جديرٌ بالتأمل ما دأب عليه أحد البرلمانيين عندما كان يتعرض لنقدٍ ما على أدائه؛ أن يفتح صفحته في تويتر ويُطلِق تغريدة نارية من نوعية “الرد الصاعق على مُجيزي الأكل بالملاعق” مفادها أنني أنا البرلماني الفَذّ أعرف هدفك أيها النكِرة من وراء هذا النقد، وهو البحث عن شهرة من ورائي، لكني لن أمنحك هذا الشرف!. لأول وهلة يمكن اعتبار مثل هذا الكلام قابلًا لأن يكون صحيحًا، لولا أنه يُوجَّه أحيانًا -وبالصيغة نفسها- إلى من هم أكثر شهرةً من هذا البرلماني، وليسوا بحاحة إلى مزيد منها!.
سأُدرِجه إذن في جمعية محبي الشهرة، الذين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس، والذين يؤمنون أن المرء لا يمكن أن يصل إليها إلا بعد بذل الكثير من الجهد والتعب وسهر الليالي. وفي الحقيقة فإن هذا الطرح أيضًا لا يخلو من الصحة، وآخر برهان عليه هو الروائي عبدالرزاق قُرنَح الذي كان قبل السابع من أكتوبر الماضي في عِداد المغمورين (في عالمنا العربي ومناطق كثيرة من العالم). الآن وقد فاز بأكبر جائزة عالمية في الأدب نستطيع القول إن الشهرة أتتْه منقادة، مكافَأةً له على ما بذله من جهد مضنٍ طوال نحو أربعين عامًا من الكتابة أثمرتْ عشر روايات كانت كافية لإقناع لجنة نوبل بأحقيته للفوز بالجائزة.
لكننا نعرف جيدا أن الشهرة التي مشتْ كسلحفاة لقُرنَح، هي ذاتها التي تركض كأرنب لغيره، بل أكثر من ذلك هي تنطلق كصاروخ عابر للقارات لآخرين، بحيث أن الأربعين عاما التي احتاجها الأديب البريطاني زنجباري المولد ليصبح مشهورًا يمكن اختزالُها في أربعين ثانية فقط لأشهر سارق في مصر، الذي تداولت الفضائيات ووكالات الأنباء ووسائل التواصل الاجتماعي خبره بالصوت والصورة قبل نحو شهر، عندما أقدم على خطف الهاتف المحمول لمراسل مصري تصادف -لسوء حظ السارق- أن هاتفه كان في بث مباشر على فيسبوك، ليشاهد الملايين هذه السرقة العلنية في وضح النهار!. فما هو الجهد المضني الذي بذله هذا اللص سوى قيادة دراجته وتدخين سيجارة احتفاء بما ظنه نجاحه في السرقة!. إن كان قد نجح في شيء حقًّا فقد نجح بشهرته المباغتة هذه، في تحطيم مدة الربع ساعة التي وضعتْها نبوءة الفنان التشكيلي الأمريكي آندي وورهول Andy Warhol في ستينيات القرن الماضي، عندما قال في حوارٍ شهير له إنه في المستقبل سيكون بإمكان الجميع أن يصيروا مشهورين شهرةً عالمية خلال خمس عشرة دقيقة فقط!. هذه المدة التي كان يمكن اعتبارها ضربًا من الخيال في ذلك الوقت، سخِر منها هذا السارق -ضمنيًّا- لأن شهرته لم تحتج إلى أكثر من دقيقة واحدة!.
الدرس الذي نتعلمه من حكاية ذلك اللص أن الشهرة ليست دائمًا نعمة، وإنما تكون نقمة أحيانًا حتى على أولئك الذين يستحقونها، وربما لهذا السبب رأينا ريان جيجز لاعب الكرة الإنجليزي الشهير (بلعِبه وبفضائحه على السواء) يقول بمرارة: “لا أفهم لماذا يرغب الناس حاليًّا بأن يصبحوا مشاهير. لماذا ترغب بأن تكون ملاحقًا من الناس طوال يومك؟”. نعم، فواحدة من ضرائب الشهرة الكثيرة هي ملاحقة الناس للمشهور وعدم تركه ينعم بوقت هادئ مع عائلته وأحبائه، أو حتى مع نفسه، بل إنها -أي الشهرة- تقضي على صاحبها حرفيًّا في بعض الأحيان، كما في مثال الأميرة ديانا، التي كان سبب موتها في حادث سير أليم فرارها من ملاحقة المصورين!
ولو تتبعنا تاريخ المشاهير سنجد عددًا كبيرا منهم لم يسعَوا لهذه الشهرة، وإنما كانت نتيجة طبيعية لأعمالهم (الصالحة أو الطالحة لا فرق)، وإن كثيرًا منهم كانوا يعتبرون مجرد ملاحقتها أمرًا غير لائق، خصوصًا إذا وُضِعتْ هدفًا في حد ذاته لأي عمل، كأن يترشح برلماني مثلًا بحثًا عن الشهرة لا عن خدمة الناس، أو أن يتبرع أحدهم بالمال من أجل الصيت وليس محبةً منه في الإنفاق، وهو ما يذكرنا بمقولة نابليون بونابرت أحد أشهر القادة في التاريخ: “من لا يمارس الفضيلة إلا لاكتساب الشهرة كان أقرب إلى الرذيلة”.