تعددت واختلفت تعريفات اللغة باختلاف مجالات الدراسات والبحوث ذات الصلة، لكن الجامع في هذه التعريفات يؤكد أن طبيعة اللغة ووظيفتها الاجتماعية وتنوع البيئة اللغوية من مجتمع إنساني لآخر هي التي تُصقل جماليات الدراسات والتفاسير وكل الأمور المتعلقة باللغة.
بالتالي، إن أثر الدلالة اللغوية في التفسير يتبين من خلال المحتوى ومن خلال إظهار إهتمام وعناية العلماء والمفسرين باللغة العربية وعلومها، وإبراز مدى التأثير الكبير والفاعل لعلوم العربية في فهم القرآن الكريم وبيان معانيها ومفرداتها، ما يعني أن للغة العربية أهمية كبيرة وبالغة في فهم القرآن الكريم، فكلما كان المسلم ذا بصيرة وعلم باللغة العربية وعلومها، كان أكثر فهماً للقرآن الكريم وتفسيره، وهذا كلام أكده العلماء المسلمين الذين قالوا إن خدمة اللغة العربية إنما هي خدمة للقرآن الكريم، والدفاع عنها دفاعاً عن الإسلام ككل، ومن المعروف أن اللغة العربية احتلت مكانة رفيعة عن المفسرين، فقد وضع ابن عباس (68 هـ) الحجر الأساس للاتجاه اللغوي في التفسير، ثم طور العلماء والمفسرون هذا البناء في العصور المتلاحقة وصولاً إلى العصر الحديث، بالتالي، إن معرفة اللغة العربية شرط في فهم القرآن لأن من أراد تفسير القرآن، وهو لا يعرف اللغة التي نزل بها، فإنه لاشك سيقع في الزلل، بل سيحرف القرآن عن مواضعه، كما أن التفسير اللغوي جزءٌ من علم التفسير، ولذا لا يمكن أن يخلو منه كتاب في التفسير، وظهر التفسير اللغوي من خلال الكتابة في علمين (علم غريب القرآن، وعلم معاني القرآن)، أيضاً هناك مسألة مهمة وهي الاختلاف النحوي بين مدرستي الكوفة، والبصرة، كان له أثر في كتب معاني القرآن، لان قصد مؤلفيها إبراز مذهبهم النحوي، لذا طغت هذه البحوث النحوية على بيان المفردات في هذه الكتب.
من هنا، إن اللغة العربية مبدأ من المبادئ المهمة في بناء الحضارة الإنسانية وتطويرها. فلذلك يعلّم الله أوّل الناس الذي طلبه لبناء الحضارة في الأرض أي آدم عليه السّلام،اللغة على وجه خاصّ. وقال بعض المفسّرين، فإن اللغة التي يعلّمها الله إلى النبي آدم هي اللغة العربية. اللغة العربية لا يمكن أن تفصل من الإسلام، خاصة في مجال التفسير والحديث والفقه والعقيدة والتصوّف وغيرها، لذلك ميّز الله عز وجل اللغة العربية وفاض بها من الخصائص والميزات التي بعضها ظاهر، وبعضها الآخر يحتاج إلى التنقيب والاكتشاف، فلقد تحقق الإعجاز البلاغي القرآني عن طريق اللغة العربية، وبيانه وسلامة معانيه وعباراته، قال تعالى: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، وقوله تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلكم تتقون)، الله سبحانه وتعالى أمرنا بتدبر القرآن الكريم كما في قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب)، والتدبر لا يأتي لمن يقرأ القرآن بغير فهم مفرداته ومعانيه حسب أساليب لغة العرب وهكذا هو التفسير اللغوي، المراد منه بيان معاني القرآن بما ورد في لغة العرب من ألفاظها وأساليبها التي نزل بها القرآن بلسان عربي، ومن خلال التدبر أراد الله تبارك وتعالى تبديد الظلام والكشف للمسلمين عن مراده بقدر ما يسر للعقول من فهم وبقدر ما منحهم من علم، قال تبارك وتعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، فكان هناك معنيين للألفاظ عام وخاص، الأول، ما يشترك في معرفته جمهور العرب، وأما الخاص فهو ما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ لغوية وكلمات غريبة لا يعرفها إلا من له اطلاع وتبحّر في اللغة العربية، من هنا كان الاهتمام بمعرفة هذا النوع الخاص من الألفاظ هو الأهم عمن سواه وأولى بالبيان مما عداه.
