إن دراسة الأدب القديم شغل الكثير من الباحثين حول العالم، وكتبت فيه الكثير من الكتب قديماً وحديثاً، حتى أصبحت الجهود الأدبية واضحة المعالم،وهذا ما جعل الأعمال الحديثة في غالب الأحيان مكررة لا جديد فيها.
حتى أتى زمن ظهر فيه المستشرقون وتلاميذهم وبدؤوا في النبش في الأعمال القديمة ومحاولة تطبيق مناهج جديدة عليها ومحاولة كل فريق من المستشرقين إخضاع هذه الآداب للخصائص الاجتماعية والبيئية والثقافية التي تشبع بها في موطنه، ومن هنا بدأ يظهر جلياً صعوبة دراسة هذه الآداب وتطبيق المناهج الحديثة عليها؛ فالغرب حاولوا احتواء الجوانب العلمية والفكرية والثقافية واللغوية والدينية، فاستحضروا أجهزة محكمة توافقت مع منهجيتهم في العمل والإنجاز.
ما يهمنا اليوم من التفرد كل فترة بفن من فنون الأدب العالمي، برز الأدب الفرنسي، في القرن التاسع الميلادي، خلال العصور الوسطى، ما بين الشعر والقصة الخيالية والرومانسية إلى جانب المسرحيات التي شاعت في تلك الحقبة في فرنسا، منها المسرحية الدينية ومسرحية المعجزات والمسرحية الأخلاقية، من عصر النهضة إلى العصر الكلاسيكي وعصر العقل، لقد بدأت بواكير الأدب الفرنسي في جنوب فرنسا خلال القرن الحادي عشر ولكن اللغة الفرنسية لم تكن موحدة آنذاك، وكانت هناك لغات مختلفة أهمها لغة الشمال ولغة الجنوب، وعلى مر الزمن سيطر أمراء باريس وبسطوا لغتهم، وحين أتى القرن السادس عشر كانت الازدواجية بين الفرنسية واللاتينية ماتزال قائمة وكانت المشكلة تتمثل في التأرجح بين احتذاء الشعراء باللاتينية من جهة والتعلق باللغة الفرنسية الفقيرة ثقافياً من جهة، وقد تصدى لهذه المشكلة مجموعة من الشعراء تألقت في القرن السادس عشر ودافعت عن اللغة الفرنسية ثم ما لبثت أن انطفأت في آخر القرن. ولم يتح لأفكار هذه المجموعة أن تعود إلى الحياة إلا في القرن التاسع عشر على يد الحركة الرومانتية، وتتألف هذه المجموعة من سبعة شعراء عملوا معاً على إحياء اللغة الفرنسية والنهوض بها لتحمل أعباء الثقافة الجديدة.
بالتالي، وما يهمنا التركيز عليه هو الأدب الفرنسي الذي يُعد من أثرى آداب الأمم؛ إذ يتضمن أعمالاً رائعة في الشعر الغنائي، والمسرحية والقصة والرواية وغيرها. وهو أيضاً من أكثر الآداب تأثيراً، فالحركات الأدبية والفكرية الفرنسية، مثل الكلاسيكية والواقعية والرمزية، ألهمت أعمال كثير من كُتّاب بريطانيا وباقي أوروبا والولايات المتحدة، فكان اهتمام أدباء فرنسا الأكبر هو الاهتمام بالشكل والأسلوب والتراث، إضافة إلى أنهم كانوا يتقيدون بالقواعد والنماذج أكثر من غيرهم، وتعتبر العقلانية عنصراً أساسياً في أعمالهم، فهم يعتبرون أن العقل هو القوة التي تتحكم في السلوك البشري. ولكن ذلك لا يمنع وجود نزعة تجريبية قوية تستخدم أشكالاً أدبية غير تقليدية، وذكرنا بدايات هذا الأدب، لكن كان أزهاه في عصر النهضة الذي كان بداية القرن السادس عشر حيث ازدهر فيه العلم والمعرفة بتأثير من الأدب الإيطالي والنماذج الإغريقية والرومانية القديمة. ويعرف كُتّاب وعلماء هذا العصر باسم الإنسانيين، ومن أشهر أدباء هذا العصر فرانسوا رابيليه، الروائي الكبير، وكان آخر كُتَّاب عصر النهضة الكبار ميشيل دو مونتانه، الذي ابتدع المقالة الشخصية، وأضافها إلى الأشكال الأدبية المعروفة.
