أحمد معبد عبد الكريم (1939)، من علماء الأمة الإسلامية الكبار، الإمام والخطيب ومدرس الحديث بكلية أصول الدين في مصر، حيث درّس مواد الحديث وعلومه من جرح وتعديل ، وتحقيق نصوصه، والتخريج ودراسة الأسانيد، وهو من واضعي معايير الجودة ومواصفات مناهج الحديث وعلومه بالمعاهد الأزهرية، بشهادة الجميع علماً وفكراً وخُلقاً وديناً، هو من كبار علماء الأزهر الشريف والأمة الإسلامية التي تتشرف بهكذا قامة، فكانت رسالة الدكتوراه الخاصة به هي عن (الحافظ العراقي وأثره في السنة)، وهي رسالة علمية في الحديث وعلومه، وكان الحافظ العراقي هو موضوع الرسالة لان لم يجد من تخصص بالكتابة عنه خاصة وأنه كان رائداً نت رواد مدرسة السنة في مصر وخارجها، حتى انتشر تلاميذه وذاعت مؤلفاته في عصره من الأندلس غرباً حتى بلاد الهند وفارس شرقاً، فكان لقبه “حافظ الدنيا”.
قبل الغوص في غمار هذا العالم الكبير، لسعة علمه وعلومه، من المفترض أن يكون عطائه منهجاً متكاملاً يدرس في كافة الجامعات الإسلامية، وأن طالما له القدرة على العطاء ان يكون ضيفاً دورياً على كل الجامعات للاستفادة من منهجه وعلومه، بمن فيهم دولتي الكويت، للاستفادة من تجريته والاحتكاك المباشر مع طلبة العلم، خاصة وأنه من الشخصيات المعتدلة الوسطية والتي تتمتع بقدر كبير من الانفتاح من روح الدين وتعاليمه السمحة، خاصة وأن دروسه إلى الآن مستمرة ومتابعيه بالآلاف، التي لم تتوقف رغ الجائحة فأصبحت تتم عبر الانترنت وهذا استمرارية لعطاء هذا العالم الجليل، المعاصر نسبياً.
الوفاء منا اليوم أن نستحضر هكذا عالم جليل، على عكس البعض الذين يكتبون عن العلماء بعد أن يتوفاهم الله تعالى، لكن تقديراً منا أن هكذا عظماء يجب تكريمها في كل لحظة وكل حين، تكريماً أقل ما يمكن ان نسميه تكريماً معنوياً لشخص على رأس عمله، الذي أفادني شخصياً، خاصة وأنه شلال متدفق بما يملك من معلومات وهو في سنّه هذا، فلا أستطيع القول إلا تبارك الخالق فيما خلق، وهو المتقن كثيراً لتخصصه ومحباً له، وكأني أراه من السلف الصالح الذين كانوا يعشقون علومهم لدرجة كبيرة جداً.
لقد تيتّم الشيخ عبد الكريم طفلاً رضيعاً، لكن حباه الله تبارك وتعالى بعنايته واهتمامه، وأمده بمحبة واسعة للعلم منذ الطفولة، استعمل شغفه هذا في إحياء السنة النبوية الشريفة، تحقيقاً وتعليماً وإشرافاً ونصحاً، كما أشرف على عشرات الرسائل العلمية في جامعتي الأزهر بالقاهرة والإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وله عناية فائقة ومعرفة كبيرة بالمخطوطات، ويعدّ مرجعاً رئيساً فيها، إنه المحدث الكبير الدكتور أحمد معبد عبد الكريم أطال الله في عمره.
العالم الجليل والمحدث الكبير رغم شغفه المبكر بالتفسير وعلومه، لكنه اختار الحديث وتخصص به، من كلية أصول الدين جامعة الأزهر، قسم التفسير والحديث، اللافت أنه تتلمذ على يد فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله تبارك وتعالى حين كان عميداً لكلية أصول الدين وكان رئيس قسم العقيدة حينها، عبد الحليم محمود قامة عريقة رحمه الله، شيخنا الجليل انتهج المنهج العلمي والخطاب العقلي مسلكاً له في الدفاع عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ضد المتربصين بحجة العقل والمنطق، مع ابتسامة ووجه بشوش امتاز به حتى مع المخالفين له، ولم لا وقد تتلمذ وتربى بين كتب الحديث ورجالاته حتى غدا واحداً من كبار رجالات الحديث في وقتنا الحالي وعلماً من أعلامه.
