من المعروف أن العقوبات البدلية للقتل العمد هي ثلاثة، الدية، والتعزير، والصيام. والدية والتعزير بدل من القصاص والصيام بدل من الكفارة، لكن كيفية تفعيل هذه العقوبات وتوضيح سبب أنها بدلية، كما يأتي لاحقاً، إذ من المعروف أن العقوبات البدلية هي عقوبات أصلية قبل أن تكون بدلية، وإنما تعتبر بدلاً لما هو أشد منها إذا امتنع تطبيق العقوبة الأشد؛ فالدية عقوبة أصلية في القتل شبه العمد ولكنها تعتبر عقوبة بدلية بالنسبة للقصاص، والتعزير عقوبة أصلية في جرائم التعازير ولكن يحكم به بدلاً من القصاص أو الحد إذا امتنع الحد أو القصاص لسبب شرعي.
جميعنا يعلم أو على وجه التحديد أن الأصل فى وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع، والدية ليست عقوبة أصلية وإنما هي عقوبة بدلية أقرت بدلاً من العقوبة الأصلية وهى القصاص، وتحل الدية محل القصاص كلما امتنع القصاص أو سقط بسبب من أسباب الامتناع أو السقوط بصفة عامة، مع مراعاة أن هناك حالات يسقط فيها القصاص ولا تحل محله الدية كحالة العفو مجاناً وكحالة موت الجاني عند مالك وأبي حنيفة، ولا تعتبر الدية في حالة قتل الأب ولده عقوبة أصلية؛ لأن العقوبة الأصلية للقتل هي القصاص، وإنما استثنى الأب منها، وتجب الدية في القتل العمد في مال القاتل فلا يحملها غيره عنه، وهذا يتفق مع مبادئ الشريعة العامة، والواقع أن الجناية هي أثر فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها، وأما مقدار ما يلزم به القاتل عن التعدد، إذا تعدد الجناة ولم يكن قصاص فعليهم دية واحدة للقتيل تقسم عليهم بحسب عددهم ولا يلتزم كل منهم بدية مستقلة، وإذا عفى عن بعض الجناة على الدية واقتص من البعض الآخر فعلى المعفو عنهم كل منهم حصته فقط من الدية مقسمة على عدد رؤوس القاتلين من اقُتص منه ومن عُفى عنه، وإذا نتج الموت من عدة أسباب كأن طعنه شخص عمداً برمح وأصابه آخر خطأ وعقرته دابته بعد ذلك فمات من هذه الحالات الثلاثة، فعلى المتعمد ثلث الدية بغض النظر عن عدد ما أحدثه من إصابات، ولا يلتزم كل واحد من القاتلين بدية مستقلة حال العفو أو امتناع القصاص ولو أن عليهم القصاص جميعاً؛ ذلك لأن القصاص عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدد الفاعلين، أما لدية فبدل المحل المتلف وهو واحد.
لكن الفقهاء مع هذا اختلفوا فيمن يحمل دية القتيل إذا كان القاتل حدثاً صغيراً أو مجنوناً فرأى مالك وأبو حنيفة وأحمد أن الدية الواجبة على الصغير والمجنون تحملها العاقلة ولو تعمد الفعل لأنهم يرون أن عمد الصغير والمجنون خطأ لا عمداً إذ لا يمكن أن يكون لهما قصد صحيح فألحق عمدهما بالخطأ. وفي مذهب الشافعي رأيان: أحدهما يتفق مع رأي باقي الأئمة وهو المرجوح، والثاني: يرى أن عمد الصغير والمجنون عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل العمد وإن كان لا يمكن القصاص منهما فكان عمدهما عمداً كالبالغ العاقل، وعلى هذا تجب الدية في مالهما.
