باتت الصراعات المعيشية ككرة الثلج التي تتدحرج وأخذ معها كل شيء، سياسات خاطئة، قرارات عشوائية، حكومات متخبطة، بدل العلاج تشعل النيران، بصحيح العبارة يبدو أن لا حكومة مسؤولة، ولا دولة إلا فيها الكثير من الأزمات، لا نسمع بها إلا عند تفجر الأوضاع التي ومع شديد الأسف تبين قتامة المشهد السياسي لهذه الدول.
يقول الخبر” “إن سفارة الكويت في كازاخستان أهابت برعاياها مغادرة البلاد حفاظاً على سلامتهم”، وحثت السفارة الكويتيين الراغبين في السفر إلى كازاخستان على تأجيل سفرهم “نظراً لاستمرار حالة الطوارئ”، وهذا تصرف عقلاني يؤكد مجدداً حرص دولة الكويت على رعاييها سواء في هذا البلد أو أي بلد آخر، من وجهة نظر مسؤولة، خاصة أن المواطن الذي يكون مهماً لدى حكومته يبقى محاطاً برعاية القانون والمواطنة التي تمنحها المفروض كل دولة تحمل هم المواطن، وهذا الموقف يُسجل لدولة الكويت كما عودتنا دائماً على الاهتمام الدائم والعمل الدؤوب، رغم وجود بعض الخلل في بعض مفاصل البلاد، لكن ذلك أمام القضايا المهمة، يُعتبر ثانوياً في حال تعلّق الأمر بحياة المواطنين.
السؤال المهم هنا، ماذا يحدث في كازاخستان ولمصلحة من؟
المعلوم للجميع أن الاحتجاجات تفجر على خلفية رفع أسعار “الغاز المُسال) وهو الذي يعتمد عليه الشعب الكازاخي بنسبة كبيرة، لكن لفهم حقيقة الوضع لا بد من معرفة القوة الاقتصادية لهذا البلد الوسط آسيوي، فهو يعتبر في المرتبة الـ 16 عالمياً في حجم الإنتاج النفطي، ما يعني أنه من البلدان الغنية، الأمر الآخر، هذا الثراء من شأنه أن يكون مشتركاً وينعم الخير على الجميع، لكن في حالة الشعب الكازاحي، لا يتعدى راتب الموظف فيهم الـ 100 دولار أمريكي، بالتالي هذا يقودنا إلى سؤال مهم، أين عائدات بيع النفط التي تدخل إلى خزائن الدولة؟
الفساد عاهة الدهر، ومما هو بادٍ أن لا دولة في العالم خالية من الفساد، لكن ما يطفو إلى السطح هو الظلم وعدم التوزيع العادل للثروات خاصة للدول الغنية، فقرار حكومة نور سلطان غير مدروس حتماً، لكن الخوف أن يكون مدفوعاً بعقلية وذهنية بعيدة عن نظام الإدارة التي من المفروض أنها بأيدٍ أمينة، إذ أن برلمان هذا البلد لا يحوي تمثيل معارض، وأي احتجاج يخرج يحتاج إلى موافقات رسمية، لكن انتشار الاحتجاجات كالنار في الهشيم، أمر مريب بصراحة على الرغم من المطالب المحقة التي ينادي بها المتظاهرون، فخلال أربعة أيام، توسعت رقعة الاحتجاجات بشكل كبير وتمركزت في غرب البلاد الغنية بالنفط، وهذا بحد ذاته ليس بريئاً، خاصة لجهة شل الوضع الاقتصادي، لكن في أي أزمة عنوانها العريض اقتصادي، دائماً لنفتش عن الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، فحلم واشنطن وضع قواعد لها في آسيا الوسطى لأنها مركز ثقل الصراع خاصة مع غريميها الصين وروسيا، وإلى حدٍّ ما إيران، لكن هناك وجهة نظر أخرى يجب أخذها بعين الاعتبار لجهة هذا الصراع وأدواته ومنفذيه.
لنلاحظ مليّاً ونفكر بهدوء، هناك معاهدة دفاع أمنية مشتركة بين كازاخستان وروسيا، حيث سارعت الأخيرة إلى إرسال قواتها للدفاع عن حليفتها، بموجب المعاهدة القانونية، اتفقنا أو اختلفنا، لكن القانون هنا واضح، لتخرج الولايات المتحدة مباشرةً وتحذر من القوات الروسية التي تم نشرها في كازاخستان، من السيطرة على مؤسسات الجمهورية السوفياتية السابقة، مشيرة إلى أن العالم سيراقب أي انتهاك لحقوق الإنسان، وهذه هي الذريعة الدائمة التي تستخدمها أمريكا في أي بلد تريد إشعاله وتدمير نظامه ووضع آخر موالٍ لها وتحت سيطرتها، هذا ما أكده الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية “نيد برايس” بقوله، إن “الولايات المتحدة، وبصراحة العالم، سيراقب للكشف عن أي انتهاك لحقوق الإنسان”، مضيفاً: “سنراقب أيضاً للكشف عن أي خطوات قد تمهّد للسيطرة على مؤسسات كازاخستان”، ويتماهى الموقف الأوروبي مع الأمريكي، لكن ما ينعش ذاكرتنا احتجاجات السترات الصفراء في فرنسا وعملية القمع التي أظهرت الديمقراطية الغربية من أوسع أبوابها، وعنصرية أمريكا وحادثة جورج فلويد التي لا تزال ما ثلة أمام أعين الجميع.
