على مدار 100 عام كان الإيمان بوجود إله خالق للكون يبدو كأنه خرافة مضادة للعلم والعقل في الغرب، لكنه ثابت لدى الشرق الذي حسم جدل هذه المسألة ورفض أساساً الخوض فيها، وهنا كأن العلم والإيمان عدوّان لا يمكن أن يجتمعا في عقل، لماذا؟
إن صورة العالم اليوم هي بطبيعة الحال نتيجة لإرادة خالق يحدد كيف يجب أن يكون، فالعلم هو مصدر للمعلومات التي ينتجها العقل والعقل هو إرادة إلهية وضعها الخالق عز وجل للإنسان وميّزه فيها عن سائر المخلوقات، إلا أن هذا الأمر رغم قناعات الطرفين لكنه من أخطر العقبات التي يستطلعها الفكر الإنساني بين مسألة الفكر الإيماني والفكر الإلحادي، فأصحاب الفكر الأخير، ينادون بكينونة إنسانية لا تحمل إلى الإنسان سوى ما ينعقد في صلب تكونها من قابليات ذاتية للانفتاح والانتشار وحتى الاكتمال، أما أهل الفكر الإيماني يعترفون بكينونة إنسانية تنطوي على التحسس الفطري للحضور الإلهي المتسامي الذي يتجاوز دائماً حدود الاختبارات الفكرية، وكما هو معروف أن الخلافة أو الدولة الاسلامية بالمفهوم المعاصر تعني إقامة الدين وسياسة الدولة بما يوافق االله عزوجل، فالدولة الإسلامية مدنية بحتة وفقاً للشريعة وعلى المسلمين تسيسها حسب استطاعتهم، ولم يظهر أشكال الدول التي نراها اليوم إلى بعد إسقاط الدولة العثمانية وبدأت الدول العلمانية تصدر نموذجاً غير مألوفاً خاصة للبلاد الإسلامية، ومطالبات لم نكن نسمع بها قبلاً وهي فصل الدين عن الدولة، وهذا لا يمكن ان يُكتب له النجاح في ضوء اعتماد الشريعة كقانون يسري على الجميع.
هذا الموضوع قديم جديد، وقد كنت طرحته في أكثر من مناسبة وعلى مدار سنوات، لكن دائماً ما تتحفنا فرنسا بمحاربتها للدين الإسلامي وللمسلمين، ودائماً ما تسبب سقطات مدوية بالإساءة إلى الدين الإسلامي بحدة علمانية مبنية على علم ما كان ليكون موجوداً لولا قدرة الخالق عز وجل الذي سخر العلم وجاء في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تحض على العلم، قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)، فكان دور المستعمر خلال الـ 100 عام الأخيرة أن يثبط عزيمة المسلمين لكن لم يستطع أن ينل من عزيمة المؤمنين رغم كل المكائد التي حاكها، فحاول المستعمر الغربي تبديل معنى الدولة الشمولية المتمثلة في الدين والسياسة إلى المعنى الجديد وهي الإلحاد من خلال تقسيم الإنسان إلى روح وجسد، زارعاً فكرة فحواها أن الروح لله والجسد لرغباته الشيطانية وهذا كذب وافتراء، نحن نؤمن أن أرواحنا وحركاتنا وجوارحنا كلها لله تبارك وتعالى، ولولا ذلك ما كانت لتنجح الخلافات الإسلامية على مدار 13 قرناً، قال تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
ضعفت الأمة الإسلامية دون أدنى شك، وبدا ذلك جلياً مع بداية القرن الثامن عشر، عندما بدأ الناس يبتعدون عن الدين ويتنافسون على الأمور الدنيوية، فدب الخلل الذي وجد في الدين والسياسة والفكر والعقيدة، لتكون أصل المصيبة من عندنا، قال تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)، نعم هو من عندنا، فالإلحاد والعلمانية والتبشير والاستشراق وغير ذلك في ضوء الإيمان الحقيقي لا يمكن له ان يحرّف عقيدة أي إنسان مؤمن حقاً وصدقاً، فقط ضعاف النفوس الذين يتبعون شهواتهم ومع الأسف كانوا سبباً مباشراً في نشر ظواهر غير مألوفة في بلادنا، نحن أمة رسالة لكن ابتعدنا عنها، وعندما نبتعد نحن ندنس تاريخنا الإسلامي العظيم، وما أعز العرب وأعزنا غير الإسلام، وكما نعلم فقد ساعد أبناء الأمة الاسلامية الغرب في إسقاط الخلافة ويجب أن نعترف بذلك فمن هنا نستطيع تشخيص المرض وإيجاد الحل، ومع انهيار الأمة رضي كل حاكم بما قسم له من قبل الساسة في سايكس بيكو واجتهد المستعمر في تكريس الاستعمار وتدريب القادة الجدد على المبادئ العلمانية التي ستهدم تماماً بقايا الأخلاق الإسلامية في خطة مجهزة لإبعاد أمة محمد صلى االله عليه وآله وسلم عن القرآن، وهنا يجب الإقرار عن بدء تلمّس هذا الأمر مع الحديث وبكثرة عن الدين الإبراهيمي الجديد، وما مسألة التطبيع إلا للوصول إلى هذه الغاية، وهكذا باختصار بدأت المأساة بإسقاط الخلافة الإسلامية، فأصبحت الحركة بين بقاع الإسلام محدودة كما يريدها الاستعمار.
