"الوجهاء المحليون" العنصر الفاعل في حشد الأصوات
"فلول" مبارك ترغب في استعادة النفوذ القديم لنظام المخلوع
"الحزب الوطني" اعتمد على تقديم الرعاية والخدمات للفقراء وشراء الأصوات
الريف.. كلمة السر في نجاح أي رئيس جديد لمصر
النظام الحالي يؤكد مرارا عدم العودة إلى ما قبل "25 يناير"
شبين الكوم (مصر)- رويترز
حين أطاحت الانتفاضة بالرئيس المصري حسني مبارك عام 2011 توارى أناس كأحمد سيف الذي كان يساعد في إدارة شبكة واسعة من خدمات الرعاية الاجتماعية.
وبعد ثلاث سنوات عاد سيف وأعضاء سابقون بحزب مبارك للعمل في الريف حيث يقدمون كل شيء من البرادات (الثلاجات) للمقبلين على الزواج إلى إعانات للفقراء سعياً لكسب التأييد في الانتخابات. لكن الآلة السياسية تدور هذه المرة لحشد التأييد للمشير عبد الفتاح السيسي قائد الجيش الذي عزل الإسلامي محمد مرسي - أول رئيس منتخب في انتخابات حرة- والذي يتوقع أن يكون الرئيس القادم. وتلقي عودة هؤلاء إلى الساحة شكوكا جديدة على التحول السياسي المتعثر في مصر.
ومن المتوقع فوز السيسي باكتساح إن هو رشح نفسه لكن الدعم الذي يقدمه أصحاب النفوذ والثروة المحليون يوحي بأنّه يمكن أن يرسي حكمه بنفس الطريقة التي أرسى بها مبارك حكمه.
كانت إزاحة أصحاب المال والثراء هؤلاء من الساحة السياسية أحد أهداف ثورة 2011. لكن أناساً مثل سيف الذي كان نائباً في مجلس الشعب في عهد مبارك تمنحهم أموالهم واتصالاتهم نفوذًا واسعًا في الريف حيث يعطي الناس أصواتهم عادة لمن يوفر العمل أو المال.
باب سيف دائما مفتوح للجميع في بلدته شبين الكوم بمحافظة المنوفية إلى الشمال من القاهرة.
"تفضلي اجلسي".. قالها وهو يحرك حبات مسبحته ويحتسي الشاي في قاعة الضيوف فوق مكتب شركته السياحية ذات الفروع المنتشرة في أنحاء البلاد ويستقبل رجلين كانا يطلبان مالاً لترميم مسجد. قال "أي شخص يعد نفسه لخوض انتخابات عليه أن يقدم خدمات للناس".
وفي حين يلجأ السياسيون في الغرب لشركات كبرى متخصصة في العلاقات العامة خلال حملاتهم الانتخابية يتوجّه السياسيون في مصر لأناس مثل سيف يجلسون في مكاتبهم يستمعون إلى أبناء دائرتهم ويعرضون حلولاً لمشاكلهم من خلال المساعدة بالمال.
الاعتماد على الوجهاء
ويرى المحللون أن طبيعة الحياة السياسية في مصر ترجح أن يستمر لسنوات قادمة تأثير الوجهاء المحليين على أنماط التصويت - وخصوصا في بلدات وقرى الأقاليم حيث يعيش معظم السكان- لغياب قوى يمكنها تغيير هذا الوضع فكثير من أنصار مرسي أودعوا السجون أو تواروا عن الأنظار والأحزاب الليبرالية غير قادرة على تحدي السيسي.
ولم يكن الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتزعمه مبارك وحل بعد انتفاضة 2011 حزبا أيديولوجيا وإنما كان آلة فعالة لتوزيع الرعاية والخدمات.
وربما يضطر السيسي- الذي ترفع صوره في أنحاء شبين الكوم- إلى الاعتماد في الأجل الطويل على السياسيين المحليين الذين يمكنهم تحقيق قدر من الرضا الشعبي.
ولابد للسيسي كي يحافظ على شعبيته أن يعمل في الريف ذي الأهمية الإستراتيجية.. تماما مثلما فعل مبارك.
