علوم القرآن، والحديث، والفقه، واللغة، والتاريخ، والطب والترجمات، والفلك والرياضيات، علوم إسلامية انتشرت في عهد الحضارة الإسلامية، والنظر في أحكام القرآن والسنة لا بد فيه من فهم العبارة وتدبرها، فنشأ من ذلك علم التفسير، وبإسناد نقله وروايته واختلاف القراء بقراءته تولَّد علم القراءات، وبإسناد السنة إلى صاحبها والتفريق بين طبقات الحديث والمحدثين تولدت علوم الحديث، ثم لا بد من استنباط هذه الأحكام من أصولها، على وجه قانوني يُفيد العلم بكيفية هذا الاستنباط، وهو علم أصول الفقه ثم الفقه فالعقائد الإيمانية، ثُم علم الكلام.
ولعل العراق وكما أشرت في مواضع كثيرة، وخاصة خلال العصر الذهبي للدولة العباسية، كانت بحق مقصد العلماء من كل بقاع الأرض، ومنها انطلقت سائر العلوم وكانت منارة لكل المسلمين حول العالم، وشهرة مدرسة الحديث كانت واسعة جداً إلى جانب مدرسة علم الكلام والفلسفة، في فترة كانت الناس الخيّرة الصالحة (الأثرية) أي من يتبعون آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا متمسكين بكل ما له علاقة بفعل وتقرير النبي صلى الله عليه آله وسلم، أي بسنّة النبي والقرآن الكريم، وهم للعلم قلة، تلك الحقبة كانت فترة أهل الحديث متسيدة إن جاز التعبير، إلى جانب مدارس أخرى، كالصوفية مثل مدرسة العلم، وفيها كانت الصوفية منضبطة مع القرآن والسنّة، ويبحثون عن الأثر، ومن الممكن تسميته التصوف المحمود، وتصوف الدراويش، ولكل طريقته، أي أن يستخدم الشيوخ أوراد وأذكار معينة، إما أن تكون أثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو صحابي، أو أحد آل بيت النبي عليهم السلام، وهي أمور مشروعة.
ولطالما رفعنا الصوت عالياً للاهتمام بالموروث العلمي والاهتمام بالأضرحة إن كان من خلال إيصال الرسائل إلى الوقف السني العراقي أو حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، وبتر يد كل من يتطاول عليهم إن كان بداعي الطمع أو بداعي الإساءة كما حدث مؤخراً من تعرض الشيخ الجليل عبد القادر الكيلاني للإساءة من قبل مدير عام دائرة الأضرحة والمراقد فارس العبيدي، الذي تبرأ منه الوقف السني العراقي وأقاله في خطوة هي أقل ما يمكن أن تحدث، لكن هذا ليس كافياً لأن هناك الكثير ممن يتطاول على القامات الدينية والتاريخية التي يجب بتر اليد لتكون عبرة للجميع، فهذه الأرض المباركة ليست للعراقيين وحدهم بقدر ما هي للأمة الإسلامية ككل.
هذه الإساءة لا يمكن لأحد ان يقبلها خاصة وأنها خرجت من شخص يتبوأ موقع مسؤولية، ضد شيخ جليل له مريديه وأتباعه في كل مكان في العالم، فإن كانت عقيدة العبيدي مغايرة، لا بأس هذا حق له كما هو حق لأي إنسان، لكن يجب احترام الآخرين، واحترام عقائدهم، وإذا كان القانون يحترم العقيدة وحرية العبادة للجميع، من يحق له التطاول إلا لغايات الله أعلم ما القصد من ورائها، خاصة وأن الإساءة تحمل لفظاً مسيئاً لقامة بحجم الواعظ الجليل الشيخ عبد القادر الكيلاني ابن العراق.