أما في العصر الكلاسيكي، كان الشعر الكلاسيكي الأعلى نفوذاً في فرنسا، ومن أشهر شعراء فرنسا، فرانسوا دو ماليرب أول شاعر كلاسيكي له أهميته وفي أوائل القرن السابع عشر الميلادي كان ماليرب يكتب شعراً يتصف بالوضوح والمعقولية واليقظة، وأصبحت هذه الصفات هي المميزات والأسلوب الأساسي للشعر الكلاسيكي، ومن ميزات الشعر الكلاسيكي، الاعتدال ونبل الاسلوب، كما برزت المسرحية الكلاسيكية بوصفها أحسن تعبير للكلاسيكية الفرنسية. وكان أساتذة المسرحية الكلاسيكية هم بـيير كورني، وجان راسين، وموليير، وكان كورنيّ أول كاتب كلاسيكي مشهور للمأساة، وعُرف موليير بأنه أشهر كتاب الملهاة في المسرحية الفرنسية. وكانت أشهر مسرحياته تتسم بالسخرية، وتظهر شخصيات قوية في نزاع مع التقاليد الاجتماعية، وفيما يتعلق بالنثر الكلاسيكي هناك فيلسوفان كتبا أعمالاً تعتبر من عيون المؤلفات الفرنسية في النثر الكلاسيكي. فقد كتب رينيه ديكارت حديث عن الطريقة، كذلك كتب بليس باسكال أعمالاً نثرية تكشف عن عقيدته النصرانية العميقة، ثم ظهرت مجموعة من الكتّاب سميت باسم “الأخلاقيين” وكانت هذه الجماعة تصف الأخلاق الإنسانية والسلوك في رسائل وأقوال سميت بالمبادئ الأساسية وغير ذلك من صيغ النثر الأخرى، وكتبت مدام لا فاييت واحدة من أولى الروايات المهمة في الأدب الفرنسي، وكانت بعنوان أميرة كليفز، وقد لقيت هذه الرواية ثناءً على ما احتوت من تحليل نفسي ومعالجة تتّسم بالمهارة.
وأما عصر العقل، فقد بدأ مع بداية القرن الثامن عشر ميلادي وكان يُعرف بعصر التنوير، ففيه صب الفلاسفة كبير اهتمامهم على العقل على أنه أحسن الطرق لمعرفة الحقيقة وكان معظم الأدب فلسفياً يخرجه مفكرون كبار من أمثال فولتير، ودينيس ديدرو، وجان جاك روسو، وكان فولتير أشهر رجال الأدب في عصره. وكان يستخدم مهاراته الأدبية لمحاربة الاستبداد والتعصب الأعمى، والترويج للعقلانية. وكانت أكثر أعماله شهرة هي روايته الساخرة بعنوان كانديد، كذلك فقد كتب فولتير بعض المـآسي التي كانت إلى حد ما واقعة تحت تأثير مسرحيات وليم شكسبير. وبالإضافة إلى هذا فإن فولتير قد ساعد في تطوير مبادئ الكتابة التاريخية الحديثة من خلال أعماله الكثيرة التي تناول فيها تاريخ أوروبا والعالم، واقترح جان جاك روسو تغييرات في المجتمع الفرنسي في روايته إلوازا الجديدة، وفي التعليم في روايته إميل، وساعدت سيرة حياة روسو بعنوان: اعترافات، التي نشرت بعد مماته على بيان دور الأدب الحديث في مجال النقد الذاتي. وكانت حساسية روسو نحو الطبيعة قد أعادت إدخال مشاعر من التفكير العميق والشعر في الأدب الفرنسي. وتظهر هذه الحساسية بوضوح أكبر في أحلام اليقظة للمتجول الوحيد، وهناك عدد آخر من الكتاب أسهموا في عصر العقل، فقد كتب مونتسكيو نقداً اجتماعياً ساخراً في رسائله الفارسية، وكتب بيير بو مارشيه بعض الهزليات الساخرة مثل: حلاق أشبيلية، وزواج فيغارُو، وكلتا الروايتين تعالج طبيعة الامتيازات الأرستقراطية غير المعقولة وأسهمتا في الأفكار التي أدَّت إلى تكوين وعي اجتماعي بضرورة الإصلاح، ثم في اندلاع الثورة الفرنسية (1789 – 1799).