بالتالي، هذه الدولة الساحلية الواقعة بين روسيا والصين، بسقوطها يعني الاقتراب من المساس بالأمن القومي لهذين البلدين، وهي تاسع أكبر دولة في العالم، أي أكبر من أوروبا الغربية، لكن عدد سكانها يبلغ 19 مليون نسمة فقط، فالمفروض أن ينعم سكانها بحياة كريمة تليق بالمستوى الاقتصادي الذي تعيشه هذه البلد، ومن المؤكد أن روسيا والصين لن ترغبا أبداً بظهور حكومة في هذه البلد موالية للغرب وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية، ولموسكو تجربة لا تزال قائمة في أوكرانيا، كازاخستان تمتلك أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في منطقة بحر قزوين، وتنتج حوالي 1.1 مليون برميل يومياً من النفط الخام، وإن الشركات الغربية ضخت عشرات المليارات من الدولارات في حقول نفط بغرب كازاخستان، حيث اندلعت الاحتجاجات، كما تمثل كازاخستان 18% من عمليات تعدين البتكوين في العالم، وقد تسببت الاضطرابات في إضعاف حوالي 5% من قيمتها، ليس هذا فقط، صعدت أسعار النفط عالمياً بحسب “أوبك+” بسبب تلك الاضطرابات خاصة وأنها أساساً غير مستقرة.
قد تكون هذه البلد في مرحلة سابقة غير معروفة لكثير من الناس، لكنها حظيت باهتمام بعدما احتضنت لسنوات محادثات السلام السورية “أستانا” قبل أن يتغير اسم العاصمة إلى “نور سلطان”، هذه البلد التي نالت استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، لكن المراقبين لهذا الملف يجمعون على أن الرئيس السابق نزارباييف لايزال يدير دفة الحكم من الخلف. ووظف الثروة النفطية الهائلة لبناء عاصمة جديدة، أستانا، بدل ألماتي، أكبر مدن البلاد، وأطلق عليها لاحقاً اسم نور سلطان تكريماً له، كما تضم هذه البلد مركز قاعدة “بايكونور” الفضائية التي استأجرتها روسيا، والتي لا تزال أكبر منصة إطلاق في العالم بعد حوالى 60 عاماً من انطلاق رائد الفضاء السوفيتي يوري غاغارين منها ليصبح أول رجل في الفضاء، ولم تدخل كازاخستان في شراكات مع الولايات المتحدة لوحدها بل نوعت تعاونها مع جهات مختلفة، فحتى تركيا المنافسة لروسيا في أكثر من منطقة بالعالم، لها وجود كبير فيها. وهذا، يساعد نور سلطان على الخروج من التبعية الروسية. “وإن كانت هذه الدولة تبدو أنها ضمن الحديقة الخلفية لروسيا، إلا أنها بدأت تخرج من النفوذ الروسي باتجاه الولايات المتحدة، وباتجاه تركيا أيضاً التي تعتبرها من العالم التركي.
فعلى الرغم من تحالفها الوطيد مع موسكو، تبقى علاقاتها مميزة مع الصين وأيضاً تستضيف استثمارات غربية أمريكية وأوروبية كبيرة جداً. لكنها لم تذهب بعيداً في تقاربها مع الغرب كما أوكرانيا أو جورجيا” حتى لا تغضب الحليف الروسي.
من هنا، إن ما يُحاك لآسيا الوسطى من المؤكد أنه خطير، لكن في حال التصعيد، الموقع الاستراتيجي لكازاخستان بين روسيا والصين، قد ينذر بحرب واسعة، لأن تدمير هاتين القوتين يبدو أنه تحول إلى هاجس أمريكي – غربي، فكل يوم نسمع بملف جديد يتعلق بهما، الأمر أكبر من احتجاجات، فإما السيطرة على اقتصاد العالم بكل ممراته ومعابره، وإما الفوضى والحروب ستبقى منتشرة في العالم، لكن نأمل أن يحقق الشعب الكازاخي مطالبه، وأن تنتهي الأمور بخير وسلام، الكرة الأرضية تعبت من أطماع البشر ومن الظلم والتوحش القائم في عالم لا يعرف إلا لغة النار على حساب أمن واستقرار الشعوب.
عبدالعزير بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.