في الوقت الذي يشهد فيه العالم الرقمي تحوُّلات كبيرة في تقنيات الاتصال المتقدمة، والمنصَّات الاجتماعية التواصلية، وصفحات “السوشيال ميديا”، وظهور موضة المشاهير كظاهرة صوتية كلامية دعائية بدأت تغزو العالم وتعيد فيه ترتيب أوراقه الموجَّهة نحو تربية النشء وتنشئة الشباب، لتصبح أكبر مؤثر إعلامي وتسويقي وترويجي فاعل في توجيه بوصلة الاهتمام، وإعادة هندسة الأفكار، وبناء اتجاهات الشعوب وقناعات الشباب، وتعزيز فرص المتابعة لكل المستجدات في عالم الموضة والموديلات، وغيرها؛ شهدت سوق الإعلانات التجارية والدعاية الرقمية حضورا كبيرا مستفيدة من خصوصية سرعة الانتشار والتداول، وحضور مجتمع الشباب خصوصا وفئات المجتمع الأخرى كأهم مكون رئيسي لهذه المنصَّات، ولتجد فيها شركات الإنتاج والخدمات والسلع والبضائع، والتجار وأصحاب المال ورجال الأعمال وأصحاب العلامات التجارية ومراكز التسّوق العالمية، فرصتهم في الاستفادة من تزايد أعداد المستخدمين للمنصَّات التواصلية ممن يمتلكون مهارات الترويج والتسويق الشبكي لإعلاناتهم التجارية، وفي المقابل وجد مروجو الإعلانات التجارية والدعاية الرقمية في هذا الاتجاه فرصة كبيرة للحصول على مكاسب مادية مالية مرتفعة، وعقود ترويجية ضخمة، تجسِّدها في الواقع مبيعات تتجاوز التوقعات، وشغف جماهيري باقتناع المنتج لمجرد وجود أحد مشاهير الترويج الإعلاني فيه.ونظرا لما يعيشه عالم الترويج والدعاية عبر المنصَّات الرقمية من تحديات؛ لكون مقياس الرصد وأساس المعادلة فيه، يرجع إلى المروِّج نفسه، ثقافته وقناعاته، ومبادئه وأخلاقياته وثوابته، والغاية الكبرى التي يسعى لتحقيقها من ممارسة الترويج للإعلانات التجارية ـ وهو أمر يختلف من فرد لآخرـ، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التباينات والاختلافات في الاعتراف المجتمعي به، وهو أمر تصنعه احترافية الناشط الإعلاني والممكنات والتوقعات والثقة التي يحملها حول نفسه والآخر وشروط الخيار الإعلاني لديه، والقناعة التي يؤمن بها حول هذا المسار، وإثبات بصمة حضور مجتمعي له في قدرته على نقل المسألة الترويجية والدعائية من كونها محطة للكسب المادي السريع، إلى كونه صاحب رسالة إعلانية متوازنة لها صبغتها وهويتها وحضورها وفلسفة عملها التي تحفظ لها أدوات العمل رصينة، وقنوات الأداء محكمة، وقواعد السلوك مأمونة، على أن ما رافق ممارسات البعض من مروِّجي الإعلانات التجارية من ممارسات مبتذلة، وخروج عن المألوف، وانتصار للأنا والذاتية وحب الشهرة، والاحتكام للعائد المادي، والتسلق على أكتاف الآخرين، ونشوة الظهور الإعلامي، في سلوكيات تتنافى مع منطق العقل، وحس الضمير، والثقة والمسؤولية، ناهيك عن اتساع فوضى الإعلانات التجارية والداعية الإعلانية عبر المنصَّات التواصلية، وفراغ الضوابط التي تحكمها وتحافظ على درجة توازنها وثباتها من غير إفراط ولا تفريط، وتدني مستوى الالتزام من قبل المروِّجين والمنتج المروَّج له، إما بخروجها على القِيَم والثوابت والمبادئ والأخلاقيات التي يتميز بها المجتمع العماني أو تميز أفراده، أو عبر حالة التضليل التي ينتهجها ناشطو الإعلانات التجارية في محاولة إطلاق وصفات صحية وطبية وعلاجية وغذائية على منتجات معيَّنة دون وجود ما يثبت ذلك من قبل الجهات المختصة، بهدف منح هذه المنتجات ثقة المواطن المستهلك، خصوصا فيما يتعلق منها بالمنتجات الغذائية والدوائية والصحية والصيدلانية ووصفات البشرة والجمال وغيرها، في خروج عن كل المبادئ والثوابت وأصول الترويج التي يجب أن تكون ثابتة معلومة، ووفق إجراءات محددة يجب السير فيها والاحتماء بها.وبالتالي ما أبرزه هذا الواقع من تفاصيل يومية دقيقة يمارسها أحدهم في حياته، ويتعاطى معها بكل فخر واهتمام، تظهر في تجاوزاته القيمية وخروجه عن المألوف من الطباع، والحسن من الأعمال، في أسلوب الحديث ونبرة الصوت، وإظهار المفاتن، واستخدام الحركات الجسدية، منطلقا من شعار “خالف تعرف” طريقه في هذا المسار، لمظنة أن خروجه عن المألوف، سبب في زيادة المتابعين والمجتمع المستهدف من الإعلان، عبر زيادة الاهتمام بتداول تغريداته ونشر دعاياته التجارية، والتفاعل معها، في ظل ما يطرحه واقع هذه الإعلانات من محطات مقلقة باتت تدق ناقوس الخطر في تعديها على الهُوية والأخلاق والقِيَم والمبادئ والثوابت المجتمعية بما تطرحه من سفور وتحلل أخلاقي، وإبهار الشباب والفتيات بسطحيات الأشياء، وشراء الذمم في ظل نفوق قِيَمي وأخلاقي، وفراغ في الضوابط والقوانين والتشريعات العاملة في المجال، بما انعكس على الدعايات الترويجية التي تقدم في المنصَّات الرقمية، في مخالفات صريحة للقوانين وخروج عن الآداب والذوق العام، وتشجيع الشباب على طرق هذا المجال باعتباره أفضل طريق الكسب بما يترتب على هذه الإعلانات من مكاسب مادية ومالية تتجه إلى حساب المروِّج، الذي يجد في هذه المهمة فرصته في تحقيق هذا الطموح غير المتوقع، حتى أصبح مشاهير الفلس يكسبون من الإعلانات التجارية والدعاية الكلامية الرقمية ما يفوق ما يكسبه الموظف العام في أعلى درجات السلم الوظيفي المؤسسي، كما وجدت الشركات التجارية وأصحاب العلامات التجارية ومراكز التسوق والمولات فرصتها في الترويج لشعاراتها، وتحقيق الكسب المادي من خلال تسارع الناس في اقتناء المنتج المعروض ونفاده من السوق، لتتجه المسألة إلى غياب الضوابط القانونية والتشريعية في طريقة الإعلان ومساره، ومستوى اقترابه أو ابتعاده عن قوانين التسويق الرقمي، والمعايير والمواصفات القياسية للمنتج أو غيرها من القوانين التي وضعتها جهات الاختصاص حول استخدامات هذا المنتج.وبالتالي ما يفرضه واقع الإعلانات التجارية وسوق الدعاية الرقمي في ظل فراغ الضوابط والتشريعات والقوانين والمعايير التي تضبط مسار الإعلانات وتحدد هويتها وترسم طريقها وتوجه بوصلتها وتضمن التزامها بالثوابت والمعايير والقِيَم والأخلاقيات، من تدخل الحكومات والمؤسسات الإعلامية والضبطية القضائية والقانونية والتشريعية والأمنية والمعنية بقطاع التجارة والاستثمار والمقاييس التجارية في تبنِّي سياسة وطنية واضحة في إدارة الإعلان التجاري والتسويق الرقمي، سواء من حيث ضبط المنتج الإعلاني وتقييمه من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والقانونية والتأثير الاجتماعي الذي يحدثه في كيانات المجتمع وشخصيته وكينونته، ومدى خروجه عن مألوف القِيَم والأخلاقيات وقوانين الدولة النافذة في هذا الشأن، وتقييم تأثير الممارسات الإعلانية التجارية على حياة النشء وقِيَمه وأخلاقياته وعاداته وتقاليده والتزامه والسلوك الاجتماعي المتولد لديه بعد مشاهدته لهذه الإعلانات، بما يعني أهمية أن تمر هذه الإعلانات أمام فلترة حقيقية من جهات الاختصاص تحدد مسارها، والضوابط الملزمة التي يجب على المروِّج تنفيذها كمتطلبات أساسية في ممارسة رسالة الترويج، والصورة التي يجب أن يظهر بها في الواقع، والهيئة واللباس والمظهر العام الذي يجب أن يلتزم به، وهو يمارس الدعاية الرقمية والترويج الإعلاني، والمحتوى الذي يصف هذا المنتج أو يعبِّر عنه، وإلى أي مدى يستحق هذا الإعلان فرصته في الترويج له، ثم تقنين هذا المسار من خلال وجود قواعد بيانات وطنية متكاملة ومحدثة لمروِّجي الإعلانات