في متابعة موضوع فقه مقاصد الشريعة الإسلامية للوصول إلى تفعيلها في حياة البشر، كما أشرنا في موضوعاتٍ سابقة، وفي رحاب موضوع اليوم عن هذه المقاصد من أجل نشر ثقافتها وتفعيل دورها وسط عالم المتغيرات إن جاز التعبير، يحتاج إليها عند تطبيق الشريعة وعند فهمها وتنزيلها. ووفق رؤية الإمام الغزالي “حجة الإسلام”.
للغوص في تفاصيل مقاصد الشريعة الإسلامية لابد من فهمها تاريخياً، وفهم الكتابات التي خطها علماء كبار في هذا الشأن، ومن خلال المفاهيم، والمصطلحات والتقسيمات والتطبيق، وإيجاد الصلة ما بين العلوم التي تولدت داخل الفقه الإسلامي، لتكون علوماً مهمة ومساعدة ومطبّقة ومؤصّلة لما نسميه “مبحث المقاصد الشرعية”، فمن المعروف أن هناك علوم كثيرة وجديدة نشأت في هذا الإطار من بينها فقه الواقع وفقه الأولويات وفقه الفروق وفقه السياسة الشرعية الذي يتحرك على البنية المقاصدية والمبحث المقاصدي، لأنها تدبير لمصالح الأمة فيما لا يوجد فيه نصوص.
نحن اليوم بحاجة إلى مقاصد الشريعة لإستيعاب النصوص وإيجاد الحلول الممكنة التي تناسب مصالح الناس في أي عصرٍ كان أو زمان ومكان، وذلك من خلال حلول جزئية لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، ومن هنا يأتي المبحث المقاصدي ليكون الفيصل الدقيق والوثيق ما بين النصوص الشرعية الكلية وما بين الإجتهادات الجزئية التي يقوم بها المختصون من الفقهاء في الإجتهاد الجماعي الذي يضع نصب أعينه تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً سليماً وبذات الوقت حماية مصالح المجتمع.
العالم اليوم متغير، وبالتالي يقتضي منّا إيجاد أحكاماً ملائمة ومناسبة، ومن هنا جاءت القاعدة المقاصدية الرئيسية التي تتحدث عن تغير الأحكام بتغير الأحوال والأزمنة والأشخاص كما أشرت حولها في موضوعٍ سابق. وهذا الأمر كله معاً تغطيه نظرية المقاصد بمساحتها الواسعة التي هي أشبه بالفضاء الواسع والحر، حيث تصبح فيه النصوص الشرعية مفتوحة وليست حبيسة آراء متشددة أو متنوعة على مر القرون، وبالتالي يكون النص مفتوحاً وقادراً على إستيعاب كل التفاصيل والجزئيات وأن يدخلها تحت مظلة الشريعة الإسلامية سواء تحت مظلة النصوص المباشرة في حال كانت حديثاً مباشراً أو تحت مظلة المقاصد الشرعية ورعاية مصالح الأمة من خلال درء الفساد وجلب الخير للناس، فهذه هي الدائرة الرئيسية التي تتحرك فيها نظرية المقاصد.
وفي مرحلة التطور والتأصيل وإلتماس الأبعاد المقاصدية عند فقهاء الإسلام عبر العصور المختلفة، نستحضر مباشرةً في هذا الخصوص “الإمام الغزالي”، (أبو حامد محمد الغزّالي الطوسي النيسابوري ” نيسابور التي أشرنا لها في موضوعاتٍ سابقة حول عروبة العلماء التي سكنتها وأطلق عليها إسم مستوطنات عربية”، الصوفي الشافعي الأشعري، أحد أعلام عصره وأحد أشهر علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري)، وكما أشرت سابقاً أن الإمام الغزالي كان تلميذ إمام الحرمين، الإمام الجويني.
الإمام الغزالي، حجة الإسلام الذي أصبح إماماً في الفقه الشافعي والإسلامي وإماماً في علم الكلام، وله موقف متشدد من الفلاسفة والفلسفة عموماً، حتى قيل إن الإمام الغزالي أغلق أبواب الفلسفة الإسلامية في المشرق وفي المغرب، وكنت قد وضحت ذلك في بحثٍ سابق بعنوان “بين الغزالي وديكارت”.. علمني الشك اليقين!، وعلى الرغم من أن الأخبار تقول إن حجة الإسلام عدو الفلسفة، لكنه مقابل ذلك لم يمنع العقل من التفكير، لأن العقل فريضة إسلامية، ولم يمنع العقل من الحركة، وإنما أراد أن يجعل العقل كما هو شأن علماء الإسلام أي أن يسير العقل مع النص، وألا يكون معارضاً ومخالفاً له، وإلا فسدت الحياة، فعندما يخالف العقل النصوص، يخرج عن إطاره الإسلامي ويتحول إلى ما يمكن تسميته بـ “الهوى”، والنص القرآني واضح في هذا الإتجاه، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: “ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهنّ”، تحت ما يسمى الحرية العقلية، فالبعض يختار أفكار رديئة وتشريعاتٍ فاسدة كإحلال العلاقة ما بين الرجل والمرأة، بدون عقد زواج، أو كإحلال ما يسمونه اليوم “المثلية”، والذي مع الأسف الجديد نجد ذلك موجود في إتفاقيات دولية.
من هنا، أراد الإمام الغزالي أن يضبط وظيفة العقل، فالعقل عندما يتحرك، يتحرك داخل النص ومعه، ويتحرك العقل أيضاً لفهم وتطبيق وتفسير النص، ويتحرك أيضاً لمعرفة مقاصد النص، لكن العقل لا يتحرك لكي يعارض النص، كموضوع الميراث مثلاً ما جاء حوله هو نص قطعي، قال تعالى في كتابه العزيز: “يوصيكم الله في اولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين”، مع مراعاة أنه لا محاباة لا للرجل ولا للمرأة، فلكل عائلة وارثة ظروفها، فالمتخصص في علوم الميراث والفرائض يعلم ذلك، ففي حالات محددة قد ترث المرأة نصف ما يرث الرجل وبالعكس، لكن ذك لا صلة له على الإطلاق بموضوع المساواة بين الرجل والمرأة، فهذه القضايا جاءت بها نصوص إسلامية وشرعية قاطعة وواضحة سواء في القرآن الكريم أو في السنة النبوية الشريفة.
وبالتالي تأتي المقاصد الشرعية عندما يفكر فيها الإمام الغزالي منضبطةً بأن هناك علاقة مباشرة ما بين العقل والنص، وأن هذه العلاقة العقل فيها تابع والنص فيها متبوع، أي يرشد ويهدي إلى الطريق الصحيح، لأن الله تبارك وتعالى أرسل رسله بالحق لكي يبينوا للناس سبل الهداية والإيمان والمعرفة الصحيحة، وسبل الحياة الإنسانية السليمة، وسبل العلاقات الإنسانية القائمة بين البشر على الوضوح والجدية والعمران والمنافع المتبادلة في ظل رعاية الرحمن وعبادته وهدايته.
إن مفهوم المقاصد لدى الإمام الغزالي بدأ يتضح وتظهر نظرية الحفظ التي تحفظ تماسك المجتمع من خلال تطبيقه لتشريعاته تطبيقاً أميناً من خلال تطبيق أوامر الله تبارك وتعالى، ونواهيه، تطبيقاً سليماً عادلاً يعطينا القدرة على الفهم والإستيعاب والتطبيق من خلال الإستثمار الذي يكون بالحصول على ثمار الدنيا كما نحصل على ثمار الآخرة. قال تعالى: “وسيق الذين اتقوا ربهم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين”.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان