ينطلق طرحنا للموضوع من قصة الكاتب “وطن”، الذي بدأ الكتابة في الصحافة منذ عشرات السنين، وقبل ظهور منصات التواصل الاجتماعي، واستمر محافظا على قلمه من أن يزل أو فكره من أن ينحرف إلى غير مساره، متناولا قضايا مجتمعه ووطنه صغيرها وكبيرها، وما تطرحه أحداث الساحة وغيرها بكل احترافية ومهنية وتوازن وعمق، مقدما الدليل رافدا طرحه البديل، ولأن المجتمع العام (مجتمع السوشيال ميديا) لم يكن يركز على العمق في المحتوى بقدر اهتمامه بسطحية الطرح وتكلفه، مع ظهور بعض الكتابات التي انطلقت من باب “خالف تعرف” حتى أصبحت موضة المجتمع يتداولها ويصفق لها، لتسدل الستار على كل منهجية علمية رصينة في مقال أو بحث علمي أو تقرير، ولتضعها كتابات الشهرة أمام منافسة غير متكافئة ولكنها لصالح السطحية في المحتوى، والأيديولوجية في الطرح، حتى ظن كاتبنا “وطن” بأن منهجه الذي يسير عليه ما عاد يساير الموضة، ولم تمنحه تلك السنون شهرة ما منحته لمثل هؤلاء، رغم ما تحمله كتاباته من هدف، فقرر تغيير المسار، ليدخل مع غيره في مسار الشهرة المظلم، ويتجه إلى طرح القضايا بشكل مزاجي آخر وطريقة جديدة عنوانها “خالف تعرف” في خروج عن المبدأ وانسلاخ عن الهدف فضلَّ وأضلَّ، والناس حوله بين صارخ متهكم، ناقد متذمر، ماذا حل به، أين يريد أن يصل بعد هذا العمر…إلخ؛ إذ باب الشهرة متصدع، وحبلها منقطع، فلقد تيقظت الشعوب من وهمها، وأدركت أن الغوغائيين ومشاهير الغفلة لن يقدموا لها الحقيقة، أو يمنحوها القوة.لقد ظهرت في الآونة الأخيرة حسابات تروج للشهرة، وترفع من سقف مشاهير الغفلة، وأدخلت في هذه الغوغائية بعض الأقلام وصناع الكلمة – ممن وجدوا أنفسهم في زاوية غير معلومة، أمام هذا الصخب وحجم الاهتمام الذي يحصل عليه بعض المغردين ـ إما عبر اهتمامها بسقطات البعض الكلامية، أو تشجيعها ودعمها لبعض المغردين والباحثين عن الأنظار من كتّاب وغيرهم لانتقاء بعض التغريدات التي تهيّج الرأي العام، وتثيره في قضايا تحمل بعض الاستغراب أو الاستهجان، أو تتنافى مع المعتاد والمقبول عرفيا في المجتمع، أو عبر اهتمامها بموضوعات يتعامل معها المجتمع بشيء من التحفظ، ومزيد من الحذر؛ إما لكونها تمس خصوصيته أو تتعدى ـ في نظره ـ على حرمات الناس وكراماتهم وتتدخل في شؤونهم، أو عبر اختزال بعض الطرح الصحفي أو الإعلامي لمسؤول حكومي أو غيره بهدف إثارة الرأي العام حول هذا الطرح، ولفت أنظار المتابعين إلى هذه الحسابات، وهو أمر بات يلقى رواجا من هذه الفئات، لتبدأ مرحلة جديدة عنوانها الشهرة، هدفها الحصول على أكبر قدر ممكن من الإعجابات أو التعليقات التي تحمل في ذاتها حالة من السطحية والردود المبتذلة أو المتحاملة على بعض التوجُّهات أو المقلة للجهد الحكومي، ودون الالتفات إلى نتائجها وتأثيراتها السلبية ما دامت تشبع الغرور أو النقص الذي يشعر به أحدهم وهو يتابع عبر المنصات التواصلية حجم ما يحصل عليه بعض مشاهير الغفلة من إعجابات ولفت الأنظار.وبالتالي ما يطرحه واقع الأمر في ظل اتساع رقعته ونمو مدخلاته، من تساؤلات ونقاشات، وعلامات استفهام حول تأثيرات هذه الصورة المشوهة للفكر السليم، والمنطق الأصيل ليتجاوز حدود السطحية، ويسجل حضوره في كومة المعلبات الفارغة التي بات يتداولها المجتمع عبر منصات التواصل الاجتماعي و”الواتس أب” دون تبصُّر أو بصيرة، أو تأمل أو استيعاب، وكما يقول أكثرهم: إنها على سبيل الدعابة والضحك أو الترويح عن النفس أو غيرها من العبارات، في حين أنها في حقيقة الأمر تعبِّر عن مساحة السطحية التي اتجه إليها المجتمع واهتمامه بالطرح الساذج، والعبارات الغوغائية، وتناقله للأفكار المغلوطة، والتغريدات العقيمة