أنتجت ألمانيا عدداً كبيراً من أعظم الكتّاب، وتركت أعمالاً خالدة حجزت لها موقعاً مهماً في الأدب العالمي، وعندما نقول الأدب الألماني هذا يعني إننا نتحدث عن المثالية، والحداثة، والمادية، والصدمة والذاكرة، لقد كان للأدب الألماني بجميع أشكاله، في فترات تاريخية مختلفة، تأثير كبير جداً على تاريخ الفكر الغربي، بدءاً من مارتن لوثر، وفريدريك شيلر، ويوهان فولفغانغ وأيضاً كارل ماركس وسيغموند فرويد توماس مان، وألفريده يلينيك وبرتولت بريخت، وغونتر غراس وغيرهم.
يشتهر الأدب الألماني باهتمام كتّابه بأنواع الأدب الرومانسي وبالأخص الروايات والملاحم الشعرية إضافة إلى المسرحيات، كما أنه يتميز بابتعاده عن النمطية فيطلق الأدباء العنان لخيالهم وتصورهم الخاص المستوحى من الطبيعة التي تحيط بهم مما ساهم بارتقاء الثقافة الألمانية وتنوع ثقافتها وفقاً لرؤية كتّابها. لعل من أبرز الأمثلة على ذلك مؤسس الرومانسية “يوهان غوته” وغيره من الكتّاب الذي نالوا عدة جوائز وتكريمات مثل جائزة نوبل للآداب نظير ما يقدمونه من أعمال متميزة أثرت في تطور الأدب العالمي ككل، وهذا إن دل، فيدل على رقي الأدب الألماني ورفعة ثقافته بداية من نشأته وحتى تاريخنا المعاصر.
لكن ما هي الظروف التي فجرت هذا النوع من الأدب، الجميع يعلم أن أوروبا عانت من الحروب الكثير وبخاصة ألمانيا، وكانت تعاني القارة العجوز من تبدلات سياسية كثيرة قبل الحروب بكثير، كانت القبائل الألمانية تنزح من أوطانها إلى أوروبا الغربية فنقلت ثقافتها الشرقية إلى تلك البلدان حيث انتشرت القصائد الوطنية التي تعبر عن معاناة الغربة من الوطن، إلا أن هذا النوع من الأدب لم يستمر طويلاً بعد توقف الهجرة فظهرت الملاحم الشعرية التي لم تُعرف هوية مؤلفيها، وفي العصر الذهبي الأول استطاعت الملاحم الشعرية من إبراز مكانتها في الأدب العالمي وتنافس الفرسان على كتابة ملاحم الحب والفروسية، ثم انتشر بعد ذلك نوع آخر من الأدب وهو “الحكايا” التي كان يحكيها مؤلفون مجهولو الهوية، كان من أبرزها حكاية “أغنية عائلة النيبلونج” وفي تلك الفترة انتشرت حكايات الملك آرثر التي انتقلت إلى الأدب الألماني من خلال فرسان المائدة المستديرة، كما تأثر الأدب الألماني أيضاً بالأدب الإسلامي بعد الحملات الصليبية، فمن أشهر ملاحم تلك الفترة كانت ملحمة بارسيغال وملحمة هنري الفقير الشعرية.
ليس هذا فقط لقد تأثر الأدب الألماني كذلك الأمر، بالخط العربي، لقد ايتكر المسلمون الخط العربي وطوروه عبر أنماط وأنواع مختلفة من الروسم الحرفية حيث تتميز تراكيب الخط العربي بجمالية خاصة يبهر الناظر إليها حتى لو لم يكن يجيد العربية، وهذه من الميزات الجمالية التي خطت بهذه الخطوط الحدود اللغوية والثقافية وانطلقت به إلى العالمية، لقد كان للمخطوطات العربية والتحف والمصنوعات المزخرفة كالنسيج والخزف والزجاج المنقولة إلى أوروبا في القرون الأخيرة، دور في معرفة الخط العربي ونشره، ولم تكن الثقافة الألمانية في بُعدها الأوروبي بمعزل عن التأثر بالمكونات الجمالية والرمزية لفن الخط العربي، وقد تجلى هذا التأثر في فنون الرسم والأدب والتنظير الفلسفي، الأمر الذي دفع بالشاعر الألماني الكبير فولفعانع فون غوته للتغني بالخط العربي حيث حاول تعلم الكتابة العربية.