وبما يخص الرومانسية والواقعية والرمزية إلى ما قبل القرن العشرين، كتب كثير من المؤلفين الرومانسيين روايات تاريخية على غرار ما فعله الكاتب الأسكتلندي السير وولتر سكوت. وكتب ألكسندر دوماس (الأب) الرواية التاريخية المشهورة الفرسان الثلاثة (1844) التي وقعت حوادثها خلال فترة حكم الملك لويس الثالث عشر وذلك في القرن السابع عشر الميلادي. وأظهرت رواية فيكتور هوغو أحدب نوتردام (1831) الذوق الرومانسي المتعطش للقرون الوسطى، واندفع بعض الكُتَّاب الرومانسيين نحو أسلوب آخر في القصص يميل إلى الواقعية. وينضوي في قائمة هؤلاء المؤلفين كل من أونوريه دو بلزاك، وجورج ساند، وستندال الذين احتفظوا بكثير من الخصائص الرومانسية في أعمالهم. ولكنهم عدلوا عن رومانسيتهم ونظروا للحياة بواقعية أكثر.
في حين ان الواقعية هي فكرة أدبية انبثقت إلى حدٍّ ما رد فعل ضد الرومانسية. وكان الواقعيون يعتقدون بأن الفن يجب أن يصور الحياة بطريقة صحيحة ومضبوطة وأمينة وموضوعية. وعندما حلّ منتصف القرن التاسع عشر كانت الواقعية قد سيطرت على الأدب الفرنسي، وكان غوستاف فلوبير الممثل الرئيسي للواقعية الفرنسية، أدى النقد الأدبي دوراً بارزاً في الأدب الواقعي، وكان له تأثير كبير فيما بعد على النقد الأدبي، وكان في مقدمة كتَّاب الأدب الواقعي شارل سانت بوف. وكان يعتقد بأن العمل الأدبي يجب أن يدرس من خلال حياة المؤلف وشخصيته. كذلك فإنه كان يضع شيئاً من الأهمية على البيئة الاجتماعية والخلفية التاريخية التي حدث فيها ذلك العمل الأدبي، وهذه إلى حدٍّ ما فكرتي خاصة عند كتابة السير الذاتية للشخصيات أياً كان نوعها، يجب دراسة الشخصية جيداً وفهمها من خلال تسلسل حياتها والظروف التي كانت تعيشها إلى جانب البيئة وعوامل أخرى.
ثم ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي حركة عرفت باسم المدرسة الطبيعية، وكانت هذه الحركة نوعاً متطرفاً من الواقعية. ويرى الكُتَّاب الطبيعيون أن العمل الطبيعي الأصيل متشائم وكثيراً ما ينتقد الظلم الاجتماعي. وكانت الحركة تتبع فلسفة عُرفت باسم التحديد، في حين أن الرمزية ظهرت أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. واستعمل هذا المصطلح للدلالة على عدد من الكتاب الفرنسيين الذين لا ينتمون إلى هذه الحركة بعينها، وفي القرن العشرين سيطر أربعة من المؤلفين على الأدب الفرنسي. وكان هؤلاء هم بول كلوديل، وأندريه جيد، وبول فاليري، ومارسيل بروست. وقد وُلِد كل هؤلاء حوالي عام 1870، كما أنهم جميعاً مروا بمرحلة الرمزية في حياتهم الأدبية الأولى. وعندما حل عام 1920 كان كل منهم قد اعترف به أستاذ للأدب الفرنسي، منذ الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين أضحى هناك تطوران رئيسيان في الأدب الفرنسي. أما التطوّر الأول فكان في ظهور مسرح اللامعقول. وقد دأب كتاب المسرحية في هذه الحركة على محاولة إظهار ما يعتقدون أنه طبيعة الحياة التي هي بالضرورة لا معنى لها. وكان صمويل بيكيت الأيرلندي وأوجين يونسكو الروماني زعيمي حركة اللامعقول وكان كلاهما يكتب بالفرنسية كما كانت أعمالهما المهمة قد ظهرت في مسارح باريس، أما التطور الرئيسي الثاني فقد كان الرواية الجديدة.
إذاً، إن الأدب الفرنسي تطور بحسب الظروف التي عاشتها أوروبا، وظهرت بوادر الحرية في التعبير سواء في المسرح او الشعر أو الرواية، سخطاً أو مدحاً للأحوال التي كانت سائدة، ثورية وعاطفية، واقعية ووجدانية، ومما لا شك فيه أن الأدب الفرنسي له بصمته الرائدة ومدرسته الخالدة التي استلهم منها كتّاب كثر حول العالم.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.