هكذا دون أي رادع أخلاقي أو إنساني قامتا بفتح حقيبتي وتفتيشها علّهما تجدان ما يفسّر تفوقي وتميّزي خلال فترة التدريب قبل التثبيت في الوظيفة، فحسب البيئة التي نشأتا فيها فإن التوفيق لا يأتي من الخالق سبحانه؛ بل من “مخلوقاته”.
حين لم تجدا سوى مصحف صغير بدأتا مع مجموعة من الزملاء والمسؤولين بنشر الشائعات المُقيتة التي لاحقتني على مدى سنوات من حياتي العملية، في سنتي الأولى كنت أسهر الليالي ألمًا وحزنًا، وفي نهاية كل ليلة كنت أقرر تقديم استقالتي في اليوم التالي، ولكن الخوف يردعني؛ كيف لي الحصول على وظيفة بديلة؟ وما الذي يضمن عدم وجود أمثال هؤلاء في مواقع العمل الأخرى؟
أدركت ألّا مهرب من الواقع وأن حياة العمل ليست كما رسمتها في مخيلتي الوردية عندما كنت طالبة جامعية متلّهفة للالتحاق بالوظيفة، كنت أحسبها مرحلة للاندماج مع الناضجين الراشدين الذين يتعاونون معًا وبكل احترافية لتوظيف علومهم ومعارفهم وخبراتهم خدمة لوطنهم، وأن الجميع سيكونون منكّبين على أعمالهم ولا وقت لديهم حتى لإلقاء التحيّة، لم أظن يومًا أني سأجد من بين هؤلاء من يجعلون العمل جحيمًا.
الحل الأول والأسهل الذي اتبعته كان المواجهة والمعاملة بالمثل، بالمعنى المباشر والصريح لقد أصبحت متنمّرة على المتنمّرين، أقزّمهم وأوجّه الانتقادات اللاذعة في شخوصهم، وقمت بنشر الشائعات عنهم وتشويه صورهم أمام الآخرين، لقد أظهرت وجهًا شرسًا وكنت أرد على مكيال الإساءة بمكيالين؛ فتمكّنت من وضع حدٍ لتلك المخلوقات المزعجة إلا أنني لم أستطع التحكّم بنفسي؛ فامتد تنمّري على زملاء آخرين، ولم أستوعب ذلك إلا بعد أن صارحوني بانزعاجهم من أسلوب تعاملي معهم، حينها أدركت أنني لم أحل المشكلة، لقد اتجهت نحو الحضيض في فكري وسلوكي ظنًا منّي أنني أحقق الأمان لنفسي، لقد نجح المتنمّرون في استفزازي حتى أخرجوا أسوأ ما بداخلي.
احترامي لذاتي يشكّل جزءًا كبيرًا من ثقتي واعتدادي بنفسي، من أجل الحفاظ عليه لم أجد حلاً لمواجهة التنمّر أفضل من “التجاهل”.. كان صعبًا وتطلب الأمر الكثير والكثير من الحوارات الداخلية والتي تدّرجت في حدّتها من “فليذهبوا إلى الجحيم” و “حسبنا الله ونعم الوكيل” و “سينتقم الله منكم” إلى أن أصبحت أكثر هدوءًا، لم يعد هناك كلمات تجول في خاطري واكتفيت بالنظر إليهم بعين الشفقة والتعاطف.
لعل أكثر ما يؤذينا في مواقع العمل هي الشائعات التي تشوّه صورتنا؛ فيُنسف على إثرها عملنا وجهدنا وكفاءتنا وعطاؤنا، ونُحرم من التقدّم الوظيفي بسببها؛ وللأسف فإن ٥٦٪ من الموظفين بالسلطنة تعرّضوا لإطلاق الشائعات عنهم، وربما في الدراسات الإنسانية ما يمنح القليل من المواساة بأن معظم الناس يحبّون تصديق الشائعات ولكنهم لا يصدّقونها، ويتناقلونها لفترة للتمتع بالثرثرة وتبادل القصص، وسرعان ما ينسونها بمجرد إنشغالهم بمواضيع أخرى.
