في كل سيرة ذاتية، تحمل رحلة الغوص فيها الاطلاع على تاريخٍ طويل من العطاء، تاريخ لم يتكرر وربما لن يتكرر، الندرة ليست في الشخصية، بل بالمجهود الذي بذلته لتحقيق الخلود ليس للاسم بقدر ما هو تخليد للعلم، للمعرفة، للتاريخ وللقيَم التي نفتقدها في حاضرنا اليوم.
ليس سرّاً، أن عملية البحث وسبر أغوار واضعي العلوم ومطوريها ومجدديها، تُلهم البعض في العصر الحديث، فبعض العلماء استفادوا من الزمن الحاضر واستغلّوه أفضل استغلال، عاشوا مع العلوم ونهلوا منها، لدرجة أن أصبحت هناك علاقة متماهية فريدة، لا نعرف ماذا يمكن أن نسميّها، وفي كثير من المقالات والأبحاث ذكرنا حضارة الأمة الإسلامية والموروث الضخم الذي تركته للأجيال الحديثة، ومع ذلك قلّة من هم استطاعوا حرفياً أن يطوّروها بما يخدم الجميع، عندما وضعوا المحبة ورسموا البسمة ونشروا الفائدة، ونادوا “هبّوا إلى العلم”، بكل تواضع، هم رُسُل العصر الحديث، لتبليغنا أسرار الموروث الإسلامي، وشرحه بياناً وبلاغة وأحكام وفقه وتشريع، لذلك نفخر أنّ في أمتنا أسماء لامعة أشعت ولا تزال تشع رغم رحيلها، كمناراتٍ تهدي الجميع إلى دقة الهدف والطريق.
ففي التنقيب عن شيخ المحققين محمود محمد شاكر أبو فهر، رائد من رواد تحقيق التراث العربي الإسلامي، نجد أنه أمضى حياته في رحلة علمية طويلة وعطاء فياض لخدمة الإسلام والدفاع عن أصوله ومبادئه والوقوف أمام تيارات الحداثة والتغريب والرد على أذناب التنوير المزعوم، التنوير الذي يُراد منه هدم نور الإسلام الذي أشرق ضياءً على الأمة الإسلامية، تألق اسمه في سماء الأدب العربي، خاصة تحقيقه العديد من أمهات كتب التراث العربي والإسلامي، حيث كان صاحب بيانٍ لا يُجارى في دنيا الأدب، ويملك أسلوب لا يُبارى في دنيا الكتابة، تقرأ له فتسمو نفسك وتعلو مشاعرك حتى تكاد تلامس نجوم السماء، يأسرك أسلوبه الجزل، ويروعك تركيب جمله وعباراته، ويبهرك روعة استشهاده وحسن تأتِّيه، ويخلبك تخيُّره لمفرداته وانتقاؤه لكلماته، وإذا وقع الاختيار منه على كلمة غريبة أو غير مألوفة، لم يدعها حتى يشرحها، فإذا ما شرحها استبان لك أنَّ كل مرادفاتها التي قد تخطر في البال لا يمكن أن تفيَ بمعناها، أو أن تحِل محلَّها في بنيان ذلك التركيب، نعم هو القارئ الفهم، والمتذوق الحصيف، والناقد المتبصِّر لإبداعات العرب في شتى فنون الفكر والتاريخ والأدب ولاسيما الشعر، نشأ مشغوفاً بالشعر، منهوماً بالأدب، كلفاً بالتاريخ، وسلخ شبابه يعمل في العربية حتى أمكنته اللغة من قيادها وألقت إليه بأسرارها، فمن الطبيعي أن يكون شيخ المحققين، أخرج لقراء التراث أسفاراً لا يقوى عليها إلا أمثاله من فحول التحقيق.
