محطة في حياتي
شخصية جليلة عرفتها.
هي صدفة بحتة، تتعرض لموقف أو حدث أو يحدث أن يُذكر أمامك أحدهم، فتستعيد شريط الذكريات، وتسعيد الجلسات الجميلة والروحانيات، خاصة وأن هذه الشخصيات لم تعد موجودة بيننا، لنهاية رحلتها في هذه الدنيا، هو قطار العمر يسير بسرعة البرق، وحياة تمشي وتمضي، ولا يتبقى منها إلا الأثر الطيب والذكريات الجميلة.
أحدهم أرسل لي مقطعاً مصوّراً في الكويت، لأنه رآني فيه، في حضرة المرحوم بإذن الله القارئ الكبير، الشيخ محمد الهلباوي، طيّب الله ثراه، هذا المقطع أعادني سنوات إلى الوراء إلى ذاك الزمن الجميل، وصوت العذب، والنصائح الجليلة من وجه سمح تتناثر منه البركة والخيرات، وبكل أمانة عندما رأيت هذا المقطع سقطت دموعي لا إرادياً لشدة تأثري، فالمرحوم الشيخ الهلباوي مدرسة متكاملة في التلاوة وفي التجويد ومدرسة في النغم، وهذا ليس مستغرباً على شخصية حافظة للمقامات وكتاب الله العزيز.
في حديث الذكريات، تذكرت زيارات الراحل الشيخ الهلباوي الذي زار الكويت بضعة مرات، مرة بدعوة من أجد الإخوة (فيصل الشايجي) ومرة بدعوة من وزارة الأوقاف الكويتية، وكان أخي (عبدالله بدر القطان بوبدر ) مرافقاً له خلال فترة تواجده في زيارته الأخيرة إلى دولة الكويت، وبكل فخر واعتزاز أقولها، إن الشيخ الهلباوي كان أحد أساتذتي، فقد تشرفت بزيارته للمرة الأولى العام 2004، ثم توالت الزيارات في عام 2007، و2009، في مصر، وقرأت على يديه القرآن، وكان يصحح ويعدل لي بكل حب، منها “جزء عمّ، وقد سمع، وجزء تبارك، وسورة يوسف، وسورة الكهف، وسورة مريم آنذاك، وما أقوله هنا ليس إلا شكر وتقدير وعرفان لهذه الشخصية التي أعتبرها محطة من حياتي كان لها الأثر الكبير فيها.
بماذا أصفه، لقد كان خلوقاً، كريماً، لم يبخل علي أو على تلامذته بشيء، متواضع جداً، في الجلسات التي جمعتنا في منزلي ذاك الزمان، فقد سجلنا له تسجيلات بكل تأكيد أقول إنها من النوادر، لأنها لم تُنشر بعد، منها سورة طه وسورة مريم بصوته، وبعض المدائح وبعض السور الأخرى.
الشيخ الجليل، توفاه الله في حادثٍ أليم، فقدته الأمة الإسلامية، والعربية، فقدته شخصياً، ورحيله أحزنني، وأوجعني، لكنها مشيئة الله تبارك وتعالى، وكما أقول دائماً، هكذا عظماء أعمالهم خالدة، تتوارثها الأجيال، ومن ينشئ مدارس ضمت آلاف الطلبة، ذكرهم لا يموت، عليهم دائماً تجديد سيرهم وأعمالهم، فالشيخ الهلباوي، أثر إيجاباً في حياتي وكان له دور فيها، وأذكر هنا زيارتي له في مدينة نصر بصحبة الصديق السيد بدر السيد عيسى الرفاعي والأستاذ الفاضل علي المالكي، استقبلني بتلاوة عطرة من الذكر الحكيم، فهل هناك أجمل من هكذا استقبال!
وأذكر أن أهداني أشرطة نادرة جداً له ولكبار القرّاء، وبادلته الهدية بالمثل، لقرّاء آخرين لأنه كان يعلم أن لي مكتبة صوتية قيّمة لا زلت أحتفظ بها، لكنها ليست أغلى ممن وصله جزء منها، وجلسنا سوياً وتبادلنا الحديث دون الشعور بالوقت، تناولنا فيها القرّاء وتاريخهم والمشايخ في مصر، وحب المصريين لآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتحدثنا عن النغم، باختصار، لقد كان موسوعياً وأي جُملة يقولها ويذكرها هي بمثابة درس قيّم لا بد من حفظه في القلب والعقل، وكنت في تلك الزيارة، أكتب في إحدى الصحف الكويتية، وأخذت مقابلة حصرية أدرت فيها الحوار معه، فرّغت ونشرت في إحدى الصحف الكويتية آنذاك، وهي إلى الآن موجودة على شريط الكاسيت ولا زلت أحتفظ بها في مكتبتي، ومدتها أكثر من 90 دقيقة، فكان من أحد اهتماماتي إجراء بعض المقابلات كنقيب أشراف مصر، وابن الشيخ محمد متولي الشعراوي وغيرهم.
ويُعتبر الشيخ محمد الهلباوي رحمه الله، رائد الابتهالات في العصر الحديث، كان عبارة عن مسيرة حياة امتدت طوال حياته، من حفظ القرآن الكريم إلى حصوله على إجازة في التجويد من الأزهر الشريف، أنشد السيرة النبوية، والتواشيح الدينية وكان عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة، صنع بصمته الصوتية الخاصة به، ليكون الشيخ الجليل، أحد أبرز أعلام الإنشاد الديني، مطبقاً القواعد الخاصة بهذه الأمور، من حرصه على الدين الإسلامي، حتى أصبح رمزاً لجيل الرواد من شيوخ الابتهالات والإنشاد الديني، بعد أن جعل منه علماً بقواعد وأركان ثابتة، واستعانت به العديد من المعاهد الموسيقية لتدريس أصول الإنشاد الديني بوصفه أحد رموزه.
ولد الشيخ محمد الهلباوي بحي “باب الشعرية” بمدينة القاهرة، ورث عن جده الشيخ الهلباوي أحد محفظي القرآن بقرية “ميت كنانة” بالقليوبية، حبه وحفظه لكتاب الله عز وجل، فأتم حفظ القرآن الكريم، وهو ما زال صغيراً على يد أكثر من محفظ، وكان جده أحدهم، ومنذ ذلك الوقت بدأ يتلو القرآن وينشد التواشيح الدينية وأناشيد الصوفية حتى أصبحت له قاعدة عريضة من المستمعين الذين جذبتهم إليه عذوبة صوته وقوة أدائه بالرغم من حداثة سنه، واقتربت شهرته من شهرة الرعيل الأول لفن التواشيح، مثل الشيخ سيد النقشبندي والشيخ نصرالدين طوبار، والشيخ محمد عمران، حتى إن “الهلباوي” اتجه إلى التزود بالدراسات والأبحاث الصوتية والموسيقية.
ولذلك يعتبر الهلباوي أول مبتهل يهتم بميدان البحث العلمي، حتى إنه أضاف إليه مؤلفات وأبحاثاً في هذا المجال، التي ترجمت إلى اللغات الأجنبية، مما دفع فرق ومعاهد الموسيقى للاستعانة به لتدريس أصول الإنشاد الديني.
شيخنا الجليل محمد الهلباوي (1946 – 2013)، رحمه الله وطيّب ثراه، قارئ قرآن ومنشد ديني مصري، ستبقى ذكراك في القلب، فأنت الحي ونحن الأموات.
عبدالعزيز ببن بدر القطان