وهنا وضعنا يدنا على المشكلة وطالما نادينا بالحل وهو العودة إلى القرآن الكريم تأمله وتدبره، فهو المنقذ لنا والحصن الحصين لنا من الضياع، فإن كان البعض مؤمن بالعلمانية ولا يؤمن بالخالق، أكرر هذا شأنه، لكن أن يطبق أفكاره هذه في بلاد تأخذ بمحتوى تفكيره، لا أن يعيش بين بسطاء العالم ويؤثر لعليها مستغلاً جهلها أو بساطتها، نحن هنا لا نتدخل في طبائع الناس شرط أن لا تتدخل في ثوابتنا وعقائدنا، فنحن من أشد المحاربين عندما يقترب الخطر على ديننا الإسلامي، أي نعم لدينا أخطاء لكن هذا ليس مببراً أن نتهاون في السماح لهؤلاء غرباً أم عرباً بالتطاول على ديننا الإسلامي وهذه قاعدة رئيسية يجب أن يعلمها القاصي والداني، وما دفعني لكتابة هذا الموضوع هو صدور كتاب اشترك فيه 20 فيلسوفاً وعالماً وحمل عنوان (العلم يبرهن على وجود الله للمرة الأولى)، فكلمة للمرة الأولى أوقفتني وآلمتني في نفس الوقت، بعد كل ما وصل إليه العلم وكل ما أخذ الغرب عن الإسلام، وعن الأنبياء وبخاصة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، للمرة الأولى يعترفون بوجود الله، لعمري أن هذا العنوان أشد وقعاً من السيوف.
#المألفون
قام بتأليف كتاب “الله العلم البراهين” مفكران: الأول هو ميشيل – إيف بولوريه، وهو مهندس في مجال المعلوماتية وحاصل على شهادة الدكتوراه في مجال العلوم وإدارة شؤون الأعمال من جامعة “باريس – دوفين”.
فعندما انتفض كثيرون للمشروع الغربي نتيجة لهذا الكفر وهذا الإلحاد، حوربوا بكل قوة مع شديد الأسف، ونعتوا بأوصاف كثيرة كأن لا يريودن الخير لأوطانهم أو بالرجعيين وفي أحيانٍ كثيرة سمّوا بالخونة، وسجنوا وعذّبوا لدفاعهم عن دينهم، مثل سيد قطب الذي ألف كتاب جاهلية القرن العشرين وألف تفسيره بواقعية القرن العشرين والمسمى بظلال القرآن، في المعتقل، هذا القرآن لكل زمان ومكان وهذه عقيدة راسخة منذ عهد الإسلام وإلى يومنا هذا، سيد قطب قد أوضح هذه الأمور كوضوح الشمس، مستدلاً بأقوال العلماء من قبله، لكن لم يريدوا التصديق، هذا الأمس يشبه اليوم في توقيت طرح هذا الكتاب الذي أحدث ضجة كبيرة في فرنسا وعموم دول الغرب، حيث تهيمن الفلسفة المادية الإلحادية بشكل شبه مطلق على الجميع، حيث قام بتأليف هذا الكتاب “الله العلم البراهين” مفكران: الأول هو ميشيل – إيف بولوريه، وهو مهندس في مجال المعلوماتية وحاصل على شهادة الدكتوراه في مجال العلوم وإدارة شؤون الأعمال من جامعة “باريس – دوفين”. أما الثاني فهو أوليفيه بوناسييس، خريج مدرسة البوليتكنيك الشهيرة، الكلية المتعددة الاختصاصات والمجالات العلمية. ويبدو أنه كان ملحداً حتى سن العشرين. وبعدئذ هداه الله إلى الإيمان وتخلى كلياً عن الفلسفة المادية الإلحادية. لقد أصبح مؤمناً بفضل الثقافة والتجربة والمعاناة والنضج الفكري أيضاً. أصبح يعتقد أن الإيمان بوجود الله شيء عقلاني تماماً. ولم يعد يعد ذلك خرافة من الخرافات كما يعتقد الملاحدة.