واستكمالاً لموضوع تفسير سورة طه المباركة، قال تعالى: (واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قال ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى).
هذه آيات تتناول فصلاً جديداً من قصة موسى عليه السلام كما أشرنا في الموضوع السابق، فبعد أن ذكّره القرآن بما كان من ماضي حياته وهو طفل مقذوف في التابوت، وتابوتٌ مقذوفٌ في اليم، ويمٌ يلقي بالتابوت على الساحل، وكل هذا حول ذلك الوليد الذي جعله الله عزّ وجل نبراساً يمكن أن يواجه أعتى مثالٍ جاء في تاريخ البشرية “الفرعون”، جعل الله عز وجل المواجهة الإلهية لذلك الطاغية الذي ادعى الإلوهية وحمل الناس على عبادته وحده، فيقول الله عز وجل: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري) ومن قبل قال له (اذهب إلى فرعون إنه طغى) ثم يقول له ولأخيه (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك)، هكذا يتكرر الأمر بالتوجيه، تأكيداً لحمل هذه الرسالة وتأكيداً للمهمة الكبرى التي سوف يقومان بها، (إذهب إلى فرعون إنه طغى) إلى جانب ما سبق، هذا كله من باب الاحتفاء والاهتمام بتأكيد رسالة النبيين الكريمين اللذين فاضت عليهما رحمه الله تبارك وتعالى، وجعلتهما من رسل الله الكرام، (واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)، بآياتي هنا تعني بالمعجزات، (معجزة العصا، ومعجزة اليد)، وهما معجزتان رآهما موسى عليه السلام، ولم يكن هارون قد ظهر في الساحة، وإنما يكون الخطاب لأن الله عز وجل، أجاب موسى إلى قوله: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا)، الله عز وجل يجيبه إلى هذا ويقول له: (قد أوتيت سؤلك يا موسى) كل ذلك حدث في البادية حيث كان موسى يناجي ربه، وحيث تحول الموقف من بحث عن النار، أو طلبٍ للدفء أو لهداية الطريق، إلى تكيلفٍ بالرسالة ومناجاةٍ لله تبارك وتعالى.
وهكذا تترتب الأحداث، موسى يتلقى الرسالة كاملة ويعرف واجباته كاملة، ثم إنه سوف يحمل لأخيه بشرى الرسالة ويعرفه بالمهمة التي اختارهما الله عز وجل لها، واصطفاهما لها، (اذهب أنت وأخوك)، وحينها أخوه لم يكن معه في تلك اللحظة وإنما كان في مصر، والحديث مع موسى في قلب الصحراء عند (طور سيناء)، وهكذا يوصيهما الله تعالى بأن يصطصحبا معهما ذكر الله عز وجل، (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري)، (لا تنيا في ذكري) أي لا تغفلا عن ذكري، بل اجعلا دائماً ذكري هو الحصن الحصين لكما، الذي يحميكما في طريقكما ويعنيكما على مهمتكما، لتذهبا بمعجزاتي، وستكون لموسى آيات صغرى وآيات كبرى، ولكن ذلك عندما يحين وقتها.
(اذهب أنت وأخوك بآياتي)، في تفسير ابن كثير، جاءت آياتي بمعنى الحجج والبراهين، وليكن ذكر الله عوناً لهما، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً، وفي تفسير ظلال القرآن لسيد قطب، اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد، اذهبا إلى فرعون، وقد حفظتك من شره من قبل، وأنت طفل وقد قذفت في التابوت، فقذف التابوت في اليم، فألقاه اليم بالساحل، فلم تضرك هذه الخشونة، ولم تؤذك هذه المخاوف. فالآن أنت معد مهيأ، ومعك أخوك، والمعنى اللغوي هنا، (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا بذكري)، قال يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة البصري، لا تضعفا ولا تفترا عن ذكري.
بالتالي، إن سورة طه تتحدث عن أصول الدين الإسلامي وعن البعث والنشور، كما تحدثت في عدد كبير من آياتها عن قصة نبي الله موسى عليه السلام، وكثرت في آياتها لمسات البيان العربي القوي، لتكون اللغة العربية مفتاح تدبر القرآن الكريم، وهذه الميزة التي اصطفانا بها الله تبارك وتعالى.. وللحديث بقية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.