، إلا أن الجميع يقبل التحدي ويصر على التعلم ويحرص على ذلك، فالرسالة التربوية والتعليمية رسالة سامية وجهود وزارة التربية والتعليم مقدرة في توفير الاحتياجات التي تعيننا على مواجهة أعباء هذه الظروف". ويضيف: "لاحظنا خلال هذه الفترة وخاصة خلال ساعات الليل أن درجات الحرارة تنخفض إلى ما دون الصفر، وهذا يشكل تحديا وصعوبة للجميع للطالب والمعلم وحتى أيضا صعوبة في الوصول للمدرسة حيث إن سائق مركبات نقل الطلبة تواجههم صعوبة الضباب وانعدام الرؤية في بعض الأحيان".
أحد الطلبة أكد أنه حريص على التعلم وأنه يعتبر المدرسة بيته الثاني، وأنه من أجل الوطن تهون كل الظروف. وهذا ما أكدته زميلته في الصف عندما أشارت إلى أنهم يأتون منذ الساعة السابعة والنصف صباحا إلى المدرسة وأن البرد لم يكن عائقًا أمام العلم والدراسة، وأنها تشق طريقها للوصول إلى المراتب العلى ونيل الشهادة التي تمكنها من خدمة مجتمعها.
المعلمون من جانبهم عبروا عن بالغ سعادتهم بهذا اللقاء، حيث يقول حمدان البادي وهو من أبناء ولاية ينقل ويعمل في المدرسة منذ سنوات، إنه سعيد بالعمل في هذه البيئة رغم الصعوبات والتحديات وخاصة في أجواء البرد القارس في مثل هذا الوقت من العام، إلا أنهم اعتادوا على ذلك وأصبحوا جزءًا من هذا المجتمع. ويشاطره الرأي زميله فيصل الكلباني من ولاية عبري، الذي أشار إلى أن هناك صعوبات كثيرة تواجههم لأداء رسالتهم خير أداء وتبدو الأجواء الشتوية أحد أبرز التحديات، غير أن إصرار الطلبة في الإقبال على الدراسة والمدرسة يشعرهم بالسعادة ويحملهم المسؤولية، وتمنى أن يتم عما قريب البدء في بناء مشروع المدرسة، كما تمنى أن يتم رصف الطرق المؤدية لهذه المنطقة.