العالم الموسوعي محمود شاكر الذي نُشرت أمامه العربية كلُّها فراح يعُبُّ منها ويرفدنا بسيل من المعارف، ففي آثاره ما شئت من فقه باللغة، وبصرٍ بالعربية، وتذوّق للشعر، ومعرفة بالتفسير، ودراية بالحديث، ورواية للأخبار، وتتبُّع للآثار، وحفظ للشواهد، وتمثّل للتاريخ، وتحليل لوقائعه تحليلاً لا يرقى إليه نوابغ المختصين فيه. وإلى هذا كله ذهن لمّاح، وبصر حديد نافذ. وحسن مواتاة أوفى فيه على الغاية، وصار مضرب المثل، فمن هو شيخ المحققين العلامة محمود محمد شاكر؟
الشيخ محمود شاكر هو أحد أشهر الأدباء والمحققين لكتب التراث في التاريخ الحديث. فقد حقق الشيخ مجموعة من كتب التراث، كما كان له دورٌ كبير في الدفاع عن التراث والسنة بقلمه، فقد تصدر لبعض من شككوا في التراث بقوة علمه وإيمانه الكبير، ولد محمود محمد شاكر أحمد عبد القادر في مدينة الإسكندرية، من فبراير/ شباط عام 1909 لأسرة من أشراف مدينة جرجا في صعيد مصر. وامتد نسبه إلى سيدنا الحسين عليه السلام، ونشأ في كنف أسرة محافظة ومتدينة فوالده كان شيخاً لعلماء الإسكندرية، ثم وكيلاً في الأزهر، ما جعل منه يتربى تربية شرعية منضبطة وأدبية على أعلى مستوى، وكان من المبدعين في اللغة الانكليزية، وأهم ما عُرف عنه أنه كان كثير الجلوس في الأزهر، ورغم أنه كان محباً للغة الانكليزية والرياضيات لكنه اختار كلية الآداب والعلوم الإنسانية من مبدأ أن للقلم سحراً وأن أهمية القلم تكمن في رسم مستقبل الأمة.
قبل الغوص في معارك محمود شاكر، التي بدأت في تلقيه التعليم في كلية الآداب، بعدما سمع من أستاذه، عميد الأدب العربي، طه حسين، معلومات خاطئة، لم يكن في البداية يستطيع مواجهته، وهذا الأمر نتج عنه قرار قد يكون مصيري بالنسبة للشيخ محمود شاكر وهو تركه للجامعة، وقراره الهجرة إلى المملكة العربية السعودية، العام 1928، وأنشأ مدرسة ابتدائية في جدة، بطلب من الملك عبد العزيز آل سعود ومكث عام واحد وعاد إلى مصر عام 1929 بطلب من والده، وفي العودة بدأت الرحلة، فقد مكث العلامة منكباً على القراءة والكتابة وقراءة دواوين الشعر، إلى أن بدأ يكتب بعضاً من الشعر الذي كان يتسم في تلك المرحلة بالرومانسية ونشر بعضاً منه في مجلتي (الفتح، والزهراء)، واتسمت أيضاً تلك الفترة باتصاله بأقرانه من الأساتذة والمفكرين مثل أحمد تيمور وأحمد زكي باشا والخضر حسن، كما كوّن مع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي علاقة صداقة مرافقة لعلاقة الأستاذ وطالبه.
معارك أدبية
لم يكن محمود شاكر الأول في نقده، تصويبه للأخطاء التي جاء بها أشستاذه طه حسين، فالتاريخ مليء بالشواهد التي تبيّن أن الطالب قد يتفوق على أستاذه ويصوّب له، ليس بداعي الاستعلاء، بل من يكون واثق من معلوماته يرى أن التصحيح واجب شرعي وأخلاقي، وعلى المخطئ أن يتقبل ذلك، وإلا نكون أمام مشكلة حقيقية في حال رفض الاعتراف بالخطأ، مثل عمرو بن العلاء، والأصمعي، وأبي إسحاق النظّام والجاحظ، والمرعي وتلميذه ابن سنان الخفاجي، وفي زمننا المعاصر نجد محمد عابد الجابري وجورج طرابيشي التي أراد أن يتفحّص بها أخطاء الجابري وسقطاته في (نقد العقل العربي)، لنصل إلى موقف محمود شاكر من أطروحات طه حسين، لطالما تحدث شاكر عن (الزلزال) الذي أحدثه طه حسين في نفسه حين كان طالباً في الجامعة يستمع إليه وهو يشكّك بنبرته الساخرة في كل شيء، ومن بين تلك المواقف أيضاً، موقف محمود شاكر من أطروحات طه حسين، ويمكن أن نقول ابتداءً: إنك لن تفهم إنتاج محمود شاكر، وتستوعب بواعث صاحبه وغاياته منه، ما لم تقرأ المحرّض الأكبر له، طه حسين، في الواقع فإن المشروع العلمي لمحمود شاكر يكاد يكون تفنيداً طويل الذيول وممتد الحواشي لأفكار طه حسين وأطروحاته المفارقة، لطالما تحدث شاكر عن (الزلزال) الذي أحدثه أستاذه عميد الأدب العربي في نفسه حين كان طالباً في الجامعة يستمع إليه وهو يشكّك بنبرته الساخرة في كل شيء، يقول شاكر مثلاً: “ومضت سِنون، حتى دخلتُ الجامعة، وسمعتُ ما يقوله الدكتور طه في كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي رجّ حياتي رجّاً شديداً زلزل نفسي … فُوجئنا جميعاً بالدكتور طه، وبصوته الجهير، وبألفاظه العذبة، وبحسن تعبيره عن مقاصده، ثم بإنكاره صحةَ الشعر الجاهلي … وأنا وحدي من بين جميع زملائي تجرّعتُ الغيظ بحتاً، ووقعتُ في ظلامٍ يُفضي إلى ظلام، وفي حيرةٍ تجرّني إلى حيرة، وهالني هذا الطعن الجازم في علماء أمّتي، وفي رُواتها، وفي نُحاتها، وفي مفسّري القرآن ورُواة الحديث، وبقيتُ أتلدّد يميناً وشمالاً زمناً متطاولاً”.
هذا الأمر كان سبباً في أن يقطع أبو فهر دراسته الجامعية، ويهاجر إلى الحجاز، فقد كان يرى أن نسف الشعر الجاهلي من الوجود يعني حرق الوثيقة الأهمّ التي تُظهر تفوُّق الجيل الذين تنزّل عليهم القرآن، وتحدّى بلاغتهم الفائقة ببلاغته المعجزة، ولأن أصحاب هذا الشعر الجاهلي هم الذين نُزّل عليهم القرآن العظيم، فإذا زالت هذه الوثيقة الشعرية البليغة، فما الذي يجعل الأجيال اللاحقة تسلّم بتحقق الإعجاز؟ فالعلاقة التاريخية وثيقة بين الشعر الجاهلي وإعجاز القرآن، فقد كان طه حسين يحاول أن يؤصل أن الشعر الجاهلي هو من تأليف المسلمين ليفسروا به القرآن، إلا أن الشيخ شاكر قرأ هذه الشبهة في مقال لمستشرق يُدعى “مركليوث” كان منشوراً في مجلة استشراقية، وكانت صدمته من أستاذه الذي واجهه بهذه الحقيقة، إلا أنه ربما يكون لعميد الأدب العربي اعتماداً على هذه الشبهة نظرة مختلفة اعتقدها وآمن بها، وأراد تمريرها على الطلبة، لكن الذكاء المتقد الذي كان يتمتع به شيخ المحققين حال دون تعميم هذه الفكرة وإن كانت خارجة عن قامة بحجم طه حسين.
هذا الأمر بطبيعة الحال، يأخذنا إلى واقع اليوم، يجب على كل باحث وطالب علم، ألا يصدق كل ما يسمع إلى أن يتيقن، المسألة الخارجة عن كبار العلماء لا تعني بالضرورة أن تكون دقيقة بنسبة كاملة، لكن التحقق والعودة إلى المصادر يؤكد صحة المعلومة ومن ثم تعميمها، حتى وإن كانت صحيحة يجب البحث والتقصي بمجهود شخصي، ليس انتقاصاً من قدر العلماء، لكن هذا هو المسلك الرئيس الذي يجب اتباعه، فلولا أن كان شيخ المحققين محمود شاكر قد قرأ الشبهة لما عرف بأنها خاطئة، وهو في حينها كان طالب وفي بداية تحصيله العلمي.
مواجهة مقالات “على هامش الغفران”
لم تكن معركة أبو فهر الأدبية مع عميد الأدب العربي، طه حسين هي الأخيرة، فهناك أيضاً معركة مع المستشار الثقافي، لويس عوض، عندما نشر الأخير مجموعة مقالات في جريدة الأهرام عنونها بـ “على هامش الغفران”. وفي هذه المقالات ذهب لويس في كلامه إلى تأثر أبو العلاء المعري باليونانيات. كذلك قام بالتلميح إلى أن الحديث النبوي قد تأثر بالأساطير النبوية، دفع هذا الكلام الضال أبي فهر إلي العودة إلى الكتابة بعد عزلة، وأخذ على عاتقه عبء بيان خطأ وتهافت لويس عوض ومنهجه، فكتب عن الفكر الثقافة في العالم العربي والإسلامي وما طرأ عليها من غزو فكري غربي. وقد جُمعت هذه المقالات التي رد فيها على لويس عوض ونشرت في كتابه المشهور (أباطيل وأسمار)، إلا أن هذه المعركة لم تنتهِ بسلام، حيث اعتقل محمود شاكر على إثرها، عندما ربط مسؤول الجهاز الأمني المصري آنذاك بين ما كتب وبين تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان محظوراً آنذاك، رغم أن أبو فهر لم يكن له أي انتماء سياسي، بل تعرض لظلم بالغ نتيجة دفاعه عن الأمة الإسلامية ورد الشبهات الباطلة حولها.
إنسانية محمود شاكر
يتعرض كل إنسان في حياته لظلمٍ ما، من محيط العائلة أو العمل أو المجتمع، لكن هذه المظالم قد تُخرج إبداعاً كامناً في مكانٍ ما لدى البعض، ومن بينهم أبو فهر، الذي عرف ماذا يريد وهو طالب جامعي، رغم أن معرفته هذه هي بحد ذاتها محنة ذاتية تتعلق به دون غيره، فكان منه أن تحدث عن فساد الحياة الثقافية التي تسمح للكبار أن يسطوا على بحوث الآخرين وينسبوها إلى أنفسهم، كما حدث مع أستاذه عميد الأدب العربي طه حسين، لكن الصدمة الأكبر كانت هي الجامعة بحذ ذاتها وأساتذتها، الذين لم يحرك أحد منهم ساكناً تجاه هذا الإخلال المنهجي الكبير الذي وقع فيه زميلهم، وهو ما حدا بشاكر إلى العزوف النهائي عن الدراسة في جامعةٍ بهذا المستوى من الفساد والتدليس، وفق تعبيره، لقد شعر أبو فهر ببركان يتفجر بداخله، من هول صدمته تلك، فما كان منه إلا أن اتخذ الموقف الذي يجب أن يتخذه أيّ عقل مستقل، يسبر أبعاد ما يسمع ويقرأ، وكي يحقق شاكر هذا (السبر) الدؤوب كان عليه أن يخوض رحلة طويلة في مصنفات الأقدمين بشتى علومها وكان من لوازم الاستعداد لهذه الرحلة أن يحتجب عن محيطه المألوف ويعتزل ضجيجه وصوارفه، وقد كان له ذلك.