عبر المنصَّات التواصلية، بحيث يمكن الرجوع إليهم عند الحاجة، سواء في أي خروج بإعلاناتهم عن المألوف المجتمعي، والقِيَم والأخلاقيات المجسِّدة للهُوية العُمانية، ووضعهم أمام المساءلة القانونية والتشريعية في أي تعدٍّ على الذوق العام والخروج عن مسار القِيَم، كما أن من شأن وجود الضوابط أن يسهم في توزيع الأدوار الإعلانية، وإتاحة فرص التسويق الإعلاني لدى مختلف الشرائح المجتمعية المسجلة في هذا المجال، وتعزيز فرص حصولها على هذه الإعلانات وفق الضوابط التي تتناسب مع نوعية الإعلان بحيث تراعي متغير النوع، من حيث قبول الإعلانات التي يروج لها الذكور أو تلك التي تروج لها الإناث، بالإضافة إلى متغير المرحلة العمرية المستهدفة من هذا الإعلان، كما أن من شأن عملية التقنين والضبطية أن تفتح المجال للمزيد من الثقة؛ كونه يقوم على تشريعات وضوابط ومنهجيات وخطوط عريضة ترسمها الجهات المختصة، بالشكل الذي يضمن منع الاجتهادية المفضية إلى التهور والاندفاع المؤثر سلبا على فكر الشباب وقناعاته وأخلاقه، وإعادة ضبط مسار الرسوم المالية لهذه الإعلانات والمكاسب المتحققة منها في ظل المنافسة الشديدة غير المتكافئة بين الناشطين أنفسهم.وعودا على بدء، فإن الاهتمام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم بمسار التربية الأسرية والتنشئة الأخلاقية التي أكدها خطاب جلالته في الحادي عشر من يناير من عام 2022 والتوجيه الأبوي لجلالته للحدِّ من تأثير المنصَّات التواصلية على تربية النشء، يؤسس اليوم لمسار وطني في إعادة قراءة القِيَم العُمانية، ليس في دور مؤسسات التعليم والإعلام والمؤسسة الدينية والأسرة، بل أيضا في كل المؤثرات الأخرى التي باتت تؤثر سلبا على حياة النشء والشباب والمراهقين، والتي يأتي من بينها الترويج للإعلانات التجارية والدعاية الرقمية، وسوء الاستخدام الحاصل لمنصَّات التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة في هذا الشأن، من قبل بعض الناشطين والمروِّجين للإعلانات، نظرا لما تطرحه من محتوى سطحي يتجافى في أكثره مع القِيَم العُمانية الأصيلة وتكريس لغة الفوقية والذاتية والمصلحية في سلوك النشء، بما يعنيه ذلك من أهمية إيجاد إجراءات ثابتة في إعادة تنظيم دور هذه المنصَّات التواصلية عامة وتنظيم مسار الإعلان الترويجي وبناء آفاق مستقبلية له أكثر مهنية واحترافية وتقنينا وتنظيما، وضوابط تصنع منه فرصة لتعزيز البنية الاقتصادية للأسرة والمجتمع، وإيجاد فرص تشغيلية أخرى للباحثين عن عمل ومستخدمي هذه المنصَّات، وبالتالي دور الجهات المختصة بالدولة في المبادرة الجادة والواقعية والطموحة في تقديم معيار أخلاقي واضح للناشطين في المنصَّات التواصلية والمروِّجين للإعلانات التجارية بالشكل الذي يصنع في عملهم رسالة أخلاقية وإنسانية تعمل على تأصيل مسار الاحترافية في الترويج الإعلاني وضبط مسارة، وتقنين دوافعه، وتعزيز البدائل الترويجية المتناغمة مع أولويات المجتمع.أخيرا، فإنَّ من شأن وجود معيار أخلاقي وقانوني يحدد المساحة التي يتحرك فيها المروِّج والناشط الإعلاني في ترويج الإعلانات التجارية والدعاية الرقمية، المحافظة على استحقاقات القوة لسوق الدعاية والإعلان الرقمي المهذب والمنظم والراقي، ليشكل بصمة حضور له في خريطة الدعاية الرقمية والإعلانات التجارية، وتوظيف التقنية في خدمة الإنسان وبناء الأوطان، دون أدنى تنازل عن ثوابته ومبادئه وقِيَمه الأخلاقية وخصوصيته المجتمعية، الأمر الذي سيؤدي إلى تجفيف منابع الممارسة الإعلانية المبتذلة والترويج الرقمي الغوغائي المتكلف.
د. رجب بن علي العويسي