إن استيفاء القصاص في القتل خرجت به نظريات شرعية متعددة، ﻣﻌﻨﻰ اﺳﺘﻴﻔﺎء اﻟﻘﺼﺎص (ﻓﻌﻞ ﻣﺠﻨﻲ ﻋﻠﻴﻪ أو وﻟﻴﻪ ﺑﺠﺎنٍ ﻋﺎﻣﺪ، ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﻓﻌﻞ أو ﺷﺒﻬﻪ)، وأن ﻟﻮلي اﻟﺪم اﺳﺘﻴﻔﺎء اﻟﻘﺼﺎص ﺑﻨﻔﺴﻪ ﺑﻌﺪ ﺣﻜﻢ اﻟﺤﺎﻛﻢ و إذن اﻟﺴﻠﻄﺎن، وﻟﻴﺲ ﻟﻪ اﺳﺘﻴﻔﺎؤه دون ﻗﻀﺎء ودون إذن اﻹﻣﺎم.
مستحق القصاص عند مالك: العاصبُ الذكَر، فلا دخل فيه لزوج، ولا لأخ لأم، ولا لجد لأم، ويقدم الابن فابن الابن، ثم يليهم الأقرب فالأقرب من العَصبَة والجد والاخوة سواء في ولاية القصاص، ويعتبر كلاهما في مرتبة الآخر. وأبناء الاخوة أقل مرتبة من الجد، لأنه بمنزلة أبيهم، والمراد بالجد الجد القريب فهو الذي يتساوى مع الاخوة في الدرجة، أما الجد العالي فلا شأن له مع الاخوة كما أن بني الاخوة لا شأن لهم مع الجد القريب، ويستحق القصاص عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد الورثة الذين يرثون مال القتيل رجالاً ونساء، ولا يشترط لاستحقاقهم القصاص أن يرثوا شيئاً فعلاً، فمن قُتل وعليه دين محيط بتركته أو لم يترك شيئاً، فالقصاص لوارثيه الذين كان يحتمل أن يرثوه لو ترك شيئاً، وعند مالك ترث المرأة القصاص إذا توفرت فيها شروط ثلاثة: أولاً: أن تكون وارثة كبنت أو أخت. ثانياً: أن لا يساويها عاصب فى الدرجة بأن لم يوجد أصلاً أو وُجد أنزلُ منها درجة كالعم مع البنت أو الأخت، وعلى هذا تخرج البنت مع الابن، والأخت مع الأخ فلا كلام لواحدة منهما معه فى عفو ولا قود، بخلاف الأخت الشقيقة مع الأخ لأب، فلها الكلام معه، لأنه وإن ساواها في الدرجة أنزل منها فى القوة. ثالثاً: أن تكون بحيث لو كان فى درجتها رجل ورث بالتعصيب، وعلى هذا تخرج الأخت للأم والزوجة والجدة للأم.
هل يملك الوارث حق القصاص على سبيل الشركة أم على سبيل الكمال؟
إذا كان الوارث واحداً فهو يملك القصاص على سبيل الكمال إذ لا شريك له فيه، أما إذا تعدد الورثة فهناك نظريتان:
النظرية الأولى: ويقول بها مالك وأبو حنيفة، وهي قول لأحمد، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الكمال لا على سبيل الشركة. وحجتهم أن المقصود من القصاص في القتل هو التشفي، وأن الميت لا يتشفى ولكن الورثة هم الذين يتشفون فهو حقهم ابتداء، أي أن القتيل لا يثبت له حق القصاص، وأن القتيل لا يثبت له هذا الحق ما دام حياً ولكنه يثبت بوفاته فإذا ثبت لم يكن القتيل أهلاً لتملك الحقوق، فيثبت الحق للورثة ابتداء، ويثبت لكل وارث على سبيل الكمال، كأن ليس معه غيره لأنه حق لا يتجزأ، والشركة فيما لا يتجزأ محال، إذ الشركة المعقولة هي أن يكون البعض لهذا والبعض لذاك كشريك الأرض والدار، ولكن ذلك محال فيما لا يتبعض، والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة وقد وجد سبب ثبوته في حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره، كولاية النكاح.
النظرية الثانية: ويقول بها الشافعي وأحمد، وأبو يوسف ومحمد من فقهاء المذهب الحنفي، وتقوم على أن القصاص حق كل وارث على سبيل الشركة. وحجتهم أن القصاص يجب بالجناية، وأنها وقعت على المقتول فكان ما يجب بها حقاً له، إلا أنه بالموت عجز عن استيفاء حقه بنفسه، فيقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ويكون القصاص مشتركاً بينهم.