لكن هل تتساوى الديات لكل الأشخاص؟ تختلف الديات لسببين، أولهما: الجنس، وثانيهما: التكافؤ. والأول متفق عليه والثاني مختلف فيه، وفيما عدا هذين السببين فلا اختلاف. فدية الصغير كدية الكبير، ودية الضعيف كدية القوى، ودية المريض كدية الصحيح، ودية المتعلم كدية الجاهل، ودية الشريف كدية الوضيع، لقد اتفق الفقهاء على أن دية المرأة فى القتل نصف دية الرجل، أما التكافؤ فأساسه عند من يقول به من فقهاء الشريعة الحرية والإسلام، فإذا تكافأ الأشخاص فقد تساوت دياتهم ولا عبرة بما بينهم من اختلافات طبيعية أو غير طبيعية، ولقد ألغى الرق من العالم ولكننا نستطيع أن نلخص رأي الفقهاء في إنهم كانوا يجعلون دية الرقيق قيمته التى يساويها وقت القتل، فإن كانت أكثر من دية حر فهي ديته وإن كانت أقل فهي ديته.
ويعتبر التعزير عقوبة بدلية فى القتل العمد: ويوجب مالك أن يعاقب القاتل تعزيراً كلما امتنع القصاص أو سقط عنه لسبب من الأسباب فيما عدا سقوطه بالموت طبعاً وسواء بقيت الدية أم سقطت هي الأخرى، ويرى أن تكون العقوبة الحبس لمدة سنة والجلد مائة جلدة، ولا يرى باقي الأئمة هذا ويقولون: إن هذا حق الله تعالى أي حق للجماعة بعد سقوط القصاص وهي تأديب للقاتل يرجع نفعه للناس كافة والأئمة الثلاثة لا يوجبون عقوبة معينة على القاتل إذا سقط القصاص أو عفى عنه ولكن ليس عندهم ما يمنع من عقاب القاتل عقوبة تعزيرية بالقدر الذى تراه الهيئة التشريعية صالحاً لتأديبه وزجر غيره. ويلاحظ الفرق الظاهر بين عقوبة التعزير التى تحل محل القصاص وبين عقوبة التعزير على جرائم الشروع في القتل الخائبة، فالعقوبة في الحالة الأولى بدلية وفي الحالة الثانية أصلية. كذلك هناك فرق بين عقوبة التعزير التى توقع على الشركاء وبين العقوبة في الحالة الأولى، فعقوبة الشركاء أصلية لأن الشريعة لا تعاقب الشركاء بالقصاص ولا الدية وإنما تعاقبهم بالتعزير عدا ما يراه مالك في حالة الاشتراك بالمساعدة، أما عقوبة التعزير في الحالة الأولى فهي بدلية ولو أنها واقعة على الفاعل الأصلي، وليس في الشريعة ما يمنع أن تكون عقوبة التعزير في جريمة القتل الإعدام أو الحبس مدى الحياة.
أما الصيام فهو عقوبة بدلية لعقوبة الكفارة الأصلية وهي العتق: ولا يجب الصيام إلا إذا لم يجد القاتل الرقبة أو قيمتها فاضلة عن حاجته، فإن وجدها فلا يجب الصيام عليه وإن لم يجد وجب عليه الصيام، ومدة الصوم شهران ويشترط في الصيام أن يكون متتابعاً فإذا كان متفرقاً لم يجزئ وتحتسب المدة بالأهلَّة إذا صام من أول الشهر ولو كان أحد الشهرين ناقصاً، فإذا صام من وسط الشهر تحتسب المدة بالأيام باعتبار الشهر ثلاثين يوماً، وإذا لم يستطع الصوم لمرض أو كبر: فيرى مالك وأبو حنيفة وبعض فقهاء مذهبي الشافعي وأحمد أن الصوم يثبت في ذمته وليس عليه شيء آخر بدلاً من الصوم. ويرى بعض فقهاء مذهبي الشافعي وأحمد أن عليه إطعام ستين مسكيناً قياساً على كفارة الظهار، فقد نُص فيها على العتق وعلى الصيام ثم الإطعام عند العجز عن العتق والصيام.
ولا يجب الصيام أصلاً إلا على بالغ عاقل وترتب على هذا أن الصيام يجب تأخيره لحين البلوغ أو الإفاقة عند من يقول بأن الكفارة واجبة على الصبي والمجنون.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.