وقال هشام هيلير الخبير المصري والزميل غير المقيم بمعهد بروكينجز "لا يمكن لأيّ حكومة أن تأمل في إرساء قاعدة تأييد سياسي جماهيري دون المناطق الريفية والسكان خارج المدن الكبرى". وأضاف "إذا اقتصر التأييد على القاهرة فلا أمل في البقاء طويلا."
توزيع الإعانات
واعتاد سيف توزيع إعانات على أبناء بلدته حتى قبل انتخابه نائباً في مجلس الشعب عام 2005. وساعدته خدماته الاجتماعية على ترسيخ وضعه كواحد ممن يصفهم طارق مسعود الأستاذ بجامعة هارفارد "بالوجهاء المحليين".
وقال مسعود إن هذا الوصف ينطبق على كل من له "قاعدة تصويت جاهزة أي لديه عدد لا يستهان به من الناس الذين سيمنحونه أصواتهم في جميع الأحوال".
وبعد الإطاحة بمبارك ابتعد سيف عن الساحة السياسية وتابع جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها مرسي وهي تهيمن على الانتخابات. لكن سيف رأى أن الوقت مناسب للعودة إلى الساحة الربيع الماضي مع تصاعد الغضب الشعبي على حكم الإخوان.
في البداية ساهم بالمال في طبع استمارات لحملة جمع توقيعات تدعو لإجراء انتخابات مبكرة.
وقال نشطاء مناهضون للإخوان لرويترز إن سيف تبرع لهم بامدادات للاحتجاجات التي بدأوها قبل 30 يونيو وهو اليوم الذي خرجت فيه مظاهرات حاشدة ضد حكم الإخوان في مختلف ربوع مصر. أقام منصة مزودة بمكبرات الصوت ونصب خياما وكان يوزع وجبات مجانية يوميا.
وبعد أيام أعلن السيسي عزل مرسي وكشف عن خارطة طريق سياسية تعد بانتخابات حرة ونزيهة. وفي حين بدأت الدولة حملة أمنية على جماعة الإخوان استعاد سيف دورا طالما قام به في عهد مبارك. وقدم عشرة آلاف وجبة خلال شهر رمضان للمواطنين المناهضين للإخوان واشترى لعبا للأطفال كما ظل على اتصال وثيق بالحكومة المؤقتة الجديدة المدعومة من الجيش.
وبعد أن حضر سيف اجتماعا في ديسمبر كانون الأول مع الرئيس المؤقت عدلي منصور بخصوص الدستور الجديد عقد سيف مؤتمرات جماهيرية لحشد التأييد للدستور كانت تذاع فيها الأغاني الوطنية ويقدم للحاضرين الطعام والشراب. وجاءت الموافقة على الدستور الشهر الماضي بنسبة 98 في المئة وتمهد هذه النتيجة السبيل أمام إعلان السيسي الترشح للرئاسة.. وهو أمر يبدي سيف استعداده لدعمه.
قال "السيسي رجل وطني. أنقذ البلد". وتحرص الحكومة على تصوير الاخوان المسلمين والموالين لمبارك على انهم اعداء للشعب.
وقال مصطفى حجازي مستشار الرئيس المؤقت عدلي منصور إنه لا عودة لممارسات ما قبل 25 يناير لأن المصريين لن يسمحوا بعودة كل من كان له دور في الوصول الى الأوضاع التي أدت إلى قيام تلك الثورة. لكن منتقدين يقولون إن استئناف عمل مثل هذه الشبكة من الدعم قد يحد من إمكانية فض التداخل بين السياسة الاقتصادية ومالية الدولة وبين النخبة السياسية الحاكمة وهو من السمات التي ميزت حكم مبارك ويقول المنتقدون إنه خنق الاقتصاد المصري.
وتقول الحكومة المؤقتة إن التأييد الكاسح للدستور يتيح الفرصة للانفصال عن الماضي. لكن عودة ظهور أشخاص تصفهم الأقلية الليبرالية بفلول نظام مبارك يوحي للمحللين بأن بإمكان السيسي أن يعول على حكم طويل الأمد بدعم من كثير من الأشخاص الذين دعموا مبارك.
وفي المنوفية محافظة سيف ومسقط رأس مبارك عبر بعض السكان الذين قابلتهم رويترز عن عدم ارتياحهم لعودة ساسة عصر مبارك.