وأهمية الخلاف تظهر إذا ورث القصاص كبير أو صغير. فطبقاً للنظرية الأولى يكون للكبير حق الاستيفاء دون حاجة لانتظار بلوغ الصغير؛ لأن القصاص حق كل وارث على سبيل الاستقلال فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير. وطبقاً للنظرية الثانية ليس للكبير أن ينفرد بالقصاص وعليه أن ينتظر بلوغ الصغير؛ لأن حق القصاص مشترك بينهما، وليس لأحد الشريكين أن ينفرد بالتصرف في حق مشترك دون رضاء شريكه.
وإذا لم يكن للقتيل ولي فمن المتفق عليه أن السلطان يتولى القصاص: لأن السلطان ولي من لا ولي له. ولكن أبا يوسف يرى أن السلطان ليس له أن يقتص إذا كان المقتول من أهل دار الإسلام، وله أن يأخذ الدية وحجته فى ذلك أن المقتول من أهل دار الإسلام لا يخلو عن ولي عادة إلا أنه لا يعرف، ولا ولاية للسلطان إلا إذا انعدم الولي الوارث، بخلاف الحربي إذا دخل دار الإسلام فأسلم لأن الظاهر أن لا ولي له في دار الإسلام.
من يلي الاستيفاء؟: يختلف الحكم في هذه المسألة بحسب ما إذا كان مستحق القصاص واحداً أو أكثر، فإذا استحق القصاص واحد وكان كبيراً فله أن يستوفيه، ولوجود سبب الولاية في حقه على الكمال، وهو وراثة القصاص دون مزاحم، أما إذا كان مستحق القصاص صغيراً أو مجنوناً: فيرى الشافعي وأحمد انتظار بلوغ الصبي وإفاقة المجنون إلا أنه إذا كانت إفاقة المجنون ميئوساً منها قام وليه مقامه، ومن يعطي الولي حق الاستيفاء عن الصغير والمجنون يعطيه حق الصلح أو العفو عن القصاص على مال بشرط أن لا يقل عن الدية، وأن يكون أصلح من القصاص للصغير، أو على الأقل تتساوى مصلحة القصاص بمصلحة العفو، فإن صالح أو عفا على أقل من الدية كان للصغير بعد بلوغه الرجوع على القاتل بما نقص من الدية، ما لم يكن القاتل معسراً وقت الصلح كما يرى مالك. وليس للولي أن يتنازل عن القصاص مجاناً، فإن فعل فتنازله باطل.
وإذا تعدد مستحقو الاستيفاء وكانوا جميعاً كباراً حاضرين: فالأصل أن لكل منهم ولاية استيفاء القصاص حتى إذا قتله أحدهم صار القصاص مستوفى للجميع؛ لأن القصاص إن كان حق الميت كما يرى أبو يوسف ومحمد، فكل واحد من الورثة خصم في استيفاء حق الميت كما هو الحال في المال، وإن كان القصاص حق الورثة ابتداء كما يرى مالك وأبو حنيفة، فكل من الورثة يملك حق القصاص على الكمال، هذا هو الأصل، إلا أن الفقهاء يشترطون اتفاق مستحقي القصاص عليه قبل الاستيفاء وحضورهم لاحتمال أن يعفو بعضهم، ولأن العفو يسقط حق الآخرين في القصاص.
ومهما تعدد مستحقو القصاص فلن يستوفيه إلا أحدهم فقط يوكلونه عنهم: ويشترط أن يكون خبيراً قادراً على القصاص، فإن لم يكن فيهم من يحسن القصاص أو لم يتفقوا على واحد منهم، أناب الحاكم من يحسنه، وليس ثمة ما يمنع أن يكون موظفاً يتناول أجره من خزانة الحكومة. ويرى الشافعي الاقتراع بين مستحقي القصاص إذا كانوا جميعاً يحسنونه ولم يتفقوا فمن اختارته القرعة قام بالاستيفاء، ويرى بعض الفقهاء في مذهب مالك أن الحاكم مخير بين أن يستوفي بنفسه القصاص أو أن يسلمه لولي المقتول ليقتص منه، والأصل في الشريعة أن لا يمكَّن إنسان من استيفاء حقه بنفسه، لأن استيفاء الحقوق متروك للحكام، ولكن جاز أن يستوفى الفرد حقه في القتل.
من هنا، ولما كان من شروط الاستيفاء عدم الحيف وأن لا يُعذِّب المقتص القاتل وأن يحسن قتلته، فإن القصاص يجب أن يتم تحت إشراف السلطة التنفيذية وليس ثمة ما يمنع من أن تتولاه السلطة التنفيذية اليوم لضمان التنفيذ على الوجه المطلوب.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان