إلى صديقي وجار الروح الدكتور عبد العزيز القطان قراءة في مقالته (قارب بلا اشرعة)
للأوراق كلمات في خبايا الروح، وللروح أسطر تحمل الذكريات، وكلما أكملت سطرا من روحي تتجمع صور الكلمات لتخبرني عن ضجيج طفولة، لقاء عشق وانطلاق حلم.
كلما ملئت ورقة تغذت من اديم شراييني، تطوي ما مرَّ ولن يعود،
وكلما فتحت نوافذ روحي تنطلق خيول نبض على براري حكاياتي.
للأوراق اسراب بجع رقصت في بحيرة اسرار لا يعرفها سواي؛ مليئة باعترافات تخطت أسطراً حمراء وتدحرجت حروفها عبر مساماتي لتجلس في المقهى تشرب فنجان قهوتها معي، سواء رغبت بذلك ام لا.
هكذا اجلس مرتبكاً خوف ان يمرَّ احدٌ ما فيجد ما حجبته مُعْلَناً؛ فيجلس طويلاً معها ولربما يدعوها لمأدبة عشاء دوني.
مرتبكاً بقاربٍ بلا شراعٍ أتحدى موجا أغرق اوراقي،
أمسك ببعض خيالات حافية القدمين بللها الموج.
أعزى نفسي في سكون مجنون يضرب نبضي كإعصار خبأ اقنعته بقوس قزح، يضرب آمالاً كانت تراتيل كنسمات صباح وتَهجدَ (آثرته على النفس والروح).
آهٍ … وحيداً أُلملمُ بقايا الموج والاعصار.
أوّاه على حروفي كيف انتزع الرمل عنها بشواطئ الضياع، كيف أحمل الرؤى منها، متناثرة بحجم اتساع عين، كيف اتركها؟ نوافذ استشراق تشبهني، تشبه براءة أطفالي، لا، لا بل هي اطفالي وملح عيني.
وحدي كنت اجلس مشاكسا بين يديك تقرئين ضجيج افكاري، تمنحيها استنشاق الرؤى وولادة الفصول.
وحدي اضمك الى صدري، أغفو بين سحرك، لا شيء يفصلنا، لا أحد يقاطع طهارة الأوقات فتتجلى يقظتي هيولا حروف بكل العوالم.
عيون ميدوسا
في زمن ما ليس ببعيد كانت عيون ميدوسا تلاحق الحروف وتحاصر الكتاب وكنا نقطع من قوت بيوتنا لنشتريه بل كان بعض الكتب تستنسخ بالخفاء وتباع من تحت الطاولة. كنا إذا أردنا ان نكتب قصيدة يجب ان ترمّز افكارها لكيلا تلاحقك نظرات ميدوسا، او ان تكون بوقاً في معابد الالهة، او ان تكتب عن وجعك دون إشارات تسيء للمعابد.
في التسعينيات من القرن الماضي كل شيء بحساب، انفاسك وخطواتك ويقظتك ونومك، اما كلامك او احلامك قد تدخلاك في مهاوٍ لا رجعة منها.
اوجعني صديقي الدكتور عبد العزيز القطان وهو يسير بقاربه الممزق الشراع ليرثي شطرا من عمره في الإبحار بعالم الكتاب ، اوجعني ما كان يختلج في صدره وعقله تلك اللحظة التي اكتشف فيها الكارثة ففتح نوافذ ذاكرتي عما مر بي في ذلك الزمن، فقد دفنت تحت شجرت في حديقة المنزل مجموعة من الكتب التي اشتريتها بشق الانفس لصعوبة توفرها ولصعوبة الوضع المادي في ذلك الحين، دفنتها لضرورة امنية فقد كانت عيون ميدوسا تلاحقنا داخل بيوتنا، دفنتها خوفاً، نعم خوفا فلو لاحظتها عيونها لقضيت اجمل ايامي معذبا بين جدران وارض رطبة وابواب صدئة، هذا في افضل الحالات.
دفنتها ودفنت روحي والكثير من الاحاسيس والصراع داخل نفسي، دفنتها بعد ان بذلت جهدي في تغليفها جيدا كي اخرجها في وقت لاحق دون تلف، واخرجتها بعد فترة وجيزة من الزمن لتتناثر ادمعي حزنا وانا أرى الرطوبة قد تسللت اليها، اوجعني منظرها الرث، واليوم أعاد عليّ تلك الصورة عبد العزيز القطان وهو يرى تراثه التهمته الرطوبة واتلفت صفحات كتبه، فجلس على اطلالها متهاوياً لا طاقة له على وجع فراقها ولا سبيل له لإعادة الحياة فيها.
حيص بيص
غادرنا زمن ميدوسا وجائنا زمن الانفلات بكل شيء انفلات البلد، انفلات الكلام، انفلات الحروف، انفلات الامن، فلم يعد لشيء حدود ولا معنى، لم يعد للحق ألسن او للأخلاق قيم، لم يعد لمحذور ضوابط، ولك ان تتحدث بما تشاء على من تشاء كيفما تشاء وقتما تشاء ولكن لا تأمن العواقب خصوصا لو كنت تقول الحقيقة عمن يلتهم كل شيء كالنار في الهشيم ولم يكن لك من يحميك، فقد تغادر الى عالم البرزخ قبل ان يطلع عليك صبح.
كل المدن لم تعد مدن، وكل الازقة لم تعد ازقة، فرائحة الموت والخوف تنتشر في عموم البلاد، ولكن من غيابة الجب نستشرق صبح، فلازالت هناك نقطة ضوء في عالم العتمة، ولازالت بعض الاحرف نقية، ولازالت انفاس كتاب هنا وهناك، ونستطيع ان نشرب فنجان قهوة مع كتاب جديد، ونبض امل جديد.
مدينة من ألق
في مدينتي تغازل الشناشيل شط العرب فتمنحك حروفا من الق وتولد على مر الأزمنة مبدعون غزوا مكتبات العالم، في البصرة لازال الابداع يشحذ عقول المبدعين وقد تأصّل وامتد وسيمنح القادم ابداعهم.
في مدينتي ملتقى الحضارات، تغفوا على ترانيم انشودة الماء لتنشر اشرعتها صوب الخليج لتحتضن
(الهولوا) ولؤلؤاً وتستقر بأرض مجان.
في مدينتي تتوزع طيبة ابنائها خبزاً تطعم القادمين وتحتضن صباح الخير لغد أجمل
أ. وفي العامري