فيما تطرحه في محتواها أو غاياتها أو مستوى الطرح الفكري لها، ليتجه اهتمام المجتمع بهذه المعلبات على حساب المحتوى الأصيل، والفكرة الرصينة، والطرح التحليلي المعمق، وما يحمله بين السطور من مزون الكلمة، والكلمة الطيبة، والمعلومة الصادقة، والتوجهات الفكرية المعتدلة، والنظرة التحليلية العميقة، والقراءة الإبداعية المعمقة، والفكرة المطورة، والخبر الثابت، وعلى حساب نتائج البحث العلمي، والدراسات المحكمة، والنظريات المجربة، وبالتالي التأثيرات الناتجة عنها على قناعات الشباب ـ أكثر المستخدمين لهذه المنصات والمتأثرين بها ـ، وأنماط تفكيرهم، ومستوى إيمانهم بالمبادئ الوطنية، والمسلمات المجتمعية، والأخلاقيات في ظل محتوى معرفيا فارغا، ونظرة ضيقة سطحية للأمور تتجه بالشباب إلى الاجترار والتنمر في الوقت نفسه، ليس بعمق طرحهم للموضوعات، أو الجديّة والمصداقية التي تبرزها تغريداتهم بين السطور، أو ما تخرج به من حصيلة تنوع البدائل وتقديم الحلول للتحديات، أو تقريب الصورة الإيجابية الأخرى في ذهن الشباب حول موقعه ومسؤوليته في رفع مستوى مشاركته في منظومة العمل الوطني.على أن ما يبرزه واقع تعاطي الشباب مع منصات التواصل الاجتماعي و”الواتس أب” بترويج المعلّبات الجاهزة، وحصر اهتمامه في شكليات العناوين البراقة المصحوبة بالسلبيات والسخريات، وسرعة تداولها وانتشارها يبرز في محتواه نمطا فكريا خطيرا، وسلوكا سطحيا يقوم على التقليد الأعمى، والتبعية الفكرية، وتحجيم دور العقل الواعي والتفكير الحصيف، في إدارة معطيات عالمنا المعاصر، فإن فتح باب الشهرة على مصراعيه بلا حسيب أو رقيب، وما نتج عنه من تشويهات للفكر الرصين والمعلومة الصادقة، وخروج عن المألوف من الطباع، والمحمود من الأقوال، والمرغوب من الأفعال، وتعميق الهوة بين المبادئ والممارسات، والأفكار والقناعات، في افتقارها لمنظومة قيمية أخلاقية إنسانية، وذائقة جمالية روحية وفكرية نابعة من استشعار عظمة المبادئ، والتزام معايير الآداب والمروءة والأخلاق السامية التي رسمتها استحقاقات الفطرة العمانية.لقد أسهم الفهم الضيق لحرية التعبير في انتعاش سوق الشهرة، وارتفاع زبائنه، وبدأت تظهر شواهد ذلك في حجم التراكمات الكلامية والظواهر الصوتية التي يعبِّر بها بعض أبناء المجتمع بمختلف الأشكال التعبيرية لتصل إلى المنصات الاجتماعية بكل سهولة ويسر، ولتتبوأ الشهرة موقعها في مسار النقيض للمعتاد، في ظل تكهّنات شخصية، تقوم إما على مخالفة صريحة أو ضمنية لبعض العادات والقِيم والأخلاق والأعراف والمفاهيم المتداولة والمستساغة وتجاوز العمل بها، أو مخالفته لمنطق الأشياء والمسلمات، وإحداث ظاهرة جديدة لإظهار الذات وإبراز المفخرة في السلوك، وحشد التأييد والتصفيق له، وتناقل حديثه أو تغريداته في أوساط الشباب، لقد ساهم هذا الحضور اللافت للنظر لبعض هؤلاء والحركات التي يشدون بها الجمهور، والكلمات التي بات يتداولها مجتمع المراهقين والشباب من الجنسين، أن يجعل أحدهم من نفسه الوصي على أحوال الناس والمجتمع، ومن يعمل جاهدا على مد يد العون لهم، واهمين غيرهم بأنهم يقومون بدور الإصلاح ومقارعة الفساد، في حين أنهم يمارسونه جهارا نهارا، بما ينشرونه من أفكار أحادية وأيديولوجيات تتجافى ومضامين صون كرامة الإنسان وحفظ حقوقه، أو تختزل عقلية الناس وتفكيرهم، فأفسدوا قِيَم الشباب المراهق وأخلاقهم وأضاعوا لهم تريثهم وانتظارهم، واختزلت واقعهم في أفكار وقتية تستهدف ملء الضجيج، وسرعة الانتشار، وارتفاع تفاعل الناس معها، إذ يجد في نقطة ضعفهم فرصة لزيادة حالة القلق النفسي والتذبذب الفكري، وتضييع أوقات الشباب في تداول مقاطعهم أو تغريداتهم.وتبقى الشهرة مزامير وقتية تغنّي للهوان، وترقص للضعف، وتبارك للفشل، وتصفِّق للانتكاسة، وتحقِّر من قيمة النجاح، وتقلل من عظمة المنجز، وتقارن في ظل عدم تكافؤ، وتتقوَّل من غير دليل، وتنحاز من غير تريث، لتجد في الواقع من يساندها في هدفها، ويدفعها إلى التسلق على أكتاف الحقيقة، ويسوِّق لكتاباتها وتغريداتها ومقاطعها وأفكارها مقدما لها على غيرها من سموَّ القول، وعظيم الكلم، ورُقي المحتوى، ليجترها الشباب المراهق من الجنسين في أوعيتهم، فإن ما تحمله الشهرة في ظل محتواها المتناقض، من أفكار الحرية المطلق، والفوضى المجحفة في حق الإنسان والتنمية، الداعية إلى تجاوز القانون، أو الناقمة على النظام، فتصطاد في الماء العكر، عبر إلهاء الشباب عن قضاياهم الكبرى وأولوياتهم وأهدافهم المصيرية، ليبحثوا عن رصيدهم في الكلمات النابية أو الأفكار الضيقة أو الطموحات المادية الوقتية، والاحتياج القائم على أنانية النفس، وسطوة التفكير السلبي على كل مكونات الإنسان الفكرية والنفسية والترفيهية والترويحية والتطويرية والمهارات، وإشغال الشباب بالتفاهات والردود والمجادلات الوقتية، والمجاملات التي تضيِّق عليهم نوافذ الأمل، وتقلِّل فيهم دوافع العطاء، وتفتح فيهم نشوة التنمر والتمرد في مواجهة الواقع والانسحاب من المواجهات الصعبة التي تتطلب الثوابت والشواهد.فإن ما تعُجُّ به منصات التواصل الاجتماعي من الباحثين عن الشهرة، والمغردين غير المحتسبين لصدق الكلمة، وموضوعية المعلومة، وغير المحسوبين للإعلام الراقي المسؤول، لن تقدم ثقافة إنسانية رصينة تحتاجها شعوب العالم اليوم في ظل أحداث كورونا (كوفيد19) والتغير المناخي، وتداعيات الظروف الاقتصادية التي باتت تشكل تحديا كبيرا في مستقبل الأجيال، جعل من المصطلح الدارج “خالف تعرف” أقصر بوابات الشهرة للحصول على الكسب السريع والمبالغ الطائلة من الدعايات والإعلانات، وكسب المزيد من الأصوات الجوفاء، وتسليط الأضواء الإعلانية عليهم، والمزيد من المهاترات الإعلامية والسقطات المتكررة، لا يردعها عن تحقيقه نصح ناصح، أو توجيه عارف، أو تصحيح ناقد، أو استشارة حكيم، أو حكمة حصيف.أخيرا، يبقى حبل الشهرة قصيرا، وبابها متصدعا غير قادر على الثبات في وجه الحقيقية، فإن على جميع أبناء هذا الوطن الغالي أن يكونوا أكثر وعيا في التعاطي مع ما يطرح عبر معلبات الباحثين عن الشهرة ومحتواهم الهزيل، وفتح ما تضمه معلباتهم قبل ترويجها ونشرها، فهي لن تصنع ثقافة راقية داعمة للتطوير، قائمة على الاستدامة والرصانة والتنوع في التفكير، أو الاستفادة من المنجز الحضاري العالمي وتوظيفه بالشكل الذي يخدم قضايا التنمية الوطنية ومجالات العمل من أجل سعادة الإنسان وتعميق روح التسامح والوئام بين أبناء المجتمع؛ فما هي إلا سحابة صيف تتقشع عند أول مواجهة، وظاهرة صوتية تخرس عندما تواجه بالحقيقة والأدلة والشواهد، وتنطفئ عندما تتكاتف جهود الجميع في كشف زيف المعلومات المغلوطة فيها، وتبقى الدعوة مفتوحة في المقابل لمن يحملون رسالة الكلمة، وصدق الدعوة، من علماء وباحثين وكتاب ومعلمين وأكاديميين وغيرهم، المخلصين لوطنهم وسلطانهم، والعارفين بحقوقهم وواجباتهم ومسؤوليتهم، أن يوطِّنوا أنفسهم، ويترفعوا عن الانجرار في هذا المآزق، أو الانخراط في جرف الشهرة السحيق ومستنقعها الضحل، بنشر وتداول أو التصفيق والتطبيل لهذه الكتابات أو غيرها حتى وإن كانت على سبيل الفكاهة؛ فلنكن وطنا يحتوي زلات المخاطرين بعظمة الكلمة والمسوِّقين لفتاتها وزبدها حفاظا على هوية الوطن وأخلاق الأجيال القادمة. “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17].
د. رجب بن علي العويسي