وقالت امرأة تدعى مروة (28 عاما) إنها فقدت الأمل في السياسة منذ ثورة 2011 ولا تنوي التصويت في الانتخابات المقبلة. وأضافت "لا أرى خيرًا في عودتهم للسياسة".
لكن كثيرين آخرين ينجذبون "للفلول" مثل سيف وهم أناس يكفلون حبل النجاة الاقتصادي للحكومة في القاهرة أو على الأقل المساعدة في وقت الشدة.
نفوذ العائلات
وفي الناحية الأخرى من البلدة ثمة دليل آخر على أن سادة نظام الرعاية الاجتماعية باتوا يهيمنون مرة أخرى على السياسة المحلية.
ففي عام 2010 فاز سامر التلاوي الذي ورث مصنعا ينتج نوعا من التبغ يستخدم في النرجيلة في أنحاء مصر بمقعد في البرلمان في انتخابات اعتبرت على نطاق واسع مزورة وكانت من أسباب اندلاع ثورة 2011. وكان التلاوي انضم كزعيم شبابي إلى الفرع المحلي للحزب الوطني الديمقراطي وجعلته مكانته كسليل ثري لعائلة ذات صلات رفيعة مرشحًا طبيعيا للفوز بالمقعد.
ولعل مزرعة المواشي التي يملكها والخيول العربية التي يربيها شقيقه في اسطبلات قرب أهرام الجيزة شاهد على مدى الثراء الذي حققه أنصار مبارك. ويعمل في مصنع التلاوي نحو 2600 شخص وهو أمر يضمن له شعبية في الظروف الاقتصادية العسيرة في مصر.
وأغلقت آلاف المصانع منذ ثورة 2011 وهو ما زاد عدد العاطلين مئات الآلاف في بلد يعيش خمسا سكانه عند خط الفقر أو بالقرب منه. وعندما جاء الإخوان إلى السلطة احتل عضو من هذه الجماعة مقعد التلاوي في انتخابات عام 2011.
وقال التلاوي (36 عاما) إنهم استهدفوه وهاجموه مشيرا إلى أن شعبيته كانت تمثل لهم مشكلة. لكن نجمه السياسي بدأ يصعد من جديد. وهو مثل سيف يرى أن السيسي هو الرجل المناسب لحل مشاكل مصر الكثيرة.
وقال التلاوي إن الاحتجاجات الشعبية الهائلة المناهضة لحكم الإخوان التي شهدتها مصر في 30 يونيو حزيران والتي دفعت السيسي الى التدخل وعزل مرسي كانت ثورة شعبية وأن الشعب جعل السيسي زعيما لها ولهذا نجحت.
ويقدم التلاوي خدمات للفقراء من خلال المؤسسة الخيرية التي تديرها عائلته وتوزع إعانات شهرية على نحو 350 أسرة وتساعد المكفوفين وتساهم أيضا في تزويد المقبلين على الزواج بأجهزة منزلية مثل غسالات الملابس. ولم يكشف التلاوي عن خططه السياسية لكن كثيرين يتوقعون أن يرشح نفسه في الانتخابات البرلمانية.
وقال مصطفى أشرف وهو طالب في التعليم الثانوي معبرا عن المزاج السائد محليا إن فرصة التلاوي في الفوز كبيرة.
وبسبب الحساسية على ما يبدو من الوصمة التي لحقت بأعضاء حزبه السابق ركز التلاوي في السنوات الثلاث الأخيرة على إدارة مصنعه ومؤسسته الخيرية وهي برغم ذلك أنشطة تعزز مكانته بين الناخبين.
وقال مسعود من جامعة هارفارد إن عودة أصحاب المال والنفوذ المحليين إلى مناصب من خلال الانتخابات سيثير الشكوك بشأن الديمقراطية في مصر مضيفاً أن نظام الرعاية الاجتماعية "ليس مثاليا". وأضاف مسعود "الأوضاع الآن في مصر بعيدة عن المثالية على أي حال والمطلوب هو عملية انتخابية سليمة يقبل فيها من يريدون السلطة بشرعية الانتخابات كسبيل للحصول على السلطة". وتابع "إذا جرت بضعة انتخابات حرة ونزيهة ولا تبطل نتائجها... فقد يكون هذا أفضل ما نأمل به في مصر في الوقت الراهن".