يختص الأدب الألماني بخاصيتين تفرّد بهما عن بقية الآداب العالمية الأخرى، الخاصية الأولى أن هذا التأخر الزمني الذي صحب استقرار اللغة عند قبائل الجرمان بعد فترة الاستقرار، وهو ما اكتشفته المستندات المكتوبة ما بين القرنين الثامن والثالث عشر الميلادي، إذ بدأت المحاولات الأولى المعروفة باسم (هايلدلبراند) عام (800) تقريباً، أما الخاصية الأخرى فهي الانقسام في طبيعة الأدب وأهدافه شعراً وقصة ودراما ونثراً في بداية خمسينيات القرن العشرين حين قُسمت ألمانيا إلى شطرين، الاتحادية والديمقراطية، ورغم التأخر الزمني الأول، إذ ظل ممتداً حتى القرن الثامن عشر ميلادي أعظم العصور الأدبية الألمانية، إلا أن هذا الامتداد الطويل قد ملأ الساحة الأدبية بالعديد من النماذج والتيارات التي قلّ أن نعثر عليها في عالم آخر، ظهرت الكتابة باللغة المحررة بعد لغة الشفاه في عصر تتنازعه الاقطاعية من ناحية والمسيحية من ناحية أخرى وكان موقف الكنيسة قوياً، الأمر الذي مهّد للمدارس الدينية داخل معابدهم وكان من نتائجه سيطرة البابوات على المشروع الأدبي، فإلى جانب لغة الدين اللاتينية نشأت لغة الأدب الألماني لخدمة الأغراض الدينية أيضاً، صحيح أن لغة الأدب شابها الكثير من الروح الدينية، لكنها كانت أيضاً لغة آداب ملحمية أتاحت للشعر فرصاً لتعليم الحياة والتعبير ولو في ضيق مساحة عن التربية والمجتمع، هذه الآداب الجديدة التي توسعت فيما بعد خلال القرن الحادي عشر ميلادي لتدخل في نطاق مثيلاتها في الآداب العالمية، فعرف الألمان أدب الفرسان، التي أشرنا إليها أعلاه وساعدت الثقافة الألمانية على نشره بين الجماهير والقراء، فكانت الملاحم في الفروسية أوسع رحابة، كما عُرفت آداب البطولة الملحمية التي تُمثل بحق بدايات عصر الأدب الألماني، وهي آداب استهدفت ولأول مرة المشاعر والفكر الإنساني، وتلوين الصورة الأدبية للأدب، وحل المشكلات الناشئة بين الرغبة عند الفرد والأخلاقيات عنده، في أسلوب عملي بحت.
هكذا ورث الشعراء هذه الأهداف والقيم بصورة رومانتيكية حتى قبل بزوغ عصر الرومانتيكية، وفي عصر النهضة الألماني عصر الإنسانية والاصلاح، وعصر التخلص من الضغوط الدينية المسيحية التي كبّلت القرون الوسطى لألف عام، لكن حرب الفلاحين الألمان عام 1525 كانت بداية تأخر الإصلاح والدخول في طور الانسانية العالمية، فظلت السياسة الدينية خانقة للفكر الأدبي الألماني، وفي عصر الباروك وبعد حرب ثلاثينيات القرن السابع عشر الميلادي أصبحت الإمبراطورية الفرنسية هي مجال التقليد في دول أوروبا اللويسيون الأربعة لويس الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، بكل معاني الارستقراطية رمزاً للبلاطات في أوروبا، وبأدب غالٍ مقصور عليهم تبعته آداب إسبانيا وايطاليا بصفة خاصة، أما في ألمانيا بدأت البدايات مختلفة، جماعات لتصحيح اللغة وترقيتها وتشذيبها وجعلها لغة عصر حقيقية، تصحيح للأشكال والنماذج الشعرية على يد مارتن أوبتز، ومحاولاته الشعرية في استعمال نماذج الشعرين الفرنسيين قديمه وحديثه كنموذج ألماني حديث يستند على التوازن وقواعد الثقافة الشعرية، وقد تكونت على إثر ذلك مدرسة الشعر الألماني المسماة مدرسة سيليزيا الأولى وأبطالها المؤسسين بول فلمنج، سيمون داخ، حيث تأثرت المدرسة بالنبض الكلاسيكي لعصر النهضة حتى انبثقت مدرسة سيليزيا الثانية ليرتقي الشكل فيها ثانية بعاطفية اللغة ووجدانياتها، ويعتبر أندرياس جريفيوس أعظم مؤلفي الدراما في عصره الباروكي، أما النثر الباروكي فقد توخت قصصه ورواياته حياة الإنسان واستكمالها خاصة ما قدمته قصص الرعاة وحكاياتها من إنتاج غزير، نوع باروكي جديد من قصص البيكاريسك والمشردين التائهين في اطار ساتيري لايخدش الحياء قدر مايُعلم ويوجه لصالح بناء الإنسان والراعي, إضافة إلى قصص قوامها الأدب الاجتماعي.
من هنا، إن القرن الثامن عشر هو أزهى عصور الأدب الألماني كان غنياً بالشعر والشعراء، والقصة والآداب الدرامية وفي بناء الشخصية الدرامية يستبدل إبراز الشخصية المسطحة في الكلاسيكية بالتكوين الواقعي الحي للشخصية المستند على التكوين النفسي، كما يحمل جماليات الأدب شعراً ونثراً كثيراً من العناصر الواقعية، في اتجاه الرجل العادي في المجتمع، ومع بداية القرن العشرين برزت المدرسة الواقعية من أجل توطيد انسانية البشر في بحث عن التراث الثقافي الوطني، وفي استعمال للواقعية الكلاسيكية الأوروبية خاصة في القصة، وحرص على النظرة النقدية للمجتمع لانتاج أدب وفن يُجرب في الجديد من الفكر العصري، ليكون الأدب الألماني أدباً راقياً تشكل من معاناة حقيقية أطلقت علماء كبار حجزوا لنفسهم مقعداً خالداً على المستوى العالمي.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.
المصادر:
- جذور الأدب العالمي الأدب الألماني – أ,د, كمال الدين عيد – https://www.al-jazirah.com/2000/20000824/cu10.htm