كان ينبغي أن يُنظر إلى القفزة الرهيبة التي نعيشها من الإغراق في المعلومات بنظرة إيجابية، إذ أننا أصبحنا نعيش ما يمكن أن نسمّيه طوفانًا من المعلومات لم يشهدها السابقون، وذلك بعد انتشار وسائل الإعلام المتعددة عبر مواقع الشبكة العنكبوتية، التي تُعتبر بحق أعجوبة من أعاجيب الدنيا، تفوق الأعاجيب السبع المشهورة في العالم؛ لكن ثورة المعلومات هذه لم تخل من السلبيات، إذ صرنا – نحن المتلقين – ضحايا الفبركات والتضليل الإعلامي، والأخبار الكاذبة، والصور والأصوات المركبة، وحروب إعلامية غير شريفة، تؤدي إلى تسطيح عقول الناس برفع التافهين وإهمال المبدعين، ممّا يربك العقل والمشهد، وينشر بلبلة في المجتمعات. ومن سلبيات ثورة الشبكة العنكبوتية أنها أتاحت للعوام أن يناقشوا قضايا فوق مستواهم، وهو ما لاحظه مبكرًا الفيلسوف والروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، عندما قال قولته الشهيرة التي أصبحت تُتناقل بين الكتّاب والمغرّدين: «إنّ أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن يثرثرون في الحانات فقط، دون أن يتسبّبوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا؛ أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل مَنْ يحملون جائزة نوبل»، ووصف هذه الحالة بأنها «غزو الحمقى». لم تكن نظرة إيكو تلك تكبرًا منه، ولكنها كانت نظرة ثاقبة وواصفة بدقة للحالة التي تعيشها المجتمعات الآن بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، التي لعبت أدوارًا في تضليل الرأي العام بما تضمنته من مواضيع سطحية وفبركات وخطابات الكراهية وأكاذيب سواء بقصد أو بغيره. ولا يمكن أن نتجاهل – بالتأكيد – الصفحات والمواقع الجيدة التي تحمل في طياتها رسائل هادفة.
قبل عشر سنوات انتبهت الأمم المتحدة إلى خطورة انتشار الأخبار المضللة والشائعات والأكاذيب؛ لذا خصّصت الأسبوعَ الأخير من شهر أكتوبر من كلّ عام أسبوعًا عالميًا للدراية الإعلامية والمعلوماتية، بهدف «نشر معلومات واقعية وهادفة وواضحة ومتاحة ومتعددة اللغات وعلمية، وفي الوقت المناسب»؛ ولكن شهدت العشر سنوات الماضية ارتفاعًا كبيرًا في المعلومات المضللة، بسبب زيادة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي، وإقبال الناس عليها، واستغلال بعض الدول لهذه المواقع وتوجيهها، فصرنا نقرأ مصطلحات ومسميات إعلامية جديدة لم تكن معروفة في السابق مثل «الذباب الإلكتروني» و«الكتائب الإلكترونية» وغيرها من المصطلحات والمسميات، وتحوّلت هذه المواقع إلى ساحات لتصفية الحسابات، ونشر معلومات كاذبة وشائعات، وأصبحت بعض الدول تبث رسائلها وسمومها عبر هذه الساحات؛ فكانت النتيجة نشر المزيد من البغض والكراهية بين الشعوب، التي غالبًا ما تتلقى ما يُملى عليها بتسليم تام؛ فيما تقول الحقيقة إنّ القائمين بعملية التضليل يهدفون من وراء نشر الأكاذيب والشائعات إلى إلهاء الناس وإبعادهم عن الهموم الأساسية للشعوب، وصرف أنظار الناس عنها، كالتستر على الفشل في السياسات الداخلية، أو التغطية على الأوضاع المعيشية الصعبة، أو إخفاء جرائم الحروب، أو محاولة تغيير سلوك المجتمعات، وغيرها من الأهداف المعروفة أو غير المعروفة. وما يثير الدهشة أنّ هناك من الناس من يميلون إلى الأخبار الكاذبة أكثر من الواقعية؛ فقد قرأتُ دراسة أُجريت في عام 2018 على موقع «تويتر» توصلت إلى أنه مقارنة بالمعلومات الدقيقة، تنتشر المعلومات الخاطئة بشكل أسرع وأوسع نطاقًا، ورأت الدراسة أنه من الصعب مكافحة انتشارها لسببين: كثرة مصادر المعلومات، وسرعة الانتشار؛ فوفرةُ مصادر المعلومات تجعل مهمة القارئ في تحري صدقية المعلومات أكثر صعوبة. وقد نشر الباحث الفلسطيني حسن العاصي في مقال تحت عنوان «الإغراق الإعلامي.. تصنيع الكذب والتضليل»، في موقع «شبكة النبأ المعلوماتية» أنّ المعهد الأمريكي «ماساتشوستس» للتقنية، أجرى دراسة شملت حوالي 130 ألف خبرًا كاذبًا وإشاعة على موقع تويتر، أشرف عليها باحثون متخصصون، توصلت إلى أنّ الأخبار الزائفة تنتشر بصورة أسرع كثيرًا بمعدل ست مرات من تلك الأخبار الحقيقية، وأنّ نسبة المتابعين لهذه الأخبار الكاذبة أكثر بعشرة أضعاف من الذين يتابعون الأخبار الحقيقية، وأنّ مستخدمي تويتر أعادوا تغريد الأخبار الكاذبة بصورة مبالغ فيها. وفي اعتقادي أنّ ما خلصت إليه هذه الدراسة، هو أمر يستدعي الوقوف عنده، خاصةً من أصحاب القرار؛ فالناسُ ( قد ) يملكون فطرة سليمة، إلا أنه ليس لديهم الوقت للتحقق من صحة المعلومات، وهل ما يتم نشره لا يخلو من أجندات وأهداف معينة؟ ولا يخفى ما تعرضت له عُمان من هجمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الماضية، بهدف إثارة الخوف والشك بين الناس.
ولا يفوتني أن أعرج على أبرز صور التضليل الإعلامي مؤخرًا، حيث جُيّشت الجيوش الإلكترونية للهجوم على رجل حُرّ نطق بالحق؛ فتصدّر اسمُه المنصات العربية، لأنّ هذه الجيوش تكالبت عليه، وحاولت نسف تاريخه وتجريده من كلّ مكرمة، وألصقت به كلّ مذمة، وطالبت بوضعه على قائمة الإرهاب الدولية، في صورة واضحة للتضليل ولقلب الحقائق، والابتعاد عن الإرهابيين الحقيقيين.
وإذا كان الكاتب البحريني علي فخرو يرى أنّ المطلوب بعد أن أصبح موضوع التضليل الإعلامي موضوع كتب ومجلدات، «بعد أن أصبحت وراءه جهات استخباراتية أو مصالح كبرى، وبعد أن صار أحدَ أهم ساحات التنافسات والصراعات الدولية. الكل يريد الاستيلاء على عقول الناس ومشاعرهم وأرواحهم، فالمطلوب من شباب وشابات الحركات السياسية العربية، أن يعوا موضوع التضليل الإعلامي بكلّ جوانبه، لأنّ بعض الجهات ستستعمله في مواجهة أحلامهم وطموحاتهم والشعارات التحررية التي يطرحونها»؛ فإننا في عُمان أحوج ما نكون إلى التركيز على هذا الجانب؛ وما المانع أن تكون لدينا حصةٌ باسم «الأخلاق» من بداية الصفوف التعليمية الأولى إلى الجامعية، يتم فيها تدريس النشء أخلاقيات التعامل مع هذه القنوات، بعد أن ثبت أنها تلعب دورًا هامًا في تغيير أفكار الناس، وأنها أصبحت ساحة ومرتعًا هامًا للحروب غير المسلحة والتي لا يطلق فيها رصاصة واحدة؟! فما نراه ونقرأه من ردود بعض الشباب العماني وتعليقاتهم يندى له الجبين، بمعنى أننا لم نستطع أن نجاري الآخرين في أسلحتهم، وكذلك فإنّ من يقرأ بعض التعليقات على تصريحات المسؤولين يُفاجأ بمستوى الانحدار الأخلاقي ممّا يُنذر بالخطر مستقبلا.
تشير بعض الأبحاث إلى أنّ أهمّ العوامل التي تساعد في التعرف على المعلومات الخاطئة وتمييزها هي مقدار التعليم الذي يتمتع به الشخص ومحو الأمية المعلوماتية التي يمتلكها، هذا يعني أنه إذا كان لدى الشخص معرفة أكبر بالموضوع الذي يقرأ فيه، أو كان على دراية بكيفية البحث عن المعلومات وتقديمها، فمن المرجح أن يتعرف على المعلومات الخاطئة ويكتشفها، وهذا في اعتقادي هو ما يحتاجه كلّ فرد منا، لأنّ وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الآن الوسيلة الإعلامية الأهم والأكثر انتشارًا.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي.
جريدة عمان. عدد الأثنين 8 نوفمبر 2021م.