منذ الصباح ابحثُ عن زاويةٍ لأتوارى فيها؛ لأهمس بحرية أكبر، فكلّي اضطراب، أتفقّد هاتفي المحمول؛ لربّما تركته صامتا، أعاتبه؛ فقد مرّ الوقت ولم يكسر صمته، فكم أتموج بين أشعة الضوء، ونسيم الهواء ليحملاني عبر تنهدات صوتها، وغنج ضحكاتها، وهي تدغدغ ما بقيّ من وقاري؛ لأنجرّ في حديث مراهق! وقد تفتق صبح العمر في ليل رأسي، ورسم قلم السنين تجاعيده في خارطة وجهي، وكم يكاد أن يغمى عليّ كلما همست مبتسمة وهي تقول:
– دير بالك حبيبي على روحك زين
لتسري رعشة من قمة رأسي حتى قدمي،
فأردُ خَجِلاً:
– شلون ما دير بالي عله روحي، وانتِ روحي
تأخذني رياح كلماتها لعالم من الأفكار لا حدود له، وتمنحني سماوات قوس قزح ارسم بالونها عوالم طفولة ونبض قصائد ترتدي صباحات امل وامنيات لقاء فلا أتمالك نفسي، أتهاوى لشدة الدهشة وغنج الإحساس ونعومة الدلع حدّ الإعياء.
منذ الصباح أفكاري معلقة، نبضي يسابق كريات دمي، شراييني مستنفرة لا شيء يمكنه ان يستقر بداخلي، لا شيء يبعد غربة ازمنتي، وحكايات سنيني المترهلة بتجارب غادرت افاقها وتُلِفَتْ الوان لوحاتها تشاكس هواجسي المضطربة لتطلق حمم تساؤلات وتوقد الطرقات، هل سأسمع صوتها، هل سألتقيها وارمي بنفسي بأحضانها كطفل افتقد حضن امه ووجده، هل لازلت احمل من عنفوان المراهقين اطلالة اللقاء، هل ستوقدني مرايا عينيها، شلالات خصلاتها، براكين أنفاسها، سحر عطرها، هل ستنطلق كلماتي كما تجرجرني على السطور وانا اكتبها غابات استنشق عبر عنفوانها المطر، وارسمها شواطئ واسراب نوارس وحفيف مساء وجنون حلم وقدر.
منذ الصباح تجادلني نفسي؛ عن جدوى التخبّط بطرق تأكل نهاياتها، ومتاهات لم اعد قادرا على فك احجيتها، تجادلني لعلها تغير مسار حماقاتي، تهور شهواتي، تواجهني تفتح نوافذا صدأة حكاياتها، جفت ضروع غيومها، تجادلني عن جدوى اشتعال اوردة، وقد ودعت اخر طيف بأزمنة الحلم البعيدة، ما جدوى أن أجازف بانتظار تأكلني فيه هواجسي، تدغدغني فيه رغبات تعطشي، اخبرها قد يعشوشب بأنفاسها خريف أيامي، تتدفق انهاري بينابيع رضابها، تتوقّد جذوة شراييني بسحر لمساتها، أطفئ احتراقي بلذيذ مناجاتها، أطوي انتظارا من جنون، اطلق أمواجا من سعير الرغبات وسغبا تلظيته لطفولة الماء.
منذ الصباح أبعد سوداوية الأفكار، أنعش ذاكرة الربيع، أطلق تهجداتي كتراتيل ناسك، أُقيم قدّاس مناسكي يا هيام احلامي، يا رفيف روحي، يا سلطانة ايامي، افتح نوافذ محرابي فتفيض الفضاءات من حولي مشبّع بالحنين قدّاسي، فتحلّقين تمنحين المكان والزمان فيوضات بركاتك، تتفتق حويصلاتي، استنشقك عبيراً، احلق فراشة، أتسامى، اُلملم جزيئاتي المنتشرة في الفراغ، أرتب أجزائي، وضاءة تشرقين.. أراك!، أبحث عن ذاتي، أراك.
منذ الصباح تركت وقاري معلّقا بزاوية الدار، اعددت ترتيب اولوياتي، شربت قهوتي، حملت فأسي وعند معبد القبيلة هشمت أطنانا من رماد العرف رميتها في سلّة المهملات، هيئت نفسي لتحمّل البُلهاء، منحت خجلي عطلة مفتوحة، ودّعت ليل رأسي، قلم السنين، وفتحت أزرار طفولتي؛ انطلقتْ جامحة كالخيول، تكسّر مسافات أغلال، تحمل أوراقا ارتعشت بين يدي، لتمطر رحيق أحاسيس لطالما قيدتها، وعند عشبك الندي بللتْ نواصيها، نثرتْ أوراقي، وانطلقت.
منذ الصباح اشعر بحرية أكبر، لأعترف بأنك أطلقتي أفكاري، منحتي توقدها ملامح الكلمات، وبمياه شفتيك طَهُرتْ خمر ملذاتي فرقصت في بحيرات مساءاتنا الاشياء، ومنحتي رجولتي نكهة طفولتها، فآخضوضرت أوراقي بساتين نخيل، لينطلق الحلم من أحضان الجنون ويثمل بنبيذ همس يدغدغ مشاعر الاشتهاء لأُطعِمَ نافذة الخطوط مجامر أوردتي، وليقرأ الجميع حكايتي، وألتقي عينيك عند كل حرف.
وفي العامري