إن ما حدث من ضجيج على مواقع التواصل الاجتماعي وخروج محبي الشيخ الكيلاني ومريديه في مظاهرات منددة تطالب بمحاسبة كل من يتطاول على القامات الدينية والتاريخية، دفعتني للاهتمام بتاريخ هذا العالم، وبالموروث الذي تركه، لكنه كما كل العلماء، ترك علمه وكتبه، ولم يجبر أحد على تصديقها أو تكذيبها، ولم يجبر أحد على الإيمان بما كتب، فأن يُساء إلى عالم جليل هنا تكمن المشكلة، في زمن بات مريباً ومخيفاً من تجاوز الحدود والتطاول على الأنبياء واللله تبارك وتعالى والعياذ بالله، فمن يكون الشيخ عبد القادر الكيلاني أو كما يُعرف بالجيلاني، وما هي طريقته؟ وما هي مدرسته وتعاليمها؟
تُعد المدرسة القادرية إحدى أهم المراكز العلمية التي لعبت دوراً فعّالاً في حركة الإصلاح والتجديد في مرحلة سميّت عصر الجمود، وكان بعض الحكام ممن قادوا حركة الإصلاح والتجديد أمثال نور الدّين زنكي وصلاح الدّين الأيّوبي يعتمدون عليها في رفدهم بالأجيال الواعية لبناء مشروعهم النهضوي وإتمام مسيرة الإصلاح، حيث أمدّت هذه المدرسة الأمة الإسلامية بكوادر علمية تعدى تأثيرها جغرافية العالم السني ووصلوا إلى مناطق النفوذ الشيعي، وأسهموا بشكل فعّال في التحول السياسي والفكري لتلك الشعوب، ومؤسس المدرسة القادرية هو الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي لعب دوراً تربوياً وتعليمياً مهماً.
الشيخ عبد القادر الجيلاني، هو أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست الجيلي الحنبلي شيخ بغداد، (471 هـ – 561 هـ)، حفيد بيت النبوة كان أكثر من سار على نهج جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجده علي بن أبي طالب عليه السلام، وهنا لا بد من توضيح أمر أن الكنية الجيلاني أو الكيلاني نسبةً إلى جيلان مكان تولده، وليست كنيته الأصلية، لأن العرب زمن الفتوحات الإسلامية استوطنت مناطق كثيرة إن كان بلاد فارس أو بلاد ما بين النهرين، وأصول الشيخ الجيلاني من شبه الجزيرة العربية من المدينة المنورة، وهو هاشمي مطلبي صحيح وواضح النسب، (يتصل نسب الشيخ عبد القادر من جهة والده بالحسن بن علي بن أبي طالب. فهو عبد القادر بن أبي صالح موسى جنكي دوست بن عبد الله بن يحيى الزاهد بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب. أما نسبه من أمه فينتهي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب)، كان الجيلاني على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كحال بقية المذاهب التي كانت تسير على خطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ الجيلاني لا علاقة له بما يحدث من قبل غلاة الصوفية أو من بعض الطرق التي تُنسب له، كما حصل قبل أيام من استنكار البعض للإساءة المعيبة، من خلال القيام ببعض الأمور التي لا تمت للشيخ الأثري بِصلة.
وقد نشأ في كنف أسرة عُرفت بالزهد والصلاح والتقوى، وارتحل إلى بغداد لما كانت تحمله من سمعة كبيرة بأنها مقصد العلماء من كل حدبٍ وصوب، وكانت ملتقى العلماء من كل بقاع الأرض، وصلها وتلقى علومه على يد شيخه في المذهب ابن عقيل الحنبلي وعنه أخذ فقه المذهب، كما تتلمذ على الشيخ أبي سعيد المخرّمي صاحب المدرسة، حظي الشيخ الجيلاني بثناء العلماء سواء من معاصريه أم ممّن جاء بعدهم فقال عنه السمعاني: (إمام الحنابلة في زمانه)، وقال عنه الذهبي: (الشيخ الإمام العالم الزّاهد العارفُ القدوة شيخ الإسلام وعلم الأولياء ومحي الدين) أما ابن رجب فقال في وصفه: (شيخ العصر وقدوة العارفين وسلطان المشايخ صاحب المقامات والكرامات)، لكن رحلة الشيخ الجيلاني تخللتها المصاعب، فقد كابد الشيخ الجيلاني مصاعب الحياة في سبيل طلب العلم الشرعي الذي سيؤهّله فيما بعد للانضمام لصفوف عظام الدعاة المنافحين عن دين الله وشريعته، رغم ما أصابه من المشقة والعنت كما أصاب الذين سبقوه في العلماء العاملين كابن جرير الطبري وأبو حاتم الرازي والغزالي وغيرهم.
كان للإمام الجيلاني خلوة، وأنا شحصياً زرتها في بغداد، عند مقام معروف الكرخي، والكرخي والجيلاني أصدقاء، وعندما كان يزوره، وكانا يسيران في طري قاسمه طريق الإمام موسى بن جعفر الكاظم، وهذا الطريق موجود إلى الآن، وأكرمني الله بهذه الزيارة الشرعية والجلوس في نفس مكان الخلوة ووثقتها بصور فوتوغرافية، إلى جانب زيارتي لمرقد الخطيب البغدادي وأبو إسحق الشيرازي، ومعروف الكرخي، وأبو حنيفة النعمان والإمام موسى بن جعفر الكاظم، القاضي أبو يوسف صاحب الإمام أبو حنيفة النعمان، والإمام الجنيد، والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وزرت كل الصالحين، بقصد استذكار سيرهم المباركة، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) “صحيح مسلم”، النبي أمر بالزيارة الشرعية.
وهنا لا بد من بعض التوضيح عن الزيارة الشرعية وأغراضها، فبالنسبة إلى زيارة قبور المؤمنين والمسلمين عموماً والصالحين على وجه الخصوص، ونخص هنا الصالحين تحديداً، لأن كثيراً من قبور الصالحين قد عُزلت، وجعلت في أماكن إما أقيم عليها مساجد، وإما أقيمت عليها مقامات، أو أُخذ لم حيّزاً من مقبرة، فصار أشبه لهم بالمقام، وخصصنا الشرح حول الصالحين، لتبيان الواقع، لا لتخصيص يوم لهم للزيارة، بالتالي، إن زيارة قبور المسلمين مستحبة، والحكم الشرعي لها “الاستحباب”، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ناسخاً حكماً شرعياً قديماً: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها إنها تذكّركم الآخرة)، هذا الحديث ناسخٌ لحديث قبله، فيه النهي عن زيارة القبور، أما الناسخ فقد أباح زيارة القبور ورفع الحظر الذي كان مفروضاً في النص السابق، فهذا الحديث هو قيد شرعي معتبر، بمعنى أن المراد من زيارة القبور، تذكّر الآخرة والتأمل في مآلات الإنسان وما سيصير إليه هذا الحي القائم على قبر هذا الميت.
ومن الأمور الأخرى التي شرعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، للمسلم عند زيارته للقبر، الدعاء، ومنه دعاء مخصوص، بصيغة مخصوصة التي تقال عند زيارة كل قبر أو مقبرة (السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون ويرحم الله المستقدمين منكم ويرحم الله المستأخرين)، وبما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرع لزيارة القبور دعاءً، فإن القاعدة الشرعية الخاصة بالأدعية والأذكار عموماً لا تمنع من الدعاء لشخص الميت، والدعاء للحي أن يدعو لنفسه هناك، كأن يسأل الله عز وجل أن يرحمه إذا صار إلى ما صاروا إليه، ويسأل الله عز وجل أن يلحقه بمن كتب الله لهم المنازل الطيبة، كمنازل أهل الجنة، لأن مسألة اصطفاء الله عز وجل لعباده وقبوله لهم مسألة غيبية لأن الإنسان ليس له إلا الظاهر كأن يدعو لأن يحشره الله تعالى مع منازل الذين رضي عنهم، أما بما يتعلق بالولي الصالح إذا زاره أحد، فلا بأس القول (اللهم احشرنا في زمرته وزمرة من أحببت من عبادك الصالحين)، لأن الأولياء الصالحين شهدت لهم الأمة في حياتهم على صلاحهم وتقواهم، وشهادة الأمة معتبرة، لكن لدى العودة إلى القاعدة الشرعية المتعلقة بالأدعية والأذكار والتي قلنا أنها لا تمنع من الدعاء بأي صيغة أخرى، نأتي إلى نفس القاعدة التي قيدت هذا الأمر بقيد على ألا يتخلل هذا الدعاء شركاً أو بدعةً أو قطيعة رحم، والشرك أن يعتقد بأن صاحب القبر هذا يضره وينفعه، والبدعة أن يؤلف من قلبه أدعية تلهج بجعل الذات الإلهية جزء من كل يتحقق به ما يريد وهذا من البدع المحدثة.
وصف الإمام الجيلاني معاناته في سبيل طلب العلم فقال: (وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من جانب النهر والشط، وبلغت الضائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أياماً لم آكل فيها طعاماً.. فما ذهبت إلى موضع إلا وغيري قد سبقني إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حُباً..).
