الذي يجري في قرية العراقيب النقبية لا يصدق ولا يخطر بالبال، فمن يتصور أن تقوم جرافات الاحتلال الخميس 2020-8-27، بهدم القرية للمرة المائة وسبعة وسبعين على التوالي، وقد شاركت قوات كبيرة من شرطة الاحتلال ووحداته الخاصة التي قامت باقتحام القرية وحماية الجرافات التي تقدمت نحو بيوت القرية وحولتها إلى ركام، وتواصل سلطات الاحتلال هدم قرية العراقيب، منذ عام 2000 في محاولاتها المتكررة لدفع أهالي القرية للإحباط واليأس وتهجيرهم من أراضيهم. وهذه هي المرة السادسة التي تهدم فيها السلطات خيام أهالي العراقيب المتواضعة، منذ مطلع العام الجاري 2020، بيد أن الأهالي يعيدون بنائها من جديد كل مرة من أخشاب وغطاء من النايلون لحمايتهم من الحر الشديد في ظل الأجواء الحارة وجائحة كورونا.
وتسود هناك بين أهالي النقب حالة من الغضب والسخط جراء السياسات الاحتلالية التي ترمي إلى اقتلاع أهل النقب من قراهم وأراضيهم، في مشهد تعبر فيه قرية العراقيب الواقعة بين مدينتي رهط وبئر السبع عن جوهر القضية، وتستحضر البدايات والتاريخ وتشكل نموذجًا للصراع والتحدي بين أصحاب الأرض والحق والتاريخ وبين الغزاة من بني صهيون.
ففي العراقيب، تقوم سلطات الاحتلال في كل مرة بهدم القرية بما فيها من منازل ومعالم على رؤوس أهلها، وذلك في جريمة أخرى للسيطرة على الأرض، وتهجير سكانها الأصليين، وجاء في تقرير فلسطيني أن السكان العرب الذين يلجأون إلى مقبرة البلدة بعد كل عملية هدم عازمون على البقاء، الأمر الذي يقلق سلطات الاحتلال التي تهدد بين المرة والأخرى بتقديم السكان العرب للمحاكمة، وإلزامهم بدفع تكاليف آليات الهدم التي تعمل على هدم بيوتهم بشكل دوري.
وفي المشهد العربي النقبي أيضًا، تلك الصرخة التي أطلقها أهالي قرية”أم الحيران”، في مواجهة قرار الاحتلال هدم القرية وتحويلها إلى مستعمرة صهيونية، فقد أثار قرار لمجلس البناء الإسرائيلي بتحويل القرية الى مستوطنة باسم “حيران”غضباً واسعاً في أوساط سكان القرية، ونقلت صحيفة يديعوت أحرنوت عن عدد من سكان القرية قولهم: “إننا سنموت على أرضنا ولن نتركها، فهم يريدوننا أن نكون على الطرقات كالحيوانات”، مضيفين: “إنهم سيواصلون النضال ولن يتركوا أراضيهم ولو أدى الأمر إلى استخدام العنف أو وسائل قتالية”.
وحكاية أم الحيران تأتي في أعقاب حكايات أختها قرية العراقيب النقبية، حيث هناك حكاية فلسطينية ملحمية، يسطرها أهالي العراقيب في التصدي لبلدوزرات الاحتلال التي قامت حتى قبل أيام بهدم القرية للمرة ال: 177 على التوالي، ولم ييأس أهل القرية الذين يصرخون مع كل عملية هدم: “سنموت على أرضنا.. ولن نيأس.. أنتم سوف تيأسون”. إنها حكاية سيزيف الفلسطيني الذي لا يكل أبدًا من إعادة بناء بيوت القرية المهدمة.. الاحتلال ينفذ 177 عملية هدم… وأهل القرية يقومون ب177عملية إعادة بناء للقرية، فيا لها من ملحمة صمودية تتوج تاريخًا مشرفًا في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.
