أشرنا في مقال الأمس، حول طبيعة فهم النص القرآني وفهم الواقع وتوضيح المعنيين بما يتعلق بمقاصد الشريعة الإسلامية في عهد الصحابة والخلفاء الراشدين، وإستمكالاً للموضوع، سنتطرق إلى الرؤى المقاصدية وفقه الصحابة وتوضيح فقه المقاصد وفقه السياسة الشرعية ومواضع كلٍّ منها.
عصر تطبيق المقاصد
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألفوا أن يفهموا النص القرآني على ضوء هذه المقاصد التي جاءت من الله تبارك وتعالى، وكانت غاية وهدفاً وسراً حِكماً وراء التشريع، يقابل ذلك فهم هذه المقاصد عند التطبيق وعند التنزيل، فكل حكم لا تتوافر شروطه لا يطبق كما أشرنا أعلاه، والحكم المتوافر الشروط وغابت الموانع عنه يطبق وينزل منزل التطبيق وبالتالي يحقق أهدافه وغاياته بالنسبة للمجتمع طبقاً للمنهج الذي تربى عليه الصحابة من الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، ثم الإمتداد لهذا العصر، وهو عصر الخلفاء الراشدين تطبيقاً مقاصدياً واضحاً.
الرؤى المقاصدية
في البحث عن الرؤى والنماذج والحلول والتطبيقات المقاصدية في عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليكن ذلك جزءاً مما سمّي بمبحث السياسة الشرعية الذي فتح الباب واسعاً أمام حركة الواقع وأمام حركة النصوص وأمام حركة العقل الفقهي من خلال الصحابة حيث أنزلوا الأمور منازلها وضبطوا التطبيق بقواعد وأصول وضوابط ولم يتركوا الأمر خارج هذه الضوابط أي عندما نفهم النص القرآني فهماً صحيحاً منضبطاً على قواعده اللغوية وبنيته الأسلوبية والنحو والصرف واللغة ومعاجمها وبالتالي لا يجب الخروج عن هذا الفهم.
فقه الصحابة
قال الفقهاء، إن القرآن الكريم لا يمكن أن يُفهم إلا في ضوء قوانينه اللغوية، والإمام الراغب الأصفهاني في تفسيره، سمّى الذين يدخلون إلى عالم النص القرآني بعيداً عن مقاصده وبعيداً عن قوانينه اللغوية بـ “التفسير المستكره”، أي أن يكره النص على أن ينطق بما ليس فيه، كمن يغير في الميراث وأحكام الأسرة وغير ذلك مبتعدين عن المنهج وسياسة النص الشرعية مدخلين لغات لسانية أخرى على النص القرآني، وهذا في هذا الموضع حكماً وقطعاً لا يجوز.
وإذا أردنا أن نستوعب فقه الصحابة بجميع توجهاتهم وعلى ما بينهم من خلاف، سواء بين الرأي أو الحديث، إذا لم نلتفت إلى فقه السياسة الشرعية خاصة عندما تحولت حركة المسلمين في الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي إلى دولة كبيرة لتشمل الشام والعراق ومصر وفلسطين وصولاً إلى جنوب شرق آسيا والمغرب العربي فالأندلس، فهذا يمثل واقع وحياة جديدة، وهنا لم يعد فهم النص هو المنهج الوحيد أي لم يعد كافياً، وبالتالي لابد من فهم الواقع الذي ينزل عليه ذلك النص ولذلك حدث هذا التزاوج بين فهم النص وفهم الواقع الذي يعني (إسناد الأمر إلى أهله ليكون متقناً) لأن الإتقان جزء من مقاصد الشريعة الإسلامية وأهدافها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، ما يعني أن الفهم المطلوب في تنزيل الأحكام الشرعية ليس مقصوراً على فهم خطاب النص كهذا (حرام أو حلال، جائز أو غير مباح وغير ذلك)، وبالتالي تتغير الأحكام بتغير الأزمنة والأشخاص والأمكنة، وبذلك المقصد هنا هو الحكم الفقهي وليس الحكم الأصولي الذي هو خطاب الله تبارك وتعالى، لا يتغير لا بالزمان ولا المكان ولا الأشخاص، فمثلاً ارتكب أحدهم فعل القتل ويجب تطبيق القصاص، قبل ذلك لابد أن نعرف هل قتل عمداً أم إهمالاً وخطأً، ويجب أن نعرف مدى ثبوت هذا القتل بالنسبة لمرتكب الفعل، في هذا العمل تتحرك جهات أخرى غير فقهية لتجميع الأدلة، لأن الفقيه لا علاقة له بفهم الواقع أي وصفه بل عليه تركه لأهل الإختصاص، ومع تبيان كل الملابسات بدقة بعدها يستطيع الفقيه بكل إطمئنانٍ ديني وقضائي وعلمي أن ينزل حكم الله تعالى على هذه الواقعة.
إذاً هناك إرتباط ما بين فقه المقاصد في عصر الخلفاء الراشدين مع فقه السياسة الشرعية، لأن الخلفاء الراشدين واجهوا واقعاً جديداً معقداً فيه مسائل تتعلق بالحكم والميراث والمرأة والأسرة والعلاقات بين المجتمعات خاصة في ضوء الفتوحات الإسلامية وتعاملهم مع الديانات المختلفة وبالتالي وجدوا واقعاً سياسياً وإقتصادياً جديداً يحتاج إلى المزيد من التوصيف والتحديد، ومن هنا أصبح منهج المقاصد الشرعية هو المنهج الذي يحقق للصحابة منهجاً قادراً على فهم النص من ناحية وفهم الواقع من ناحية أخرى.
إن ما قام به عصر الخلفاء الراشدين في مجال المقاصد هي تلك التطبيقات العملية التي تؤسس لفقه المقاصد والتي ينبغي أن نستثمرها في الواقع الحياتي للناس.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان