خلال عدة عقود أعقبت قيام الثورة اليمنية سبتمبر 1962م وأكتوبر 1963م ، كان التموضع السياسي للدولتين الشطرية في شمال وجنوب اليمن في إتجاهين متضادين الشمال الذي هيمنت عليه القبيلة والأنظمة العسكرية المتوالية كان يدور في فلك الأنظمة العربية المعروفة بأنظمة الإعتدال العربي بقيادة السعودية، وبخاصة بعد الإطاحة بالمشير عبدالله السلال في الخامس من نوفمبر 1967م الذي كان اتجاهه السياسي نحو مصر عبدالناصر ، فشكّل إنقلاب الخامس من نوفمبر بداية لتوجه نحو معسكر الإعتدال العربي والذي استمر لعدة عقود ، باستثناء فترات زمنية حاولت فيها اليمن الخروج من ذلك المعسكر فترة حكم الرئيس إبراهيم محمد الحمدي الممتدة من 13 يونيو 1974م والتي انتهت بمقتله في 11 أكتوبر 1977م ، او تلك الفترة التي أرادت من خلالها دولة الوحدة اليمنية إعادة التموضع من خلال تبني الموقف السياسي الذي يميل لصالح العراق على خلفية الغزو العراقي لدولة الكويت ، حيث ظهر الصوت اليمني المعارض لمعسكر الإعتدال العربي من أعلى المنابر والهيئات الدولية عبر مندوب اليمن في الأمم المتحدة الدكتور عبدالله الأشطل الذي عارض بقوة قرار مجلس الأمن رقم 660 الذي صدر في 2/8/1990 وهو نفس اليوم الذي دخلت فيه القوات العراقية الأراض الكويتية ، باستثناء تلك الفترات القصيرة ظلت اليمن في محور دول الإعتدال العربي ، أما في جنوب اليمن فكانت دولة اليمن الجنوبي تدور ضمن المعسكر الإشتراكي ودول الرفض العربية أو ما عرف بعد ذلك بدول بجبهة الصمود والتصدي ، موقف اليمن الجنوبي وتموضعها السياسي جرى تحديده سلفًا ومن وقت مبكر حتى قبل الإستقلال ، بنيوية القوى التي قاومت المستعمر بإيدولوجيتها اليسارية التقدمية هو الذي دفع وزير خارجية الاتحاد السوفييتي ” أندريه غروميكو” أثناء زيارته للقاهرة في أكتوبر 1967م أن يدلي بتصريح صحفي يؤكد فيه أن جنوب اليمن سوف تستقل وتصبح دولة اشتراكية ، لقد تمت عملية تقاسم النفوذ في مرحلة الحرب الباردة بين شمال موالاً للغرب ولدول الإعتدال العربي ، وجنوب تقدمي مع المعسكر التقدمي العربي .
المشهد الحالي في اليمن الذي يعاني حربً شرسة أمتدت لمعظم مناطقه ، التوصيف المتفق عليه أنها حرب بالوكالة بين معسكرين المعسكر القديم الحديث الذي تقوده المملكة السعودية والمعروف بدول الإعتدال العربي الموالي للغرب والولايات المتحدة والمعسكر الآخر المضاد الذي تقوده إيران مدعومة من روسيا والصين ، وفي ضوء غياب تام للدولة اليمنية أو ما يُعرف بالشرعية ، في وضع كهذا يجري في أروقة السياسة الدولية ودهاليزها الضيقة ، الاتفاق على رسم نظام إقليمي جديد يضمن مصالح الدول العظمى ودول الإقليم ، في نظام إقليمي جديد أين ستتموضع اليمن مع محور إيران سوريا العراق روسيا الصين ، ام في إطار محور السعودية الإمارات بريطانيا الولايات المتحدة ، على الأرض القوى المحلية هي التي ستحدد ذلك ، العالم لايعترف إلا بالوقائع على الأرض ، معركة مأرب على سبيل المثال يمكن لها أن تكون عامل حسم في مسألة التموضع المستقبلي في حال انتصر طرف على الآخر هو من سيفرض شروطه ويملي إرادته على الطرف الآخر ولهذا يمكن قراءة إصرار الحوثيين للسيطرة على مأرب ، ايضًا هناك عامل رئيسي هو الذي سيفرض نفسه