إذاً من رحم المعاناة التي عاناها انبثق نور العلم في وجه هذا العالم الجليل، الفقيه، المحدّث، والمفسّر، والواعظ، جمع بين صنوف العلم والتبحر فيها، وتشهد له تصانيفه بذلك إضافة إلى ثناء كبار علماء الإسلام عليه، فهذا تلميذه موفق الدين بن قدامة المقدسي صاحب المغني يقول: (دخلنا بغداد سنة “561” فإذا الشيخ الإمام محي الدين عبد القادر ممن انتهت إليه الرئاسة بها علماً وعملاً وافتاءً، وكان يكفي طالب العلم عن قصده غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم والصبر على المشتغلين وسعة الصدر، وكان ملء العين وجمع الله فيه أوصافاً جميلة وأحوالاً عزيزة، وما رأيت بعده مثله وكل الصيد في جوف الفراء)، كما أثنى عليه ابن تيمية ثناءً جميلاً فقال: (الشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم أمرا بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر، من أعظم المشايخ أمراً بترك الهوى والإرادة النفسية).
هل يُعقل أن تلحق الإساءة بهكذا قامة تقية ومؤمنة وراضية وصابرة؟ الشيخ الجيلاني مدرسة متكاملة بحق، فقد تميز منهجه في عرض العقيدة الإسلامية بالبساطة والصفاء الذي كانت عليه في عصر النبي صلى الله عليه وآله سلم والصدر الأول من السلف، فلقد كان الجيلاني على منهج هذا السلف وأهل مدرسة الحديث في العقائد وخصوصاً منهج الإمام أحمد بن حنبل، أما عقيدته في التوحيد فكان الشيخ الجيلاني يرى أن توحيد الله يأتي بالفطرة، وهو ينبع من أعماق النفس البشرية، وفي هذا يقول: (النفس بأجمعها تابعة لربها موافقة له إذ هو خالقها ومنشئها وهي مفتقرة له بالعبودية)، ثم يبين رأيه في أن معرفة الإنسان لربه في المرحلة الثانية بعد الفطرة تكون من خلال تأمله في آيات الله في الكون والنفس، حيث يقول الجيلاني: (أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد فرد صمد… لا شبيه له ولا نظير، ولا عون ولا ظهير، ولا شريك ولا وزير، ولا نَّد ولا مشير) وهنا تكمن قمة التوحيد، إلا أن له موقف في علم الكلام فكان يتبع ما قاله الإمام أحمد بن حنبل (لست بصاحب كلام ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله عز وجل أو حديث عن النبي صلى الله عليه وآله سلم أو عن أصحابه رضي الله عنهم أو عن التابعين، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود).
أما فيما يتعلق بالشيح الجيلاني وعلاقته بالتصوف، فقد كان يعتبر بأن التصوف هو الصدق مع الحق وحسن الخُلقُ مع الخَلْق، وأوجد له تعريفاً بأنه: (تقوى الله وطاعته ولزوم ظاهر الشرع وسلامة الصدر وسخاء النفس وبشاشة الوجه وبذل الندى وكفّ الأذى وتحمّل الأذى والفقر وحفظ حُرمات المشايخ والعشرة مع الإخوان والنصيحة للأصاغر والأكابر وترك الخصومة والإرفاق، وملازمة الإيثار ومجانبة الادّخار وترك صحبة من ليس من طبقتهم والمعاونة في أمر الدين والدنيا)، كما يوضح الشيخ الجيلاني التصوف الحقيقي، والذي لا يحيد عن منهج سلفنا الصالح مبيناً ذلك في صفات هي: السخاء، الرضى، الصبر، سرعة الفهم بالإشارة، صفاء النفس، واصطفاؤها، التأمل والتفكر في آيات الله في الكون والنفس ويسميها الصوفية السياحة، الفقر ويكون فيه العبد ذليلاً منكسراً بين يدي ربه معتمداً عليه مخلصاً في دعائه وتضرعه، وهذه المعاني أو الصفات إذا تحققت في العبد بلغ مرحلة الاصطفاء كما يرى الشيخ الجيلاني، فالصوفي عنده (من صفاء النفس أو العبد الذي أصبح صافياً من آفات النفس خالياً من مذموماتها سالكاً لحميد مذاهبه ملازماً للحقائق غير ساكن إلى أحد من الخلائق)، ومن هذه المعاني والمفاهيم وضع الشيخ الجيلاني كتابين هما (الغنية) و(فتوح الغيب)، واللذان كانا منهاجاً لمدرسة تربوية سعى من خلالها لتنقية التصوف من شوائب البدع والخرافات والشطحات البعيدة عن الكتاب والسنة وإظهار معدن التصوف الأصيل.
كان يطلب من تلامذته بالابتعاد عن مجالس الشهرة كي لا يصل العُجبُ إلى النفس فيدخلها الهوى وحُب الظهور، وأن يتضرع الفرد منهم دائماً إلى الله بأن يستره ويعينه على ترك الذنوب والمعاصي وأن يرزقه التوفيق والصلاح، ويطلب منهم الإيثار.
وأما عن الطريقة القادرية ونشأتها، هو من مؤسسي المدرسة التي كانت لأستاذه وليست له أصلاً، ويُعتبر الشيخ عبد القادر الجيلاني من أول وأشهر من نظّم الصوفيَّة في جماعات مُمنهجة تسير وفق طريقة منضبطة، تضبط سلوك المريد مع شيخه وسلوك الشيخ مع تلميذه وسلوك الاثنين مع الناس والبيئة المحيطة بهم، وقد أصّل الجيلاني لطريقته تأصيلاً يقوم على الكتاب والسنة، ويحث رواده اتباع طريقته على وجوب الأمر بالمعروف، واجتناب ما نهى اللهُ عنه والاستسلام والتسليم لهُ بقضائه، في أسلوب وعظي إرشادي وناصح وغيور على أبناء أمته كان ينصحهم، فكان ذلك سبب التفاف الكثيرين حوله.
من هنا، كانت المدارس الدينية هي المراكز التي انتشر منها منهج الإمام التربوي والإصلاحي، وكانت هذه المدارس محطات متخصصة في صناعة الوعي وتربية الجيل على الإيمان والعلم والاستعداد لخدمة الأمة، وقد ورث الشيخ الجيلاني المدرسة القادرية عن شيخه أبا سعيد المخرمي، ولكثرة التلاميذ، بنى الجيلاني مدرسة جديدة، استقبل فيها كل طلاب العلم من العالم الإسلامي، وصار الشيخ عبد القادر يعد الكوادر ويهيِّئُها للعمل الدعوي وفق منهج مؤصّل واضح حتى يوصلوا هذا المنهج إلى مناطقهم، وكان اهتمام الجيلاني يتركز على الأرياف أكثر من المدن التي تكثر فيها المدارس ومراكز الدعوة.
وعندما نجد سلوك هجين من بعض الفرق الإسلامية، تتقول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى آله، وصحابته، وعلى الصالحين، فذلك لا يعني أنه خطأ، رغم أنها تُنسب دون سند متصل، فالإمام الجيلاني قدوة لكل مسلم، وحري للأمة أن تغرف من معينه، فهو مدرسة متكاملة، ولي أسانيد متصلة الإسناد إلى عبد القادر الجيلاني في العراق لا في الجزائر كما يخلط البعض، فلدي رواية للقرآن الكريم عن حفص بن عاصم، متصلة الإسناد لعلماء كانوا يقرأون في مسجد عبد القادر الجيلاني.
بالتالي، هذا غيض من فيض واسع وكبير حول منهجية الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي له رواد وتلاميذ في كل أنحاء العالم، ومرقده ومسجده في العراق يؤمه الآلاف سنوياً حباً بهذا العالم الجليل، وأولئك الذين يتاجرون بأضرحة الأولياء سواء في مصر أو العراق أو سوريا أو أي مكان حول العالم، هذا ما يحزن رفع شعارات ومتاجرة بآل البيت عليهم السلام أو الصالحين أو الصحابة، دون وجه حق، البعض يستثمر الأضرحة من أجل غايات وأهداف سياسية يزرعون مخابراتهم في كل أماكن وجود الأضرحة، كما حدث من اختراق في بعض الدول، كالأردن مؤخراً، وترى أولاد هؤلاء رجال أعمال في أوروبا من الطراز الرفيع، يملكون شوارع كاملة وقصور من أموال الأضرحة، فما هكذا تورد الإبل أيها السيد بأن تمس كرامات الأئمة والشيوخ ففي ذلك حرمانية، لأن من نذر نفسه لله عز وجل فهو محصن كائناً من يكون، وإن اعتنق ما يعتنق، لا يحق لأحد المساس بكرامات الناس فكيف وإن كانوا كما الشيخ الجيلاني لأن العبادة تُصرف فقط لله تبارك وتعالى ومن الصالحين نستلهم العبر ونستحضر التاريخ
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.