إن في أسلوب النص القرآني نظاماً يمنحه خصوصية عن الأساليب الأخرى ويحفظه من الدخيل والاختلاف واللحن، وإن ما يبدو خروجاً عن القياس العقلي والمنطق فيه هو داخل في نظامه مقصود لغايات دلالية دقيقة وأسرار فنية وجمالية وحكمة إلهية. وهو وجه إعجازي، وليس أمراً اعتباطياً.
النظام االقرآني مبني بعناية كبيرة ومترابط في المستويات كافة، الدلالية والنحوية والصرفية والصوتية والبلاغية، وعدم الاختلاف. قال تبارك وتعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً)، وهذا النظام يجعل النّص القرآني نصاً مفتوحاً يحمل معنى متحركاً يوافق حركة التاريخ وتحولات الفكر الإنساني في مختلف العصور، يناسب المتغيرات الزمانية والمكانية، على الباحث تدبره والانطلاق منه في دراسة لغة القرآن الكريم (العربية) وظواهرها المختلفة، لا من مناهج معيارية ومنطقية وغربية وغيرها، قال تبارك وتعالى: (كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن خبير عليم).
وخلُص علماء إعجاز القرآن إلى أن وجه الإعجاز هو في نظم القرآن وأسلوبه “وطرائق نظمه، ووجوه تراكيبه، ونسق حروفه في كلماته في جمله، ونسق هذه الجمل، هو وجه الكمال اللغوي”، قال الرافعي: “ولما كان الأصل في نظم القرآن أن تُعبِّر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوّغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما يجري مجرى الحشو والاعتراض، أو ما يقال فيه إنه تغوّث واستراحة كما تجد من ذلك في أساليب البلغاء. بل نزّلت كلماته منازلها على ما استقرَّت عليه طبيعة البلاغة، بحيث لو نزعت كلمة منه أو أزيلت عن وجهها ثم أُديرَ لسان العرب كله على أحسن منها في تأليفها وموقعها وسدادها لم يتهيأ ذلك ولا اتّسعت له اللغة بكلمة واحدة”، بالتالي، إن نظام القرآن اللغوي يشبه نظام الكون المبني على التشابه والترابط أيضاً، قال تبارك وتعالى: (كل في فلك يسبحون)، وهو دليل على أن خالق الكون هو قائل القرآن الكريم، وهذا إثبات علمي لمعجزة نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وردّ علمي على المعادين للإسلام ممن نسمع بهم عبر وسائل الإعلام في أيامنا هذه.
بالتالي، إن إظهار الصورة الجمالية لألفاظ القرن الکريم وأساليبه اللغوية والبلاغية وأثرها في معنى الآيات الكريمة هو الغاية الأسمى، فبيان وجوه إعجاز القرآن كثيرة ومتعددة، وأهمها، بلاغته وفصاحته التي أعجزت العرب وغيرهم منذ نزول القرآن حتى يومنا هذا عن بلوغ مرتبته العليا من الفصاحة المعجزة والبلاغة الباهرة، كما أن فصاحة القرآن وبلاغته التي تتجلى في جميع آياته، وأنَّ فصاحته تلك لم تتغير من سورة لأخرى أو آية وما يليها، بل الكل على نسق واحد من البلاغة والفصاحة الباهرة المعجزة، وهذا يثبت أن القرآن من عند الله، كما في قوله: (ولو کان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً کثيراً) فكل آياته على اختلاف موضوعها تجري على درجة واحدة من بلاغة النظم الكريم، وجودة السبك، وهذا ما لم يصل إليه بلغاء العرب وفصحاؤهم، واهتم المسلمون أيما اهتمام بهذا العلم والدليل على ذلك كل تلك المؤلفات التي ازدانت بها المكتبة الإسلامية خدمة لكتاب الله تعالى.