هناك صور أخرى للتنمّر، كالاستهزاء بالمشاعر والشخصية الذي طال ٦٨٪ من الموظفين، أما الحظ السيئ وضع ٥٢٪ منهم في موقف للتعامل مع شخص لا يتوانى عن الصراخ عليهم وتأنيبهم علنًا وإذلالهم، وفي الوقت الذي أُجبر فيه ٧٠٪ منهم على تحمّل أعباء وظيفية وتأدية مهام غير واقعية، وطُلب من ٦٥٪ إنجازَ أعمالٍ معقّدة في وقت ضيّق، إلا أن ٦٦٪ من الموظفين تم تجاهلهم وتهميشهم في مهام مرتبطة باختصاصاتهم الوظيفية، وحتى مع تنفيذهم لعلمهم تلقّى ٥٢٪ من الموظفين انتقادات لاذعة مُهينة، وتم التقليل من أهمية العمل الذي يؤدّيه ٥٧٪ من الموظفين.
حُرِم ٦٥٪ من الموظفين من ترقية أو مهمّة أو دورة تدريبية لأسباب غير منطقية ولا مهنية، وتم اتهام ٥١٪ منهم زورًا بارتكاب الأخطاء، ولم يحظَ ٤٢٪ بالترحيب في التجمّعات غير الرسمية أو “الشلل” التي تتكوّن تلقائيًا في أماكن العمل، ومن المثير للاستغراب أن ٣٩٪ يواجهون مشكلة كبيرة وهي التجسس على حياتهم الشخصية ومحاولة كشف أسرارهم الخاصة، ومن المحزن أيضًا أن ٣٥٪ تعرّضوا للتخويف والتهديد، بينما تم التعدّي لفظيًا وجسديًا على ٣٠٪ من الموظفين بالسلطنة!
قد تبدو النسب التالية صغيرة إلا أنها ذات أهميّة، فكل موظف له قيمته وما يؤثر به سلبًا أو إيجابًا يؤثر على منظومة العمل كاملة، إذ شاء القدر أن يكون ٢٨٪ من الموظفين زملاء لأشخاصٍ يفتقرون إلى الذوق العام يقومون باستنزاف مستلزماتهم المكتبية دون علمهم أو تقديم الاعتذار لهم، كما يسخرون من مظهرهم وأسلوب حركتهم وحديثهم، وجمع القدر ١٧٪ من الموظفين (وأنا منهم) بزملاء عمل انحدروا إلى أدنى درجات السلم الأخلاقي فقاموا إما بتفتيش الأغراض الشخصية أو إخفائها والتلاعب بها.
في بلادنا ينكر الكثير وجود العنصرية ويتحدّث بمثالية عن التعايش والتسامح فيما بيننا، إلا أن الواقع يظهر بأن ٢٧٪ من الموظفين متأكّدين أنهم تعرّضوا للتمييز العنصري بسبب نوع الجنس أو العرق أو الحالة الصحية أو الدرجة الاجتماعية أو المستوى المادي، بينما ٣٣٪ ليسوا متأكّدين، مما يعني استشعارهم بوجود التمييز العنصري إلا إن الحقائق غير كافية بالنسبة لهم، جدير بالذكر أن الدراسات الاجتماعية وجدت ما يُسمّى بالعنصرية المبطنة المتجسّدة في صور مختلفة كأن يتم استبعاد الموظف من منصب أو موقع وظيفي جيّد رغم كفاءته وأهليته، أو تهميش آرائه وتجاهل مقترحاته، وأحيانًا تُعقد الاجتماعات دون إشعاره أو دعوته للانضمام إليها والاكتفاء بإبلاغه بالنتائج، ومن زواية معاكسة تمامًا تبرز العنصرية في تعاملات وظيفية مدفوعة بالشفقة والتعاطف وليس الكفاءة والأهلية؛ كأن يتم تخصيص عدد من المناصب أو المكاتب أو ساعات ومهام عمل قليلة لفئات معیّنة، الأمر الذي يعزز ما يُعرف بالعنصرية العكسية، ولعل أوضح مثال على ذلك شعور بعض الذكور في مؤسسات العمل بالعنصرية بسبب “التفهّم” المبالغ به لظروف الإناث الشخصية، ومع ذلك يبقى تأثير هذا النوع من العنصرية ضئيلاً ولا يشكّل خطرًا على الوضع الوظيفي والصحي والنفسي لمن يتعرّضون له.