وفي سجل النقب يصل عدد السكان العرب اليوم الى نحو 250 ألف عربي، يملكون نحو مليون و100 ألف دونم، بينما بدأت عملية التهجير هناك بعد النكبة عام 1948، حيث تم تهجير 90% من عرب النقب إلى خارج الحدود، واستولت الدولة على أرضيهم، علمًا أن مساحة أراضي عرب النقب كانت تصل قبل النكبة إلى نحو 11 مليون دونم، ولم تتوقف سلطات الاحتلال عند تهجير من هجرتهم عام النكبة، بل واصلت عملية التهجير الداخلي لمن تبقى من أهل النقب صامدًا، وتوثق الشهادات الفلسطينية هناك. إن محاولات التهجير وسلب الأرض لم تتوقف حتى اليوم، ويجمع أهل النقب على أن: “أرض النقب ملك مقدس لأبناء العشائر قديمًا وحديثًا ومستقبلًا وهي أرض عربية إسلامية لا تباع ولا يساوم عليها”، وفي هذا السياق أجمع عرب النقب على شرف يوم الأرض على وثيقة أطلق عليها “وثيقة أرض النقب”، أكدوا فيها رفضهم لأي مساومة على الأرض، باعتبار أنها أرض عربية إسلامية لا تباع ولا يساوم عليها… في ما يلي نص الوثيقة كاملة:
“بسم الله الرحمن الرحيم
وثيقة أرض النقب
نحن عرب النقب أبناء العشائر والقبائل العربية، عريقة الأصول ثابتة الجذور في النقب على أرضها التي ورثتها كابرًا عن كابر، نحن أصحاب الأرض وملاّكها نعلن لله ثم للتاريخ ولكل العالم العربي والإسلامي والغربي، مستمدين العزم من تاريخنا النضالي ومن إرث آبائنا وأجدادنا نعلن ما يلي:
1- أرض النقب هي ملك أبناء العشائر والقبائل قديماً وحديثاً ومستقبلاً، وعلى هذا تعاملت الحكومة العثمانية وحكومة الانتداب البريطاني.
2- أرض النقب هي أرض عربية إسلامية لا تُباع ولا يُساوم عليها ما دام فينا عرق ينبض.
3- نحن أصحاب الحق الشرعيين وملاّك الأرض؛ لم ولن نوكّل أحداً من الأجسام والهيئات والشخصيات أن يمثّلنا أو أن يتحدّث بإسمنا أمام المؤسسات المتنكرة لحقنا.
4- أرضنا ملك مقدّس لأبناء مجتمعنا العربي البدوي تنتقل ملكيتها من الآباء الى الأبناء وتُصان بمهجنا، ولن نرضخ لأي قرارات تحرمنا حقنا مهما تعاقبت اللجان والدول.
5- جاءت هذه الوثيقة حرصاً منا على شرفنا الوطني وعلى أرضنا المقدسة والتي لن نفرّط بذرة تراب منها مهما بلغت التضحيات، ولنا كامل الثقة بدعم مجتمعنا العربي لوقفتنا هذه محلياً وعربياً ودولياً وذلك من خلال تبنيه موقفاً صلباً، لحشد تأييد كل الشرفاء في هذا العالم لقضيتنا العادلة حتى تعود الأرض لأحضان أصحابها.
والله ولي التوفيق”.
وما حكاية أم الحيران والعراقيب؛ إلا غيض من فيض الحكايات الفلسطينية المفتوحة، فالمشهد الماثل في هذه الأيام في فلسطين.. في مدنها وقراها وخربها وأمكنتها المختلفة، هو ذلك المشهد التدميري الذي لا يبقي ولا يذر من الأرض والعرب شيئًا. فنهج التدمير والتهديم يمتد من العراقيب النقبية في الجنوب الفلسطيني، مرورًا بيطا وأخواتها الخليليات، وصولا إلى طانا الواقعة على مقربة من نابلس شمالي الضفة الغربية، تلك هي المساحة التي تتحرك فيها وعليها بلدوزرات الهدم والتدمير والتخريب والاقتلاع والتهجير الصهيونية، بلا توقف أو كلل، فالهدف الكبير لديهم كان منذ ما قبل إقامة دولتهم، وما زال ساريًا إلى اليوم هو: هدم وتدمير وتنظيف الأرض من معالمها وأهلها وتمهيدها للتهويد الشامل بلا عرب..!
نواف الزرو
كاتب صحفي وباحث خبير في شؤون الصراع العربي – الصهيوني .