القضية الأهم
استمرّ طه حسين يناكف شيوخ العلم المحافظين ذوي الطراز القديم، مبشّراً ببزوغ (عصر الأنوار) العربي المتحرر من سطوة التقاليد العتيقة، وهو التحرر نفسه الذي رأى فيه محمود شاكر أوضح دليل على (فساد الحياة الثقافية) في عصره ومسارها المنفلت الأهوج، بعيداً عن استيعاب الأصول، عصر الأنوار هذا أو عصر التنوير بلغة العصر الحديث، هي ذاتها، طمس الحقائق في سبيل إثبات وجهات نظر مشككة مبنية على ترحال معين ورؤية حضارة الغرب والانبهار بها، أو قراءة كتب علمائها ومؤلفيها، الذين كانت تحكمهم عصبية الكنيسة والكهنوت لقرون، لكن كما واقع كل حضارة اكتشف الغرب هذه الحقائق، وانقلبوا على الكنيسة وباتوا يشككون بها وهذا حقهم نظراً لأن (أهل مكة أدرى بشعابها)، لكن هذا لا يلتقي ولا يرتقي لأن يتشبه بالدين الإسلامي الذي استمد منه الغرب أمور كثيرة، بالتالي، عصر التنوير هذا هو نور للجهلة والحاقدين، لأن الإسلام هو نور على نور، نظم الأمة والموروث الموجود يؤكد حقيقة ذلك، بالتالي، عندما استهان عميد الأدب العربي بالشعر الجاهلي، وشكّك في صحة نسبته لعصره، فصار توثيق هذا الشعر وتعظيمه إلى ما يقارب التقديس أحياناً، ركناً أساسياً في المشروع العلمي لمحمود شاكر، بل غدت عظمة التراث الإسلامي كله مبنيةً على الإقرار الأوليّ بحقيقة الشعر الجاهلي وعظمته، لغةً، وأدباً، وبلاغة.
بالتالي، لقد كان امتداد العلامة أبو فهر، امتداداً ثقافياً لا مكانياً، ومصريّته مؤسسة على عروبته، فهو عربي أولاً قبل أن يكون مصرياً، لأن العروبة هي لغته التي يتكلم بها، وثقافته التي يفكر من خلالها، وإرثه الحضاري الذي ينتمي له ويُحامي عنه، وأن هذا الإرث الحضاري مخالف تماماً للإرث الحضاري الأوربي: معتقداً، وقِيَماً، وتاريخاً، وهُويّة، وأن مستقبل أيّ ثقافة إنما يُؤسَّس بالاستناد إلى ماضيها، أي أن ينشأ نشأة طبيعية من داخل الثقافة، لا أن يُفرض من الخارج عليها، وأن الوعاء العظيم الذي يستوعب مستقبل الثقافة كما استوعب من قبل ماضيها هو: اللغة العربية، وتحديداً لغة العرب الجاهليين، لأن كل ما جاء بعدها مبني عليها، لقد كان أبو فهر يجاهد طوال حياته، وبمشقة ظهرت في أعماله، حيث تتبع الجذور الأولى لفساد الحياة الأدبية محللاً أسباب الاستهانة بالتراث العربي، لكن لم يصل إلى موقع الخصومة مع أحد، هذا الأمر يدل على عمق النظرة العلمية والأخلاقية التي كان يملكها العلامة شاكر، ليس كما واقعنا اليوم، مع نقد الطرف الآخر قد تتفجر أزمة دبلوماسية بين دول، وقد تصل إلى حد القطيعة، فما بالكم إن كانت بين تليمذ وأستاذ أو بين عالم وعالم آخر.
من هنا، يُعتبر أبو فهر، من المفكرين الذين سمحت ثقافتهم ونبوغهم بالسير في طريق الفكر الإسلامي والعربي نحو القمة، من خلال وهب حياته وقلمه للحرف العربي، إن كان بنقد الشائب أو الرد على الشبهات، وذلك في سعيٍ منه لتكوين جيل قادر على تحمل أعباء الدفاع عن هذه الأمة، بالاعتماد على المنهج والفكر القويم، إلى جانب اعتنائه بالتحقيق الذي هو بنظره وسيلة لخدمة قضية التراث العربي الإسلامي، كأنه في حرب يريد الدفاع والخروج منتصراً بها، لقد كان العلامة شاكر من مؤسسي مدرسة التحقيق العربي، مستفيداً من كل الظروف المحيطة به، ومجابهاً أعتاها كمحاولة الغرب استلاب الفكر العربي والظروف السياسية التي لها علاقة بالاستعمار، إذ يعد شاكر من من أهم محققي التراث العربي والإسلامي، فلقد حقق تفسير الطبري الواقع في 16 جزءاً، وطبقات فحول الشعراء في مجلدين، وتهذيب الآثار للطبري في 6 مجلدات، مع الإشارة أن أبو فهر كان يرفض تسميته بالمحقق بل بالشارح والقارئ لها، لذلك نجد على كل كتبه عبارة (قرأه وشرحه)، ورغم عكس ما يُقال فهو كان يقرأ للمستشرقين، لكن كان يتوقف عند علومهم التي لها صلة بالعربية وطبيعة فهمها، خاصة وأنهم استفادوا من العربية في منهجهم، وهذا معروف في تسابق الأوروبيين على دراسة الحضارة الإسلامية، فقد كان يواجههم بدافع غيرته على الموروث العربي والإسلامي.
