كما كنا ومستمرين في الإشارة إلى جمال البيان البلاغي للقرآن الكريم، وإعجازه الكبير، فقد خص الله العرب بالبلاغة والفصاحة ما لم يخص غيرهم من الأمم، فوهبهم فصاحة اللسان، وقوة البيان، وفنون القول، وضروب الشعر، إلى أن جاء القرآن، فأذهل عقلاءهم فوقفوا أمامه مبهورين ومتحيرين، وعجزوا أن يجاروا بلاغته. فأحسوا بالجمال الذي يفيض به النص القرآني.
القرآن الكريم معجزة االله الخالدة وحجته البالغة، هو كتاب لا تنقضي عجائبه، وقد خرج مفهوم الإعجاز عن دائرة البحث في الإعجاز المقرون بالتحدي إلى الإعجاز الذي يعزز النظر إلى أن القرآن من عند االله، بالتالي، تعددت الدراسات التي تناولت النص القرآني، فمنها ما انصب اهتمامها على لغته، ومنها ما اهتم بأسلوبه، ودراسات أخرى بينت بيانه وبلاغته، فالبحث في القرآن الكريم ليس ترفاً علمياً ولا سياحة فكرية، بقدر ما هو ضرورة ملحة، وواجب ديني وإيماني، قال تبارك وتعالى: (الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان)، إلى جانب وجود الإعجاز التشريعي الذي جاء على نحو شامل كامل لا نقص فيه ولا خلل ولا تعارض، ويشمل جوانب الحياة جميعها، فهو ينظّم حياة الأفراد والجماعات والدول، مراعي الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والفقير والغني، والحاكم والمحكوم، في شتى المجالات الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، كذلك الأمر، الإعجاز العلمي، وهو إخبار القرآن الكريم عن حقائق وظواهر كونية وعلمية ثبتت في العلوم التجريبية، ولم تكن مدركة في زمن النبي صلى الله عليه وآله سلم بالوسائل البشرية، وأثبتها العلم الحديث، ممّا أكّد صدق القرآن الكريم، وأنّه ليس من صنع البشر.
بالتالي، ليس هناك من مجتمع بشري دون لغة تُمكنه من التعرف على اللغة العربية وتذوقها والتسليم بتفوقها على لغته ابتداء وتفوق القرآن الكريم على سائر الكلام انتهاء دون الحاجة لكثير من العلم والتقدم التقني وفي أبسط أشكال المجتمعات البشرية وأكثرها تواضعاً لما تحمله كلمة القرآن ببلاغتها السامية من مبادئ العدالة والمساواة والقيم الرفيعة بين كل البشر ومع خالقهم سبحانه وتعالى. وهكذا ينبغي أن تكون الرسالة الخاتمة الشاملة لكافة البشر قابلة للوعي وقادرة على الوصول وإعجاز الجميع، وبينما يمثل الإعجاز العلمي بالقرآن الكريم بمحدوديته مظهراً وامتداداً لإعجاز القرآن البلاغي؛ حيث يكمن إعجازه بلاغياً في ورود المكتشفات العلمية الحديثة موصوفة في آيات محددة بدقة متناهية في وقت لم يكن بالإمكان أن تكون تلك الحقائق محسوسة بشكل من الأشكال؛ نجد الإعجاز البلاغي الذي يتمثل في كل كلمة من كلمات القرآن الكريم يؤكد على إعجازه كاملاً حد التسليم بكل تلك المعارف الغيبية التي قد لا يعرفها الكثير من الناس.