وبالتدبر في القرآن الكريم، نجد أن كل وجوه إعجازه متوفرة، متضمنة على شواهد إعجازه، والفرق بين البلاغة والفصاحة كما قال الإمام عبد القاهر الجرجاني: (تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة، وكل ما شاكل ذلك، مما يعبر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا، وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يعلموهم ما في نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم)، أما لجهة التفسير، فللتفسير اللغوي دلالتَه الخاصة به، ومفهومه الخاص، إن كان فيما يتعلق بتفسير غريب المفردات القرآنية، ولا يتناول القضايا اللغوية العامة، وهو التفسير اللغوي المشهور الذي يُعنى بتفسير الكلمة الواحدة المفردة، وبيان دلالتها مستقلة عن غيرها، وأما التفسير اللغوي العام، فيتناول القضايا اللغوية العامة؛ كالنحو والإعراب، والصرف، والبلاغة بعلومها الثلاثة، والشاهد اللغوي شعراً ونثراً، والمذاهب النحوية، والقراءات القرآنية وتنزيلها على المعاني المختلفة، وغير ذلك مما يدخل في علوم اللغة عامة، بالتالي، إن الأسلوب القرآني له خصائصه التي ميزته وأحكمت قدرته على إقناع العقل وإمتاع العاطفة في آن واحد، وفعالية المعجزة القرآنية وحيويتها بالقدر النسبي، الذي لكل جيل من عقل، بمعني أن كل جيل من الأجيال يرى في القرآن قمة ما وصل إليه العصر من معرفة، فالقرآن يفسره الزمان حقاً.
من هذه المقدمة في رحاب القرآن الكريم بلاغةً وفصاحةً وتفسيراً بمعناه المبسط، نستكمل تفسير سورة طه، يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم من سورة طه: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى فأتياه فقولا إنَّا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولّى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
(كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)، أنتم وكذلك الحيوانات، غذائكم واحد موجود في باطن الأرض، ما أعظم هذه القدرة التي زوّدت الموجودات بوسائل بقائها ولم تتركها لمصيرها، ولم تذهب حياتها سدىً، وإنما زودتها بتموينها وغذائها وطعامها وشرابها (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى)، ليس المطلوب أن تأكل وأن تشرب وأن تطعم الأنعام أو أن تأكل الأنعام أيضاً، لكن المطلوب أن تفكر كيف حدث هذا؟ وأن تعتبر بالنظر في هذا الكون الهائل المليء بالأسرار والمشحون بالآيات البيّنات الدّالة على وجود الله تبارك وتعالى، بالتالي ليس مطلوب أن تكون كالأنعام بل مطالب أن تخاطب بخطاب الله عز وجل، فقد أنعم الله عليك بأن ميّزك على سائر المخلوقات، فلا تضيع هذه الميزة ولا تحرق نفسك في جهنم، (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى)، فما أعجب ما تتحدث عنه الآية، أي من هذا التراب خلقناكم، وفيها نعيدكم إلى التراب، ومنها نخرجكم تارةً أخرى، إن هذه الدورة تحدث في كل لحظة بين أعيننا، ونحن نراقبها دائماً، نشهد ميلاد الأطفال ونشهد نهاية المخلوقات، ولسوف نشهد ذات يومٍ يوم البعث أننا جميعاً سنخرج بأمر الله تبارك وتعالى.
وهكذا يصور القرآن البداية والاستمرار والنهاية لعل الفرعون يتأمل ويعود إلى صوابه ولكن للقصة بقية أخرى، نسأل الله أن يديم علينا نعمة الفهم لكتابه، فهذا هو أساس العقيدة، ومدى ما ينبغي أن ندركه من الهدى الذي شاء الله لنا أن نكون من أهله، فالأسلوب القرآني ومزاياه هي قدرته على التعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة، وذلك بأوسع مدلول وأدق تعبير وأجمل أداء، وتميزه أيضاً بأسلوبه الخطابي، الذي يشمل العامة والخاصة وما يتضمن ذلك من ميزة أسلوبية بيانية وموضوعية في وقت واحد، وجمع هذا الأسلوب القرآني بين الإجمال والبيان، وذلك مالا يقدر عليه إلا منزل هذا القرآن العظيم.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.