مقدمات الكتب المحققة
لطالما نصحت بقراءة المقدمات لأي كاتب ولأي كتاب لفهم الأسلوب وشخصية الكاتب والوصول إلى الفكرة الأساسية لفهم المضمون، فالمقدمة تتعلق بضرورة ربط العلاقة مع القارئ بإعطائه جملة من المعلومات التي تسهل عليه قراءة النص، كما أن المقدمات تعبّر عن الكاتب وتبيّن حنكته الأدبية أو البلاغية أو أياً كان الاختصاص، والعلامة شاكر كان من المعتنين في هذا الأمر، خاصة في الكتب التي حققها، فالمقدمات هي محطة المحقق يوضح من خلالها رأيه في طريقة التعامل مع ما هو معروف من أصول مناهج التحقيق، وتعبير عن إدراك ما يخدم النص ويوصله إلى القارئ، فمثلاً في تحقيق (تفسير الطبري) كتب شاكر: (وتوليت تصحيح نص الكتاب، وضبطه ومقابلته، على ما بين أيدينا من مخطوطاته ومطبوعاته، ومراجعته على كتب التفسير التي نقلت عنه، وعلّقت عليه وبيّنت ما استغلق من عباراته، وشرحت شواهده من الشعر، وبذلت جهدي في ترقيمه وتفصيله)، وهنا أبو فهر اعتمد قاعدة مهمة في تحقيق النصوص تتمثل في ضرورة توضيح المحقق منهج تعامله مع النص كأن يكون أكبر من النص ذاته، داخل مقدمة التحقيق، والتأكيد على العودة إلى المصادر التي نقلت عن المؤلف أو التي منها، بحثاً عن استكمال النص وتوثيقه، وفي مقدمة تحقيق كتاب (دلائل الإعجاز) للجرجاني، قال شاكر: (فتشت ونقبت، فلم أظفر بجواب أطمئن إليه، وتناسيت الأمر كله إلا قليلاً، نحواً من ثلاثين سنة)، وهو بذلك يشير إلى ضرورة التمهل في تحقيق النصوص في انتظار استيفاء الشروط الكاملة التي تسمح بتأصيل المتن.
وهذا المنهج يبدو جلياً لقامة بحجم العلامة محمود شاكر خاصة وأنه تتلمذ على يد والده وأخيه الأكبر الشيخ أحمد شاكر، عمدة المحققين، بلا منازع، وهو الذي بلغ في تحقيق نصوص التراث منزلة سامية ينسب إليها الآخرون، وهو واسطة العقد بين والده العلامة الشيخ محمد شاكر١٨٦٦-١٩٣٩ وأخيه الأصغر الشيخ الأستاذ محمود شاكر بعشرين عاماً منه، والمكانة والوظيفة بلغت مستوً عالٍ فإنه لم يصل أحد من العلماء إلى ما وصل إليه الشيخ أحمد شاكر من التفوق الساحق في ميداني القضاء والتحقيق، فقد بلغ الذروة في الميدانين مبكراً واستمر مستوياً على القمة حتى توفي، ومع أن شقيقه الأصغر الأستاذ محمود ترك من بصمته في الأستاذية ما جعل اسمه في موضع رفيع، ومع أن والدهما الشيخ محمد شاكر ترك من بصمة العمادة والقيادة الأزهرية ما جعل اسمه في أرفع مكان، فإن الشيخ أحمد شاكر احتفظ بمقعد أرسخ في ميدان القضاء، فقد جمع هذا العالم الجليل بين العمل بالقضاء في أعلى مراتبه، وتحقيق النصوص على أدق وجه، فقد حقق العلامة محمود شاكر مع أخيه عدداً من الكتب مثل، تفسير الجلالين وتفسير الطبري.