في حالة وجود تسوية سياسية تفضي إلى وقف الحرب بناءً على خارطة طريق سياسية تتم التسوية من خلالها حينها فقط القوى المنظمّة على الأرض هي التي ستفرض إرادتها ، العامل الدولي والإقليمي يتجه حاليًا نحو إرضاء الطرف الحوثي فما أن وصل الرئيس الأمريكي جون بايدن إلى المكتب البيضاوي حتى أصدر أوامره لإلغاء العقوبات التي فرضتها إدارة سلفه ضد الحوثيين ولم يكتفي الرئيس الأمريكي بذلك بل أنه عين مبعوثًا أمريكيًا لليمن السيد ليندركينغ وهو نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون إيران والعراق والشؤون الإقليمية متعددة الأطراف في مكتب الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية ، منصب الرجل ومهامه يؤكد التوجه الأمريكي نحو إيجاد حل سياسي في اليمن وفق النموذج العراقي الأمر الذي سيقود إلى إلغاء دور الكثير من القوى السياسية المتموضعة في خندق الشرعية وتحولها إلى قوى صغيرة وبخاصة في ظل توجه دولي لإنهاء دور الحركات الإسلامية والقوى الإسلامية نموذج لن يكون هناك أدواراً حقيقية للإخوان والسلفيين ناهيك أن القوى الأخرى اليسارية والقومية لم يكن لها دور حقيقي وفاعل في سنوات الحرب ، هذا التوجه يجعل القوى المسيطّرة على الجغرافيا والديموغرافيا هي صاحبت القول الفصل في يمن ما بعد الحرب وهذه القوى يقودها الحوثيون ، ، السعودية أدركت تلك المتغيرات السياسية وهذا مايمكن فهمه من تعاطيها مع المبادرة العمانية التي لبت الكثير من مطالب الحوثيين حيث وافقت على 90 في المئة من رؤية (شروط ) الحوثيين لحل الأزمة اليمنية ووقف الحرب وعمدت إلى حث العمانيين في المضي نحو إخراج تسوية سياسية تكفل لها الخروج من المستنقع اليمني حدث ذلك في ظل وجود معارضة قوية من حلفائها في الشرعية لكنها لم تكترث بذلك ما يعني أن التفاوض سيكون بين الحوثيين والتحالف السعودي الإماراتي ، التقارب السعودي مع الحكم في العراق والتقارب الإماراتي مع إيران بدأت بوادره بدأت تتضح أكثر على الأرض حيث أوعزت الإمارات لقوات طارق صالح بالإنسحاب من جنوب الحديدة ، وقبلها بأيام جرى تعميم خبر حول رفض الحوثيين لاتفاقية جدة الموقعه بين اليمن والسعودية في يونيو عام 2000 الإتجاه العام ينحو بالقبول بالحوثيين كطرف سياسي فاعل في المشهد اليمني وهو ما أكدت عليه تصريحات العديد من المسؤلين السياسيين لم يكن أخرها تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان أثناء تواجده في مسقط قبيل يوم واحد على توجه الوفد العماني المفاوض إلى صنعاء ، في ضوء المتغيرات المتسارعة في المشهد اليمني تبقى هناك حقيقة ينبغي الاعتراف بها وهي أن اليمن بات يقترب جيو سياسيًا في أن يصبح ضمن المحور الإيراني ولعقود قادمة ، ونستطيع القول أنه لأول مرة منذ عقود ما بعد الثورة تخرج اليمن من معسكر دول الإعتدال العربي أو المعسكر الموالي للغرب وتلتحق بالمعسكر الآخر ، يحدث ذلك في ظل إنحسار وتراجع كامل لمنظومة العلاقات العربية العربية ، نعم اليمن باتت على مشارف الدخول في محور إيران سوريا أكثر من أي وقت مضى كل الشواهد تؤكد ذلك صراع القوى المحلية المتحاربة وصراع الإقليم وصراع القوى الدولية .
عبدالرحمن الرياني – رئيس المركز الدولي للإعلام والعلاقات العامة IMC