قد يتساءل البعض: ما هي الفئات الوظيفية الأكثر ممارسةً للتنمّر؟
في حقيقة الأمر لا يمكن استبعاد تنمّر المرؤوس على رؤسائه، فهناك ٣٪ من رؤساء العمل عانوا من سوء معاملة مرؤوسيهم، وهناك ٣٦٪ من المرؤوسين عانوا من سوء معاملة رؤسائهم، بينما تذوق ١٣٪ مرارة التنمّر من زملائهم الذين يفترض أن يكونوا سندًا وعونًا، ولكن المثير للاهتمام هو معاناة ٤٨٪ من الموظفين من تنمّر زملائهم ومرؤوسيهم ورؤسائهم جميعًا وبدرجات متفاوتة.
إنه لأمر مؤسف أن يتكالب الجميع عليك في مكان عملك حيث تقضي فيه معظم يومك، وهو المكان الوحيد الذي لا تملك خيار تجنبه، ومن المؤسف جدًا جدًا جدًا أنه لا يزال ٤٠٪ من الموظفين يعانون من التنمّر إلى يومنا هذا.. فما الحل؟
المعاملة بالمثل ليست حلاً وقد جرّبت ذلك بنفسي، بصراحة.. ما زلت أشعر بالخجل كلّما تذكرت صورتي وأنا أمارس التنمّر حتى وإن كان ردّة فعل وليس سلوكًا أصيلاً في ذاتي، ولله الحمد يتفق معي في ذلك ٨٠٪ من المشاركين في الدراسة، وأنتهز الفرصة لأدعو ال ٢٠٪ لتدارك الأمر والتراجع عن هذا الحل عاجلاً، ويجب أن يعلموا أن ٨٨٪ من الموظفين يعتبرون المتنمّر مريضًا نفسيًا ويعاني من عقدة النقص، بينما يراه ٦٥٪ فاشلاً في مختلف مناحي حياته، ٥١٪ يشعرون بالشفقة تجاهه… ترى، من يرغب في أن يراه الناس كذلك؟
يحاول الكثيرون تبرير سلوك المتنمّرين ويخلقون لهم أعذار كأن يكون سلوكهم نتيجة تراكمات من خيبات الأمل والمشكلات الاجتماعية والعاطفية، أو أنهم تعرّضوا للتنمّر وهم بذلك يصنعون لأنفسهم درعًا يقيهم من ذلك الأذى.. في الواقع الإنساني ليس هناك ما يبرر للناس جميعًا إلحاق الضرر النفسي والجسدي بالآخرين، ما الذنب الذي ارتكبه ٣٧٪ من الموظفين حتى تهتز ثقتهم بأنفسهم بسبب مشكلات المتنمّر الخاصة؟ ما هو ذنب ٢٠٪ من الموظفين حتى يعانوا من مشكلات نفسية وعقلية بسبب شخص لم يعالج مشكلاته النفسية والعقلية؟ وهل حياة ١٩٪ من الموظفين رخيصة ولا تعني شيئًا حتى يتعرّضوا لأزمات صحية وحوادث مؤسفة بسبب مريض نفسي شاء القدر أن يشاركهم العمل؟
هل هناك حلول أخرى؟ نعم!