ومهما كتبنا لا مكن لنا إيجاد خاتمة من بحرٍ غزير للعلامة أبو فهر، لقد ترك لنا إرثاً أدبياً مهماً من كتب ومؤلفات ومقالات، وصفه عالم التراث الراحل الدكتور محمود الطناحي بأنه “رزق عقل الشافعي، وعبقرية الخليل، ولسان ابن حزم، وشجاعة ابن تيمية”، وقال عنه الأديب عباس العقاد إنه “المحقق الفنان”، هذا يتكشف على سبيل المثال لا الحصر من كتابه “القوس العذراء” الذي هو تجربة متميزة في تاريخ الشعر العربي المعاصر، معتبراً “جهاز الاستشراق هو الفيلق المتقدم لجهاز الاستعمار وجهاز التبشير”، أما كتاب “المتنبي” فقد كتبه على منهج فريد، مباين كل المباينة لكل ما كان معروفا من مناهج البحث حتى عام 1935″، العلامة محمود محمد شاكر أصبح قبلة للأدباء والعلماء، وبيته قبلة للمسلمين شرقاً وغرباً يحجون إليه طلباً للبحث والمعرفة، فقد كانت فترة الخمسينيات من القرن الماضي، فترة مشهودة في حياة محمود محمد شاكر، فقد ترسخت مكانته العلمية وعرف الناس قدره، وبدأت أجيال من الدارسين للأدب والتراث العربي والإسلامي من أماكن مختلفة من العالم العربي والإسلامي يفدون إليه، يأخذون عنه، ويفيدون من علمه ومكتبته الغنية الحافلة، من أمثال: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، وأحمد راتب النفاخ، وشاكر الفحام، وإبراهيم شبوح، وغيرهم، ومما هو جدير بالذكر أن تفسير الطبري من أهم التفاسير في المكتبة العربية والإسلامية؛ لأن محمد بن جرير الطبري، يعد شيخ المحققين والمفسرين، مما يؤسف له أن الشيخ العلامة محمود محمد شاكر لم يتم هذا التفسير، حيث توقف فيه عند الجزء السادس عشر، وهو المطبوع منه، حتى الآن، ولو تم هذا الكتاب لعد معلمة هامة في التفسير، وعلوم القرآن.
لم يتوظف محمود محمد شاكر في وظائف الدولة، ولم يرغب بذلك، بل انقطع لعلمه، وفكره، ومكتبته العامرة، وبحثه، ودرسه، وزملائه، وتلاميذه، كالراهب الذي انقطع للعبادة في صومعته، عاش على ما يكفيه، ويسد حاجته، ومرت عليه سنوات عجاف لكنه لم ينحنِ أو يميل على الرغم من أن بيته كان مفتوحاً لتلاميذه، وأصدقائه، وعارفي فضله، ولم يكن له من مورد سوى عائده من كتبه التي كان يقوم بتحقيقها، وكان اسمه على صدرها يضمن لها النجاح والرواج، ولم يكن يأخذ شيئاً على مقالاته التي يكتبها، فأعاد لمجلة العربي الكويتية سنة 1982 مائة وخمسين دولاراً نظير مقالة كتبها رداً على الكاتب اليمني عبد العزيز المقالح حول طه حسين، ورفض أن يتسلم من دار الهلال مكافأته عن تأليفه كتابه المهم “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، لأنه كان يشعر أنه صاحب رسالة فكان ينتفض حين يرى انتهاك حرمة من حرمات اللغة العربية فيقف مدافعاً عنها بكل ما يملك من أدوات علمية وفكرية، لا بداعي الأموال، ونظراً لهذا المخزون الرائع والفريد والمميز، معاركه كلها جمعت في كتب، وصارت وثائق في تاريخنا الفكري الحديث، كتبها هو من موقع المدافع، والحارس لثقافة الأمة، ولولا خصومه لما ظهرت معظم مؤلفاته؛ لأنها كانت استجابة لتحديات عظيمة، وهي تظهر عظمة شاكر؛ لأنه لم يحتشد لها مثلما يحتشد المؤلفون عند تأليف كتبهم، وإنما دخلها كارها مستنداً إلى ثقافة واسعة، وعلم غزير، وفكر ثاقب، وروح وثابة.
العلامة محمود شاكر وفي أواخر حياته، حصل على جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 1981، ثم جائزة الملك فيصل في الأدب العربي عام 1984، واختير عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم بالقاهرة، وهذه التكريمات أمر طبيعي لشخصية تعد ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية الحديثة، فهو كاتب له طريقته الخاصة لا تبارى أو تحاكى، وشاعر مبدع حقق في الإبداع الشعري ما بلغ ذروته في قصيدته “القوس العذراء”، ومحقق بارع لكتب التراث العربي والإسلامي، قادر على فك رموزها وقراءة طلاسمها، ومفكر متوهج العقل ينقض أعتى المسلمات، ومثقف واسع الاطلاع في صدره أطراف الثقافة العربية كلها فكانت عنده كتاباً واحداً، باختصار وأمانة رجل لا مثيل له ولن يجد الزمان له مثيلاً، على الأقل من وجهة نظري الخاصة، رغم أن هناك أسماء لامعة كثيرة، لكن كل واحد في وقته وتخصصه هو حالة فريدة لا أعرف بماذا أشبهها، لكن أن يكون لدينا موروث ضخم بحجم ما تركه آل شاكر عموماً هو بحد ذاته حضارة متكاملة المعالم وقل نظيرها، خاصة وأنهم من رواد العصر الحديث نسبياً، وسيرتهم العطرة يجب أن تُدرّس أكاديمياً، لأن التثقيف الشعري والأدبي والتذوق الجمالي والإنبراء في الدفاع عن الأمتين العربية والإسلامية هو المنهج المتكامل الذي تحتاجه الأمة اليوم، لا أن يحذو حذوهم العلمي فقط، بل ليسيروا على خُلقهم وأخلاقهم.
هذا البحث ليس سرداً عن حياة العلامة أبو فهر، بل هو محاولة بسيطة للتأمل في شخص الإنسان محمود شاكر، صاحب الإحساس القوي المتدفق عطاءً ثورياً لم يسعَ إليه، بل فُرِضَ عليه فرضاً، الذي كان عاشقاً آلمه فقد الحبيبة التي قال فيها أجمل الأشعار:
أبى القلب إلا أن يراها قريبة .. كان رضاها مزنة تنحدر
يرف شباب القلب في قسماتها .. تكاد تراه ضاحكاً يتحير
محمود شاكر الذي امتاز بسبر أسرار البيان، كما في قصيدته (القوس العذراء) فصدق الشاعر شرطاً أساسياً لجودة الشعر، هكذا كان يرى المحقق الكبير، الذي كان عندما يخلو إلى قمله، أشبه بمن يخلو إلى حبيب يبثه أسرار روحه الدفينة.
أفق يا خليلي أفق لا تكن حليف الهموم صريع العلل
فهذا الزمان وهذي الحياة علمتنيها قديماً دول
وفي ديوان (القوس العذارء) يأبى شاكر إلا أن يبعث الأمل في نوفس الجميع بقوله:
أضاء الظلام لها بغتة .. قوّض غيمته وارتحل
أطلت له من خلال الغصون عذراء مكنونة لم تُنَل
وفي النهاية انتهت الرحلة، وبعد رحلة حياة عريضة رحل أبو فهر شيخ العربية وإمام المحققين، العام 1997، ولبى نداء ربه، رحمه الله تعالى، وأسكنه فسيح جنانه، لما قدمه من خير للغة كتابة، ودفاعاً عن الإسلام أمام المعتدين من الحاقدين والمبشرين وغيرهم.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان – كاتب ومفكر / الكويت.