استغرق تأليف هذا الكتاب الضخم منهما ثلاث سنوات متواصلة. كتب مقدمة الكتاب البروفسور روبيرت ويلسون، أحد كبار مشاهير علم الفيزياء الأميركيين من حَمَلَة جائزة نوبل عام 1978. صحيح أنه ليس متديناً على المستوى الشخصي، إلا أنه تحمس للكتاب وقال ما معناه: على الرغم من أن الأطروحة القائلة بوجود روح ذكية أو عقل أعلى يقف خلف الظواهر كمسبب خالق للعالم لا تبدو له كافية إلا أنه يعترف بتماسكها ومنطقيتها. ثم أضاف: هذا الكتاب يقدم منظوراً مهماً جداً عن العلوم الفيزيائية الفلكية والانعكاسات الفلسفية والدينية المترتبة عليها، هذا الكتاب م تأليفه بالاشتراك مع عشرين شخصية من كبار العلماء والفلاسفة. وبالتالي فهو كتاب مشترك، وكتبت عنه صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، (هذا حدث هائل. أخيراً العلم الفيزيائي الفلكي يتوصل إلى البرهنة على وجود الله. هذا الكتاب يقلب كل قناعاتنا السابقة الراسخة. هذا الكتاب يروي لنا ملحمة العالم الكبرى. إنه الكتاب الذي يوضح لنا كيف خلق الله الكون لأول مرة عن طريق الانفجار الأعظم، قبل 14 قرناً من اللاشيء خُلق كل شيء. كنْ فيكون. سبحان الله. إنه لقرآن كريم)، هذا الأمر مفرح ومحزن هل يحتاج الغرب إلى كل هذا الوقت وبشهادة من 20 مؤلف فقط ليعترفوا بأن الله خالق كل شيء ويؤمنوا به، ألم تكن هنالك آلاف الأدلة والبراهين على وجود الخالق وأننا ما خلقنا من العدم، بصراحة لا يمكن فهم طرائق تفكير الغرب، وهل هذا الاعتراف هو دغدغة متأخرة لمشاعر المسلمين أم حقاً قناعة متأخرة لديهم؟
لكن على ماذا اعتمد الكتاب ليخرج بهذه الحقيقة في بلاد الإلحاد والعلمانية؟
معظم الاكتشافات التي تتالت في القرن العشرين تميل إلى ذلك، من بينها نظرية النسبية لأينشتاين، وعلم الميكانيكا الحرارية، ونظرية الانفجار الأعظم الذي أدى إلى تشكل الكون، وعلم الفلك الكوني، وعلم الميكانيك الكمي والموجي، أي الفيزياء التي تدرس اللامتناهي الصغر، وعلم الأحياء البيولوجية واكتشاف الجينوم الوراثي للإنسان، والتعيير العلمي للكون عن طريق قوانين دقيقة صارمة لا يحيد عنها قيد شعرة، يقول المؤلفان: كل هذه الاكتشافات العلمية تخلص إلى النتيجة التالية: أن للكون بداية محددة تماماً، أي أنه مخلوق في لحظة ما، وإذا كانت له بداية فهذا يعني وجود سبب أو مسبب لهذه البداية. وبالتالي فالخلاصة الأكثر منطقية تدفعنا إلى الاعتقاد بوجود روح ذكية تقف خلف الظواهر، أي وجود عقل عُلوي أعظم يحرك كل شيء من خلف الستار. مَن الذي أعطى النقرة الأولى للانفجار الأعظم وخلق العالم؟ باختصار شديد، كل هذا دليل على وجود خالق أعظم للكون. كل هذه الاكتشافات والنظريات تتالى بعضها وراء بعض على مدار القرن العشرين. وهذه المعارف الجديدة لغّمت من الداخل اليقينيات المادية الإلحادية المسيطرة على العقلية الجماعية للغرب. على هذا النحو حصل انقلاب كبير في الفكر إلى درجة أنه يمكن القول إن الفلسفة المادية الإلحادية هي التي تبدو الآن كأنها لاعقلانية وليس العكس! أخيراً انتصر الإيمان على الإلحاد. ولكنه الإيمان بالمعنى الفلسفي الواسع لا الأصولي الضيق. أنه إيمان واسع سعة الكون.
من هنا، هل يظن هؤلاء أن الحضارة الغربية لم تكن موجودة في زمن الرسول صلى االله عليه وآله وسلم؟ نحن أمة رسالة ولسنا أمة حب الدنيا، ألم يأخذ الغرب من علوم ابن سينا وجابر بن حيان والبيروني والغزالي وهذا قبل زمن طويل، فكيف مع امتداد وتطور الحياة، كانت لهم نظرياتهم وكانت لنا نظرياتنا، من الحساب إلى الثقافات المختلفة والجغرافيا والتاريخ واللغة والنحو والقواعد وكل شيء، حتى التراجم، ورغم ما اطلعنا عليه لكن خلافاتنا على امتداد سنين حكمها أخذت وانفتحت على الحضارات الأخرى وأظلت ملتزمة بتعاليم الله عز وجل وخرجت مدارس الحديث والفقه والقرآن واللغة وغير ذلك، جنباً إلى جنب مع الأمور الأخرى إن كانت في العمران وغيره، عدنا إلى القرآن الكريم: كنْ فيكون! من اللانهائي الصغر بحجم رأس الدبوس أو أصغر بمليون مرة خُلق اللانهائي الكبير: أي هذا الكون الهائل الضخم بكل أفلاكه وكواكبه ومجراته.
تحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر/ الكويت.