لم أُقدم شخصيًا على هذا الحل، ولكن يبدو أنني سألتحق ب ٢٦٪ من زملائي الموظفين لاعتبار الشكوى الإدارية والقانونية أحد الحلول إذا ما تعرّضتُ للتنمّر مهما كان حجمه وشكله، في ذات الوقت عليّ أن أكون صريحة وأجد العذر لنفسي ولـ ٧٤٪ من الموظفين لأننا لم نثق بقدرة القانون على محاربة هذه الظاهرة، ففي الأساس لا يوجد قانون واضحٌ يفصّل هذه الظاهرة ويتعامل معها بجديّة، وإن وُجد فإننا لا نثق بآلية تطبيقه، ويشاركنا ٤٦٪ من الموظفين في اعتقادنا بأن القانون لن يساعد في مواجهة التنمّر.
هناك قصص مأساوية عن موظفين في دول عديدة حول العالم قرروا وحاولوا الانتحار بسبب التنمّر الوظيفي، ومن نفذوا الانتحار حاولت عائلاتهم مقاضاة مؤسسات العمل وعرضت الإثباتات مثل الشكاوى الإدارية والقضائية ولكن دون جدوى لعدم وجود قانون يفصّل هذا السلوك ويعرّفه ويحدد صوره ودوافعه وعقوباته.
سيثق البعض بقوة إيمانه ودينه الحنيف الذي يحميه من فكرة الانتحار، ولكن الأرقام تقول أن الوطن العربي يشهد ٢٠٠٠ حالة انتحار يوميًا، وهناك أسباب عميقة لهذا القرار وبلا شك أن التنمّر من بينها، فالإنسان هو الإنسان سواء في أمريكا أو بعمان، وكما بدأت بعض الدول في اتخاذ خطوات أولى لتشريع قوانين تجرّم التنمّر الوظيفي كأستراليا، لعلّنا في السلطنة نتخذ خطوات أولى على مستوى أبسط، كإنشاء مراكز أو دوائر للإرشاد النفسي أسوة بجامعة السلطان قابوس، وباعتقادي أن هذه الخطوة بمجرد طرحها ستحيي الآمال في نفوس الموظفين للحصول على حقهم بالتمتع ببيئة عمل صحيّة.
الشيطان لا يميّز الناس حسب جنسياتهم وثقافاتهم ووظائفهم ومستوياتهم الفكرية والاجتماعية؛ بل ينجذب من بعيد إلى أولئك الذين يحملون مثقال ذرّة من كبر في قلوبهم.. من يعانون من عقدة النقص فيغمطون الناس ويحتقرونهم، يحاولون التشبّه بالنمر في شراسته وهم في الحياة كالنعامة، يدّسون رؤوسهم في رمال الحياة ويهربون من مشاكلهم ولا يعترفون بفشلهم وعيوبهم، هؤلاء موجودون كجزء من التجربة الوظيفية ومطبّة من مطبّات رحلتنا في هذه الدنيا، التنمّر كأي مشكلة أخرى تتطلب منّا بعض المعاناة حتى نعيد حساباتنا لإصلاح وتطوير أنفسنا وذواتنا، لعلّ هذه الزاوية من النظر تساعد على تخفيف وطأة التنمّر الوظيفي، ولكن السؤال المفتوح هنا: هل الوظيفة تستحق تحمّل هذه المعاناة؟
ملاحظات:
١- النسب المذكورة في هذا المقال هي نتائج دراسة عددية مصغرّة شارك فيها ٥٥٣ موظفًا، ويعتبر هذا العدد عينة نموذجية لتعميم إجاباتهم على ٧٥٢ ألف موظف وموظفة بالسلطنة بنسبة ٩٥٪، شارك الذكور بنسبة ٥٧٪ في هذه الدراسة ونسبة الإناث كانت ٤٣٪، يعمل ٧٧٪ من المشاركين في القطاع الحكومي و٢٣٪ في القطاع الخاص.
٢- لتبرئة الذمّة العلمية: النعامة لا تخبّئ رأسها في الرمال خوفًا وهربًا؛ بل تقوم برصد المهددات عبر استشعار ذبذبات الصوت المتنقلة بين طبقات الأرض، كما لا يوجد حيوان محدد يتصف بالجبن والتخاذل حتى يتم تشبيه البشر الجبناء به. عنوان المقال جاء على وزن المثل القائل: أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة.
شيخة المحروقية