إن نزول القرآن الكريم باللغة العربية كان سبباً في نيلها شرفاً وعزة، فكان لها الحصن المنيع الذي ضمن لها الاستمرارية على كافة العصور، وجعلها لغة عالمية ليست كأي لغة بل لغة مقدسة بين ملايين البشر.
هذه اللغة كانت محل اهتمام كبير لكافة العلماء قديماً، حيث اشتغلوا بدراسة كتاب الله العزيز تعلّماً وتعليماً، قراءةً وتدبّراً في آياته، والعمل على سبر أغواره وفهم آياته وتفسيرها، وتنوعت العلوم في هذا المجال خاصة “علم التفسير” الذي يمكن من خلاله فهم مفردات القرآن وتراكيبه واستنباط أحكامه وإدراك معانيه، ولا يقل علم النحو أهمية عن علم التفسير، لما له من دور فعال وجوهري في تقويم اللسان وضبط الألفاظ وتحديد معانيها المختلفة، أي تحديد معاني الآيات من جهة، ومن جهة ثانية تحديد العلاقة الرابطة بين الألفاظ والتراكيب، إضافة إلى علم الدلالة المتمازج والمتداخل مع علم النحو، لأن دقة القرآن الكريم عالية جداً، وترتيب الآيات مهم جداً للخروج بالحكم الصحيح، فجاءت بنية الأفعال والكلمات في القرآن الكريم بغاية الدقة والجمال، وقد اهتم فخر الدين الرازي بالجانب اللغوي في تفسيره “التفسير الكبير” حيث وظفها بطريقة صحيحة للوصول إلى المعنى القرآني، ونجد هذا الاهتمام في دقة توصيف وتوظيف اللغة وأهميتها في كتاب “معاني النحو” لمؤلفه “فاضل صالح السامرائي”.
من هنا، أصبح واضحاً وكثيراً جداً أن القرآن الكريم معجزة خالدة، خصه العلماء بالحفظ والشرح والتفسير، وعلم البيان فيه كالتذكرة التي يتنقل بها المفسر لسبر أغوار الجماليات التي فيه، ويعد تفسير “ابن عاشور” أحد أعلام الفكر العربي الإسلامي في تفسيره “تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد”، جوهراً مكنوناً وظف فيه سعة علمه واطلاعه من خلال استخراج معاني الذكر الحكيم بالتفسير البياني التحليلي من خلال الكشف عن وجوه إعجاز القرآن الكريم وتبيان أغراض السور ومقاصدها وبيان معاني المفردات القرآنية مع تسليط الضوء على الناحية الجمالية، مثمناً دور علم البلاغة في الكشف عن معاني القرآن وأن هذا العلم فن من فنون القرآن موجود في جميع الآيات والسور، بالتالي، إن علم البيان هو العلم الذي تتكشف من خلاله أسرار المعاني المكنونة، وهو وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية وما تشتمل عليه الآيات من تفاصيل المعاني، فهو العلم الأكشف عن وجه إعجازه، والألطف في تذوق جمالياته من مجاز واستعارة وكناية وتشبيه.
ومن أهم تعاريف علم البيان، : تعريف “الخطيب القزويني”: هو علم يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه ودلالة اللفظ إما على ما وضع له أو على غيره، بالتالي يكون علم البيان كفيل ببحث جماليات إيراد المعنى في صور وقوالب شتى عن طريق المجاز أو عن طريق الاستعارة أو التشبيه أو الكناية، ويعرف الجاحظ البيان في كتابه “البيان والتبيين”، بأنه الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الذي سمعت الله عز وجل يمدحه ويدعو إليه ويحث عليه، بذلك نطق القرآن وبذلك تفاخرت العرب وتفاضلت على أصناف العجم. كما يعد علم البيان في “مفتاح العلوم” عند السكاكي الذي رسم فيه معالم البلاغة وأوضح علومها وحدد مصطلحاتها، أما الزمخشري الذي اشتهر بكشافه وقيل عنه “صاحب الكشاف” يعود ذلك لما ضمه تفسيره من علوم شتى كالبلاغة والأدب والفقه والقراءات واللغة والنحو، فقد أكد الزمخشري أنه يجب على كل مفس الإلمام بعلم البيان والمعاني، بالتالي، إن الصور البيانية في القرآن الكريم عالم زاخر بالمعاني والوجدان، والمشاعر النفسية التي تتحرك من خلال صور في أداء تعبيري معجز ترفدها الحركة واللون والصوت والصورة.