المحدث الكبير، الدكتور أحمد معبد عبد الكريم أمده الله تعالى بوافر الصحة والعمر، (مواليد 1939) من قرى محافظة الفيوم، حفظ القرآن في عمر 13 عاماً، ودرس في الأزهر الشريف، حتى حصل على الشهادة الإعدادية في عام 1954، ثم الشهادة الثانوية في 1961،والتحق بكلية أصول الدين جامعة الأزهر، وتخرج فيها من قسم التفسير والحديث عام 1966، وحصل على الماجستير في الحديث في عام 1969- 1970 ثم الدكتوراه عام 1978، لديه من الخبرة ما يفوق الـ 60 عاماً، قضاها في علم الحديث، محققاً وباحثاً، كما أنه واحد من أهم الباحثين في المخطوطات في الوقت المعاصر؛ وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف.
له جهود كبيرة في علم الحديث، هذا الذي كنا دائماً نتحدث حوله ونؤكد عليه، أن التطوير العلمي مع الحفاظ على الشروط الأساسية تغني العلم وتزيده زخماً بما ينفع كل طالب علم ومتخصص في هذا المجال، حتى للبسطاء منا، فضيلة الشيخ عبد الكريم وخلال تدريسه في المملكة العربية السعودية قام بتغيير المناهج والمواد الدراسية بموافقة المسؤولين ومشورة العلماء فأصبح قسم الحديث لأول مرة يدرس مادة علل الحديث ودراسة الإسناد بصورة لا توجد في أي كلية من كليات الحديث بالسعودية، فقد كان يرى أن شعبة الحديث والتفسير وشعبة الدعوة هما أنفع للطالب وأقرب لتكوينه الإسلامي من شعبة العقيدة والفلسفة؛ لذلك انصب اهتمامه على التفسير والحديث، وكانت رسالته عن الحافظ العراقي وأثره، مبرزاً مكانته، إذ كان إمام مدرسة الحديث في القرن الثامن الهجري حتى عده العلماء مجدد القرن الثامن الهجري في ذلك التخصص، وكانوا يلقبونه كما هو موجود في تراجمه وفي مؤلفاتـه بـ “حافظ العصر”.
من ينقب في مسيرة هذا المحدث الكبير ومناقبه والتي ما شاء الله تعالى مستمرة إلى اليوم، فعدا عن أنه يملك ابتسامة دائمة ووجه بشوش، لديه ذاكرة حديدية حافظ عليها من خلال العودة اليومية إلى كتب التخصص للحفاظ على الأفكار وتجديدها في ذات السياق، ورؤية كتب الحديث لها أجر إذا نويت أنك تطلب الحديث من معدنه، والثواب على قدر المشقة، وأغلب من يدخلون المادة العلمية في الحواسب ليسوا طلبة علم، ولذا فالخطأ وارد، هذا يعيدني إلى باحثي اليوم في أي اختصاصٍ كان، كيف لهم أن يتأكدوا من ترجمات أو روايات محركات البحث الالكترونية في غياب المراجع الأصلية، لا نقل إنها لا تساعد لكنها ليست معياراً للتخصص، ولن تكون أبداً، لأن هؤلاء القامات بلغوا ما بلغوا من خلال الدراسة والتعب والتحصيل العلمي والبحث دونما الاتكال على أحد، ولربما هذا هو الفرق بين علماء الأمس، ومن يقولون عن أنفسهم اليوم إنهم علماء، شيخنا الجليل لديه حكمة رحمانية قرآنية يعتمدها وهي الآية الكريمة: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، هذه الحكمة والعمل والاجتهاد تبين اهتمام المحدث الكبير بعامل الوقت المهم لتحصيل العلم من خلال تخصيص جزء ثابت من الوقت شريطة ألا يأتي يوم وقد ضيّع هذا التوقيت، حيث يقول المحدث الكبير في هذا الخصوص: (خصصت جزءاً من وقتي قبل أن أدخل للمكان الذي أنام فيه يقدر بعشر دقائق لقراءة كتب بعينها بشرط ألا تنقطع يوماً، مادام هناك صحة تمكنني من القراءة، وهذه الدقائق العشر مكنتني أن أقرأ كتباً كاملة مثل “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” من أوله لآخره وهكذا).