من هذه المقدمة البسيطة، نستكمل إلى ما وصلنا إليه من تفسير سورة طه من الذكر الحكيم، يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم من سورة طه: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنَّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولّى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
هذه الآيات استمرار لما كان من حديثٍ بين الله تبارك وتعالى بين نبيّه موسى وأخيه هارون عليهما السلام، ولقد عبّرا فيما بدا منهما من أول لحظة من خوفهما أن يسارع إليهما (فرعون) بالإساءة أو أن يطغى عليهما، فكان رد الله عز وجل بقوله: (قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنَّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى)، هذا الحديث كله حديث من الله تبارك وتعالى إليهما، إن الله تعالى يعلمهما كيف يخاطبان فرعون “الجبار”، من خلال التذكير بأنه ليس (إلهاً أو ربّاً) كما يزعم، وإنما هو عبد من عباد الله إن أطاع وسمع للرسالة (والسلام على من اتبع الهدى)، هذا أيضاً جزء من حديث الله عز وجل وتكليفه لهما بالرسالة، فجوهر الرسالة التي بُعث بها النبيّان هي إنقاذ بني إسرائيل من العبودية ومن الذل والسخرة التي كانت إطاراً لحياتهم ومغزىً لوجودهم، ولقد ورث هذا الموقف، من موقفٍ آخر سبقه عندما كان بنو إسرائيل مهيمنين على مصر وعلى الحكم في عهد يوسف عليه السلام ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا)، كان بنو إسرائيل هم فعلاً سادة الحكم في مصر، ثم شاء الله عز وجل للمصريين أن يستردوا سيطرتهم على الحكم، فزالت دولة بني إسرائيل وهلك يوسف وهلك الكثيرون وجاءت أجيال أخرى لا تجد إلا العبودية والذل حتى أنهم نسوا أنهم عباد لله، فأصبحوا عباداً للفرعون وذلك من خلال ما يصب عليهم من العذاب (أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم)، (قد جئناك بآية من ربك)، (إنَّا رسولا ربك) وكأن هذا محاولة لاختراق وعي الفرعون، ليعلم أنه فعلاً ليس إلا مجرد مخلوق عبد للرب العظيم، وهذان النبيّان يذّكرانه بأنه مربوب لله وليس ربّاً على العباد.
(والسلام على من اتبع الهدى)، هذا السلام ليس للفرعون، وإنما هو سلام لمن اتبع الهدى، ومن لم يتبع الهدى فلا سلام ولا كلام، (إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولّى)، لم يقولا لفرعون إنك ستعذب في النار، ولكن جاء الإخبار بهذه الصورة التي تشعره بأن هنالك نذيراً، فعذاب الله عظيم على من كذّب وتولّى، هنا استيقظ الفرعون وكأنما أصابته مصيبة وبدأ يقول من ربكما يا موسى؟ ما هذا الرب الذي بعثكما؟ كما قال (ما علمت لكم من إله غيري)، فإذا به يستيقظ على نداءٍ للرب، فيسأل، من هذا الرب؟ (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، أي ربنا الذي خلق كل شيء وليس هناك استثناء لشيءٍ من الأشياء، وإنما كل شيء من خلقه سبحانه، ومن إبداعه ومن هدايته، وربما كانت الهداية هنا هي كل ما زوّد به كل كائن من سلوك يسلكه يحافظ به على نوعه، هنا تُفسّر فكرة الهداية، أنه خلق كل شيء وأعطاه خلقه، ثم هداه إلى الفطرة وإلى الغريزة التي تحافظ على وجوده، ولولا هذه الفطرة ما بقي أحد، ولهلكت كل الكائنات، لكن هداية الله عز وجل، تزود خلقه بوسائل بقائه واستمراره، فسأل، (قال فما بال القرون الأولى)، فعندما أجابه موسى (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هداه)، إلتفت إلى نفسه ووجد أنه لم يخلق شيئاً، ولا يملك أن يعطي شيئاً خلقه، ولا أن يهدي شيئاً إلى غريزته أو فطرته، فبدأ يلفت النظر إلى السابقين (فما بال القرون الأولى) أي الذين سبقوا، وكأنه لا يدري أن الله تبارك وتعالى أرسل لكل قومٍ نبيّاً (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم)، (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)، بالتالي هو يدل بهذا السؤال على جهله، إنه لا يعرف أن كل قومٍ سبقوه إلى هذه الأرض وإلى الاستقرار عليها، وجاءهم رسول منهم يخبرهم بوجود الله تبارك وتعالى، وبضرورة توحيده.