من هنا، إن القرآن الكريم هو الذي نظم حياة الإنسان في الجوانب المادية والتشريعية ولم يهمل جوانب العقل والتفكير في الإنسان بما أن الخطاب القرآني هو خطاب تعبيري يوظف الكلمة لكنه يفاعلها برؤية التشكيل فالبحث ينصب ضمن رؤية كاملة عن اهتمام القرآن بكل العلوم بما فيها التشريع والفقه، بالتالي، إن النص القرآني هو النص الوحيد المغاير لباقي النصوص على اختلاف أجناسها، إذ يمثل القرآن الكريم المورد الأساس في دراسة الوحي بوصفه أدق وأهم نص موحى من الله تبارك وتعالى، قال ابن منظور: الوحي هو: (إعلام في خفاء ولذلك صار الإلهام يسمى وحياً)، وقال الفيروز آبادي: (الوحي: الإشارة والكتابة والمكتوب والرسالة والإلهام والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك وأوحي إليه أي بعثه وألهمه)، فقد طبقت الدكتورة عائشة عبد الرحمن منهج الأستاذ أمين الخولي مؤمنة بأن الدراسة الأدبية يجب أن تتقدم أي دراسة أخرى عند تناول النص القرآني بالدراسة، ليس فقط لأنه كتاب العربية الأكبر فحسب، ولكن لأن الذين يعنون بدراسة نواحٍ أخرى فيه، و التماس مقاصد بعينها منه، لا يستطيعون الوصول إلى ما يرجوه دون أن يدركوا أسلوب القرآن الفريد و يهتدوا إلي أسراره البيانية، وقد رأت الدكتورة عائشة أن دراسة القرآن فيما سلف من المفسرين لم يتم تناولها بالطريقة التي تناولها مفسرو الدراسة البيانية في التفسير، فلم تجد محاولة تجعل النص القرآني موضوعاً لدراسة منهجيه، على غرار ما يفعل بنصوص أخرى لا سبيل إلي مقارنتها بالقرآن الكريم في إعجازه البياني،اعتمدت الدكتورة عائشة عبد الرحمن عند تفسيرها لآيات الذكر الحكيم على فهم دلالات الألفاظ من خلال التتبع الدقيق والشامل للفظة القرآنية ومعرفة الدلالات التي تعطيها في شتى استعمالاتها للوقوف على أدق المعاني القرآنية الخاصة بها، وهو منهج اتفق عليه رواد “المدرسة البيانية ” في التفسير، فتلمس الدلالة اللغوية الأصلية التي تعطي حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية، ثم النظر إلى تدبر سياقها الخاص في الآية و السورة، وسياقها العام في القرآن لإبراز المقاصد القرآنية من النص القرآني.
وفي استكمال تفسير سورة طه بعد طرح جمالة البيان والمعاني والبلاغة في إبراز جمالية النص القرآني، نكمل هذه السلسلة المتصلة من تفسير سورة طه، كنا قد فسرنا قوله تعالى: (قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم من سورة طه: (ولقد مننا عليك مرةً أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبّة منّي ولتصنع على عيني، إذ تمشي أختك فتقول هل أدلّكم على من يكفله فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها ولا تحزن وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي)، والخلاصة أن الله تبارك وتعالى ألقى المحبة على موسى ووضع له أمه ككفيلة له، ليسعد الله قلبها ويشعرها بالطمأنينة بعد الخوف الذي كانت تعاني منه بسبب قلقلها وخوفها على رضيعها، (وقتلت نفساً) لقد شب موسى وكبر وعاش في قصر فرعون وتحت رعايته، وخرج إلى السوق فإذا برجلين يقتتلان واحد منهما من بني إسرائيل والآخر من المصريين، فاستغاث به الذي من قومه على الذي من عدوه، فدفع موسى المصري ولم يكن يقصد أن يقتله، ولكن إرادة الله المدبِّرة ترسم الموقف بما لا يمكن أن يتصوره العقل البشري ولذلك قال موسى (هذا من عمل الشيطان)، وأصبح موسى مغموماً لأنه قضى على رجل بريء، لكنها إرادة الله التي تسوق المقادير طبقاً لخطةٍ إلهية.
خرج موسى في اليوم التالي، فإذا الذي استنصره بالأمس، يستصرخه، وقال (أدركني يا موسى)، قال له موسى: (إنك لغويٌّ مبين)، تناديني لتورطني في هذه المعصية، فلما توجه إلى المصري، ربما لكي يعاتبه على إيذاء الإسرائيلي، قال له: إنك تريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، (إن تريد إلا أن تكون جبّاراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين)، وهنا بدأت رحلة جديدة لموسى (فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً) إنه امتحان جديد، موسى الذي ربّي في قصر فرعون وفي الترف والعز، وفرعون في ذلك الوقت كان أعظم ملوك الدنيا، لم يكن يوجد ملكٌ أعظم من ملك مصر، وهو الذي يقول في سورةٍ أخرى (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون)، فهو يعتز بأنه ملك مصر، وموسى ربّي في بيت فرعون، فليخرج منه، المخطط الذي وضعته القدرة الإلهية أن يتحول موسى من حياة القصور إلى شيءٍ آخر، وهرب من مصر، وعانى خلال هروبه الكثير كما تعبر الآية الكريمة في سورة القصص في مناجاته لله: (ربِّ إني لما أنزلت إلي من خيرٍ فقير) ربما كان يعاني من عدم الطعام، فاستجاب الله له، وجاءته إحداهما تمشي على استحياء إلى آخر ما سيأتي في سورة القصص.
هنا يستحضرني إمام الدعاة الشيخ والعالم والمفسر المصري محمد متولي الشعراوي (1911 – 1998)، الذي كان يؤمن بأن “القرآن لم يأت ليعلمنا أسرار الكون ولكنه جاء بأحكام التكليف واضحة وأسرار الوجود مكتنزة، فالقرآن منهج لحياة البشر على الأرض حتى تتقدم الحضارات ويتسع فهم العقل البشري”، من خلال خواطره الإيمانية الرائعة، لقد عشق الشيخ الشعراوي اللغة العربية التي برع في استخدامها خلال تفسيره للقرآن، وعرف ببساطة كلماته مع بساطة في الأسلوب وجمال في التعبير خاصة وأنه كان يستخدم الشعر في التفسير وتوضيح معاني الآيات، فهو يعتبر أن خواطره حول القرآن الكريم إنما هي هبات صفائية تخطر على قلب المؤمن في آية أو بضع آيات، لقد اعتمد الشعراوي في تفسيره إذاً على اللغة كمنطلق لفهم النص القرآني، محاولاً الكشف عن فصاحة القرآن وسر نظمه ورد شبهات المستشرقين والمزاوجة بين العمق والبساطة.
بالتالي، قضية التفسير علم سهل ممتنع، لا يصل الإنسان إلى هذه المرتبة إلا بعد أن يكون قد شرب اللغة وعلومها، لتتحقق الغاية الأسمى.. التفسير لكل الناس دون استثناء.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.