رغم ما وصل إليه علماء الإسلام اليوم لكن لا يزال يحتاج إلى الجانب التطبيقي، الذي يجعل المصطلحات الموجودة في كتب المصطلح مطابقة لواقع كتب الحديث الأصلية، فمثلاً المحدث الكبير يورد مثالاً حول هذا الأمر: هناك تعريف المنكر وكذلك للشاذ، لا يتجاوز المثال حديثاً أو حديثين، نحن نحتاج إلى أمثلة تطبيقية كثيرة على هذا، قد يقال: كتب الرجال جمعت المناكير مثل ابن عدي في الكامل والإمام الذهبي في كتابه الميزان. نعم! لكن هذا الجمع محتاج إلى تنقية أخرى؛ لأن مما يذكره مثلاً ابن عدي في مرويات الشخص من ليس منكراً، ومنه من هو منكر، فنحتاج إلى تمييزهم التطبيقي بدلاً من أن يعتبر القارئ أن كل ما يذكر في ترجمة الراوي فهو من مناكيره.
أيضاً الحديث الشاذ مثلاً ليس لدينا في كتب المصطلـح عليـه إلا مثال أو مثالان.. مع أنه يوجد في كتب العلل أو كتب الرواية ما يمكن تطبيق هذا القيد عليه، كذلك بالنسبة لفقه الحديث نحن محتاجون أن نبوب على الموضوعات المعاصرة. أنا أعرف أن بعض الجهات الخيرية الآن تعمل على جمع وتبويب مثل الاقتصاد الإسلامي وأدلته من خلال مرويات السنة ومـن عمل الصحابة والتابعين، ولا شك أننا بحاجة إليه وخاصة أن الاقتصاد الإسلامي الآن يحارَب.
الأستاذ الدكتور عبد الكريم كان له رأي بمسألة الشبهات والرد عليها، إذ لطالما أكد في مقابلاته وكتاباته ودروسه على أن كل ما يطعنون به من شبهات مردود ومفند من العلماء الراسخين على مدى التاريخ، وجميع حججهم واهية أمام العقل الواعي والمنصف، إذ يقول في هذا الشأن: (لا شك أن هؤلاء يستغلون جهل من يسمعهم، والشخص الذي يتكلم أو يخرج المقال أو الحلقة المسموعة أو المرئية باسمه، عندما تدرس تاريخه كله تجد أنه لا علاقة له بهذا العلم الشرعي، وأنا لا أستبعد أن يكون بعض الدارسين للعلوم الشرعية هم من يجهزون لهم المادة العلمية، سواء عن طريق التغرير بهم أو استغلالاً لحاجتهم، وقد قرأت بعض المقالات لأحد الذين يطلقون على أنفسهم لقب “كاتب إسلامي” وفي هذه المقالات ينسب أحاديث لصحيح البخاري، وهي ليست في البخاري أصلاً، ولا في كتب السنة الصحيحة، ولكنها مكذوبة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
في مسألة التحقيق، وكما كنا نشير دوماً في مقالاتٍ سابقة أن تحقيق أي كتاب بدون خطة علمية يكون إضعافاً للثقة بمضمونه، وهذه نقطة مهمة جدّاً في التراث، فالخطة العلمية ضرورية جداً والتزامها ضروري، وكانت هي خطة الأستاذ الدكتور عبد الكريم في ذلك، إلى جانب التعويل على أصول خطية بأكبر قدر ممكن منها في خدمة النص، وأن تكون هناك خبرة علمية مؤهلة للقيام بمثل هذا العمل، إذ يرى فضيلته أن هذه الشروط الثلاثة كفيلة بأن تخرج عملاً علمياً أحسن ما يمكن إذا ما انضم إليها عنصر رابع هو روح هذا كله وهو عنصر الإشراف والمتابعة؛ لأن كل هذه العوامل يمكن أن لا تنجح أو يعرقل كل منها الآخر لو لم تكن هناك قوة حازمة تدير هذه الوسائل الثلاثة بكفاءة، وتوجهها الوجهة السليمة.
وبأمانة كبيرة، يعجز قلمي عندما يتدفق هذا العلم الكبير من أمامي وأشعر بأني أحتاج إلى جانب عمري، عمراً آخر لأصل لما وصل إليه محدثنا الكبير وأقرانه من علماء الإسلام، لكن وبنفس الوقت أفتخر بديني وبأمتي التي أنجبت هكذا علماء مصدر فخرٍ وعزٍّ لنا، هذا الأمر يزيدني تمسكاً بأن كل مكذوب يجب تصحيحه باتباع شروط علماء مدرسة الحديث والأثر، لأن الغاية هي الأجر من الله تبارك وتعالى، بارك الله بشيخنا ومحدثنا الفاضل وأمده بوافر الصحة والعمر الطويل.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب و مفكر/ الكويت