(فما بال القرون الأولى) ماذا فعل الناس قبلنا، وأين ذهبوا؟ وما حالهم؟ (قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) أي لا يضيع من علمه شيء يتصل بالقرون الأولى، وممن سبقوا أو لحقوا، والله تعالى لا ينسى شيئاً من هذا، بل الناس قد ينسون ما فعلوه وما قدّموه، ولكن الله عز وجل محصيه ولا ينساه، ثم يستمر موسى عليه السلام في بيان عظمة الله تبارك وتعالى، ومدى ما أنعم به على فرعون وقومه، ومصر في ذلك الزمان كانت جنة الدنيا، كل ذلك من عطاء الله (الذي جعل لكم الأرض مهداً)، إنكم لم تمهدوا هذه الأرض ولم تبذلوا في إصلاحها جهداً، ولكن الله هو الذي مهدها لكم، (وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى)، هذه الأرض وهذا التراب وهذه الأرض ليست مجرد بساط تدسونه بأقدامكم، وإنما هو خلق مشحون بالأسرار، كل ذرة في هذه الأرض من التراب تحمل سراً تتحول بقدرة الخالق إلى نبات رائع، إلى حيوان وكائن حي، إلى إنسان يتحرك، هذه هي الأرض التي جعلها الخالق مهداً، وما أنت يا فرعون إلا ذرة من هذا التراب الذي تدوسه قداماك على هذه الأرض، وهنالك من نظر هذه النظرة إلى تراب الأرض، لم يرَ فيه مجرد تراب، بل رأى فيه معنىً أكبر، هو حب هذه الأرض وعدم سحقها.
في تفسير الزمخشري للآيات الآنفة الذكر، يتناولها بأسلوب مبدع، وما جاء (لا تنسياني ولا أزال منكما على ذكر حيثما تقلبتما، واتخذا ذكري جناحاً تصيران به مستمدين بذلك العون والتأييد مني، معتقدين أن أَمراً من الأمور لا يتمشى لأحد إلا بذكري. ويجوز أن يريد بالذكر تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلِّها وأعظمها، أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر. وإذا كان الحافظ والناصر كذلك، تمّ الحفظ وصحت النصرة، وذهبت المبالاة بالعدوّ. كان بنو إسرائيل في مملكة فرعون يعذبونهم بتكليف الأعمال الصعبة من الحفر والبناء ونقل الحجارة، والسخرة في كل شيء، مع قتل الأولاد، واستخدام النساء، ولا يقل إبداعاً تفسير الآلوسي عن سابقيه، (إنني معكما أسمع وأرى) تعليل لموجب النهي، والمراد من سبحانه كمال الحفظ والنصرة كما يقال: الله تعالى معك على سبيل الدعاء.
من هنا، وكما تشرح الدكتورة عائشة (بنت الشاطئ)، القول بدلالة خاصة للكلمة القرآنية، لا يعني تخطئة سائر الدلالات المعجمية، كما أن إيثار القرآن لصيغة بعينها، لا يعني تخطئه سواها من الصيغ في فصحى العربية. بل يعني أننا نقدر أن لهذا القرآن معجمه الخاص بيانه المعجز، فنقول إن هذه الصيغة أو الدلالة قرآنية، ثم لا يعترض علينا بأن العربية تعرف صيغاً ودلالات أخرى للكلمة، والأمر كذلك فيما يهدي إليه الاستقراء من وجوه بيانية وظواهر أسلوبية، تقدمها منه دون أن نخشى فيها مخالفة لبعض قواعد النحويين وأحكام البلاغيين. لأن الأصل أن تعرض قواعدهم وأحكامهم على البيان الأعلى، لا أن نعرض القرآن عليها ونخضعه لها. ويبدو أننا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في قواعد النحو وأحكام الصنعة البلاغية، في ضوء ما هدى ويهدي إليه التدبر الإستقرائي لكتاب العربية الأكبر. في بيانه المعجز، ولعل هذا صفوة القول وبديعه.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.