كان الزميل الشاعر صالح العامري هو من عرّفني بالكاتبة والصحفية الإيطالية أوريانا فالاتشي، عندما نصحني بقراءة روايتها “إنسان”، الصادرة عن دار الهلال عام 1990، وقال لي يكفي أنّ “أوريانا” سمت روايتها هذه بإنسان، لأنّ أحداث الرواية كلها تدور حول إنسان واحد، هو بطل المقاومة اليوناني ألكو باناجوليس، في مواجهة السلطة الاستبدادية، وهو الذي أصبح فيما بعد زوجها، بعد أن التقت به لأول مرة عام 1973، عقب خروجه من السجن، حيث ذهبت لتجري معه لقاءً صحفيًّا في اليونان، نشرته في كتاب ضمن لقاءاتها الصحفية المعنونة “لقاء مع التاريخ”، ووصفته بعد ذلك اللقاء بأنه “كان له وجه مسيح تم صلبه عشر مرات، وكان يبدو أكبر سنًا من عمره الحقيقي. كان في الرابعة والثلاثين من عمره، وعلى جبينه الشاحب، وبين عيونه السوداء تبدو خصلات بيضاء، وتبدو عيناه مليئتين بالكآبة والثورة”.
وتسرد الكاتبة محاولة باناجوليس اغتيال حاكم اليونان الدكتاتور خورخيوس بابادوبولوس، الذي فرض الأحكام العرفية والرقابة، والاعتقالات الجماعية عام 1968، وما لاقاه زوجها نتيجة ذلك من عذاب وحشي من الصعب أن يتحمله إنسان، إلى أن تم اغتياله في الأول من مايو 1976، وهو ما يزال في السادسة والثلاثين من عمره، ليموت وتظلّ قصته حية وباقية. وقد تحمستُ كثيرًا للصحفية الإيطالية، خاصةً بعدما قرأتُ عن مقابلاتها الصحفية مع العديد من زعماء العالم، منهم الإمام الخميني والقذافي، إلاّ أني اكتشفتُ أنّ مواقفها تجاه القضايا العربية والإسلامية كانت سيئة للغاية، وقد كتبَتْ الكثير من المقالات جمعت بعضها في كتب، مثل كتابها “الغضب والاعتزاز” الذي حذّرت فيه الغرب ممّن أسمتهم “أبناء الله” وهم المسلمون “وأنهم في سبيلهم لشن هجمة صليبية مرتدة ضدهم، وأنّ العرب ينتمون لديانة مرعبة اسمها الإسلام، وهي الديانة التي تعلِّم فقط الحقد على الغرب” وغير ذلك الكثير من التهم. وقد اختفت فالاتشي عن الأنظار فترة طويلة حتى قرأت خبر وفاتها عام 2006.
وهذه الأيام عادت إليّ فالاتشي بقوة، بعد صدور كتابها “حوارات مع التاريخ والسلطة” الصادر عن دار “سطور للنشر والتوزيع”، ترجمة وتقديم علي عبد الأمير صالح، مع عنوان جانبي آخر هو “بحثًا عن الحقائق الضائعة في العالم”؛ وهو عنوانٌ في رأيي كان يجب أن يكون العنوان الرئيسي للكتاب، لأنّ الكتاب فعلا يبحث عن الحقائق الضائعة في العالم.
الكتابُ من الحجم الكبير، إذ بلغت صفحاته 689 صفحة، وضم حوارات مع زعماء وشخصيات مهمة في تاريخنا المعاصر، وهم على التوالي: السيناتور الأمريكي روبرت كيندي.. الجنرال فو نجوين جياب وهو قائد عسكري فيتنامي واجه القوات الأمريكية في بلاده، وأصبح نائبًا لرئيس الوزراء ووزير الدفاع الفيتنامي.. هنري كيسنجر أشهر وزير خارجية أمريكي.. غولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني.. ياسر عرفات.. معمر القذافي.. الشاه محمد رضا بهلوي.. آية الله الخميني.. أنديرا غاندي.. أرييل شارون.. الرئيس الصيني دينغ شياو ﭘينغ.. الملك الحسين بن طلال.. وأخيرًا المستشار الألماني فيلي برانت. ويقول مترجم الكتاب في تقديمه: “إنّ هؤلاء الأشخاص الذين حاورتهم الكاتبة الإيطالية المثيرة للجدل، كانوا يتوّجسون خِيفة منها، بحيث إننا نشعر أنهم يحسبون حسابَ كلّ كلمة يقولونها، ويفكرون مليًا في كلّ جواب يُدلون به. إنهم لا يثقون بالصحفيين، وغالبًا يُخفون الحقائق، أو لعلهم يذكرون أنصاف الحقائق، ويخفقون دومًا في ذكر ما هو حقيقي وما يجري فعلاً، ويختارون بدلًا منه الصمت المناسب، أو التذّرع بضيق الوقت وكثرة الانشغالات، ويحاولون دومًا الدفاع عن أنفسهم ومشاريعهم وتوجهاتهم الفكرية ومبادئهم السياسية، كما يسعون دومًا إلى عدم الاستفاضة في التفسير”.
بعضُ الحوارات في الكتاب قد تكون غير مهمة – على الأقل بالنسبة لي – إذ هي بعيدةٌ كلّ البعد عن شؤوننا واهتماماتنا؛ بل بعيدةٌ عن منطقتنا جغرافيًا وتاريخيًا، مثل لقاء السيناتور روبرت كيندي، والجنرال فو نجوين جياب، وكذلك حوار هنري كيسنجر، الذي ركز على قضية فيتنام فقط بعيدًا عن هموم الشرق الأوسط، رغم أنّ كيسنجر لعب دورًا مهمًا في إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط وتحالفاته، وكذلك حوارَي الرئيس الصيني والمستشار الألماني.
رغم اختلافي الشديد مع توجهات فالاتشي – إذ أنها منحازة ضد العرب والمسلمين – إلا أني أشهد أنها كاتبة وصحفية مميزة؛ فهي تحاور عن فهم عميق ودراية وتبصر، وفي حواراتها دائمًا هي بعيدةٌ عن المجاملات، وجريئةٌ لا تخاف أبدًا، لدرجة أنّ أسئلتها كانت صواريخ موجهة للحكّام إلى درجة الوقاحة. وأجملُ وصف للكاتبة هو ما قاله المترجم علي عبد الأمير صالح عنها إنها “صادمة، جريئة، حادة، لاذعة، ساخرة، مشاكسة، مستفزّة، محرِّضة، فظّة، قاسية، موجِعة، مرعِبة، بارعة، ذكية، كارثية، فضولية، مُتعبة، وغير حيادية”، وهذه الأوصاف تكاد تلمسها في كلّ الحوارات الواردة في الكتاب، خاصةً مع العقيد القذافي، والرئيس عرفات، والخميني، عكس لقائها مع جولدا مائير، التي لم تُخف إعجابَها بها؛ فقد كانت وقحة إلى أبعد الحدود عند لقائها بالقذافي والخميني، مع مقدمات طويلة فيها ما يُشبه التحليل النفسي لهما، حيث قال لها الاثنان ما معناه إنّ المواضيع التي تتناولها في أسئلتها مواضيع مُزعجة ومُتعبة، وطلب منها القذافي أن تحاوره عن نظريته الكونية “الكتاب الأخضر”.
في شبابي، مع انطلاق الثورة الإيرانية عام 1979، مرّ عليّ خبرُ صحفيّةٍ إيطالية قابلت الإمام الخميني بعد انتصار الثورة بستة أشهر، واحتدم النقاش بينهما عن العباءة أو ما يسمى في إيران “الشادور”، فما كان منها إلا أن تخلعه أمامه وسط ذهول الكلّ. وقد تردّد هذا الخبر كثيرًا، إلا أني لم أقرأ الحوار وما جرى إلا في هذا الكتاب، بعد مرور أكثر من أربعة عقود على الحدث؛ والتفاصيلُ أنها سألت الإمام لماذا تجبر النساء على أن يختبئن تحت ثوب غير مريح وسخيف يجعل حركة النساء مستحيلة، وقد فُرضت عليّ كي يكون باستطاعتي المجيء إلى “قُم”؟ فرد عليها: “هذا أمرٌ لا يعنيك. تقاليدُنا لا صلة لها بكم أنتم الغربيين. إنْ لم تحبي اللباس الإسلامي، أنتِ لستِ مرغمة على اتباعه. العباءة فقط للشابات والنساء المحترمات”. فوجئَت بالرد وتقول “حسبتُ أني أسأتُ الفهم. لكن لا. فهمتُ بنحو مضبوط” فقلتُ “معذرة؟”، فكرر الرد نفسه. قالت: “شكرًا سيد خميني. إنك مهذبٌ للغاية، جنتلمان حقيقي. سأفعلُ كما طلبتَ مني دون أيّ تأخير إضافي؛ سأخلعُ هذه الخرقة القروطسية الغبية حالًا”. وتقول: بهزّةِ كتفين سمحتُ للعباءة أن تسقط على الأرض في بركة صغيرة سوداء قذرة. نهض الخميني بسرعةٍ شديدةٍ بنحو مباغت، بحيث أنني ظننتُ على مدى لحظة، أنّ هبّة ريح صدمتني توًا. وبعدها بقفزة كانت لا تزالُ غادرةً جدًا، داس على العباءة وتوارى عن الأنظار.
وإذا كان لقاء فالاتشي بالإمام الخميني مثيرًا، فإنّ لقاءها بالقذافي ليس أقلّ إثارة منه، وقد استعملت ألفاظًا وصلت إلى درجة “النابية” في وصف الشخصيتين، وأنت تقرأ الحوارين، تحسّ أنك أمام حلبة ملاكمة، تشاهد اللكمات المتبادلة بين الطرفين بغياب الحَكَم، وغالبًا لا تعرفُ من الذي سدّد اللكمة القاضية؛ ويبدو في لقاء القذافي أنها وجّهت تلك اللكمة في نهاية اللقاء، عندما سألته هل تؤمن بالله؟ رد: بالطبع أؤمن بالله؛ لماذا تسألينني سؤالا كهذا؟! قالت: “لأنني حسبتُ أنك أنت الله يا كولونيل”.
الأمانة تقتضي أن أقول إنّ فالاتشي كانت شرسة في لقائها مع أريل شارون، الذي التقته قبل أن يصبح رئيسًا لوزراء الكيان الصهيوني، ولا غرابة أن يقول لها شارون: “لم يسبق لي أن سمعتُ افتراءً كهذا، شتائم كثيرة جدًا.. إنكِ تشوّهين سمعتي، إنكِ تكيلين لي الشتائم”.
بالتأكيد أني لم أوف كتاب “حوارات مع التاريخ والسلطة” حقه؛ فحواراتُ الكتاب مهمة وجذابة ومثيرة تستحق القراءة؛ فكلّ شخصية من شخصيات الكتاب اضطلعت بدور تاريخي مهم؛ لذا فالكتابُ توثيقٌ مهم جدًا لحقبة تاريخية مهمة شهدت الكثير من الشخصيات والأحداث. وما أثار انتباهي أنّ كلّ من التقتهم فالاتشي – على اختلاف مشاربهم – ردّدوا عبارة متشابهة، هي “أنّ الشعب يحبونني”؛ أما الشاه محمد رضا بهلوي فقد ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قال: “أنا مقتنعٌ بأنّ الحكم الملكي في إيران سوف يدوم مدة أطول من أنظمتكم.. أنظمتُكم لن تدوم ونظامي سوف يدوم” ولكن ما حدث كان غير ذلك تمامًا.
• زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب “الطريق إلى القدس”.