الأزمة الأوكرانية تتقدم بسرعة نحو حافة الهاوية وفقاً لتأكيدات الإعلام الغربى، وعلى وجه الخصوص الطرفين الأمريكى والبريطانى اللذان يدفعان روسيا دفعاً نحو هذه الحافة. الحملة الدعائية الأمريكية – البريطانية بلغت ذروتها، حسب تأكيدات الكرملين فى روسيا بعد الاتصال الهاتفى الذى جرى بين الرئيسين الأمريكى جو بايدن والروسى فلاديمير بوتين السبت الفائت (12/2/2022) والذى كان مقرراً إجراؤها أمس الاثنين، وتم تعجيله بطلب من الرئيس الأمريكى.
الكرملين وصف تلك الحملة التحريضية التى تؤكد اقتراب موعد الغزو الروسى لأوكرانيا، بل وتحدد موعده بما لا يتجاوز الفترة من 16 – 20 فبراير الجارى، بأنها “هيستيريا أمريكية”. وأبدى يورى أوشاكوف المستشار الدبلوماسى للرئيس بوتين فى مؤتمر صحفى، انزعاجه من المزاعم الأمريكية حول حتمية حدوث الغزو الروسى لأوكرانيا، الأمر الذى تنفيه روسيا بشدة، وقال أن “الأمريكيين كشفوا حتى موعد الغزو الروسى”، وأضاف: “نحن لا نفهم لم تنقل معلومات كاذبة عن نياتنا إلى وسائل الإعلام”.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أن الأمريكيين تجاوزوا فرية تحديد ساعة الصفر الروسية لبدء غزو أوكرانيا، إلى تحديد سيناريوهات هذا الغزو وقالوا أنه سيبدأ بغارات جوية روسية على شرق أوكرانيا، يليها اجتياح أرضى بالدبابات والمدرعات لمواجهة أى هجوم أوكرانى مضاد. وقالوا “إذا اختار الرئيس الروسى الخيار الأكثر تشدداً فيمكنه تطويق العاصمة الأوكرانية كييف وإطاحة الرئيس فولديمير زيلينسكى فى غضون 48 ساعة، ووصل الأمر بهؤلاء المسئولين الأمريكيين الذين ينقلون عن الاستخبارات الأمريكية لدرجة عالية من يقين التوقع بما سوف يحدث من خسائر بشرية على الجانبين الأوكرانى والروسى جراء هذا الغزو الذى أضحى مؤكداً بالنسبة لهم، وتحدثوا عن مقتل ما بين 25 و50 ألف أوكرانى مقابل ما بين 3 و10 آلاف جندى روسى، واحتمال تدفق من مليون إلى خمسة ملايين لاجئ أوكرانى إلى بولندا.
من أين جاء هذا اليقين الأمريكى حول حتمية وقوع الغزو الروسى لأوكرانيا ونتائجه؟
السؤال مهم لأنه يكشف حقيقة الصراع الأمريكى- الروسى الدائر حالياً حول أوكرانيا، والذى هو مجرد جزء من الصراع الأوسع الأمريكى- الروسى حول مناطق النفوذ، خاصة فى اوروبا والمجال الحيوى للأمن، والضمانات الأمنية، ويمتد إلى الصراع حول زعامة النظام العالمى هل يبقى كما هو خاضعاً لهيمنة قوة عالمية أحادية هى الولايات المتحدة، كما تريد واشنطن، أم يتحول إلى نظام متعدد الأقطاب كما تريد روسيا وكما تريد الصين.
روسيا تنفى بشدة أى نية لغزو أوكرانيا وتفسيرها لحشدها أكثر من مائة ألف جندى روسى على الحدود الروسية مع أوكرانيا، ونقل أسلحة متطورة، منها صواريخ إسكندر إلى بيلاروسيا وإجراء مناورات عسكرية مع هذه الأخيرة أنه ورقة ضغط روسية على الولايات المتحدة والغرب الأوروبى للقبول بالمطالب الروسية، وبالتحديد الاستجابة لمطالب الضمانات الأمنية الروسية على حدودها الغربية مع دول شرق أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة خاصة جمهوريات البلطيق .
وكانت روسيا قد تقدمت بمذكرتين فى ديسمبر الماضى إلى كل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسى تتضمنان مسودتين للمطالب الأمنية الروسية فى أوروبا وشملت ثلاثة مطالب أساسية أولها رفض روسيا لأى نية حالية أو مستقبلية لضم أوكرانيا (أو جورجيا) إلى حلف شمال الأطلسى. ثانياً وقف الانتشار العسكرى للحلف الأطلسى فى شرق ووسط أوروبا قرب الجمهوريات السوفيتية السابقة، وثالثها عدم استخدام البنية التحتية فى دول شرق ووسط أوروبا للقيام بأى أنشطة عسكرية.
لم تحصل روسيا على ردود إيجابية لا من الولايات المتحدة، ولا من حلف شمال الأطلسى على هذه المطالب، وتأكد الرفض الأمريكى فى جولات محادثات جنيف الثنائية الأمريكية- الروسية فى يناير الماضى، كما تأكد فى الاتصالات الثنائية الهاتفية المتكررة بين الرئيسين الأمريكى والروسى والتى كان آخرها السبت الفائت، وكذلك الاتصالات الهاتفية بين وزيرى خارجية الولايات المتحدة وروسيا.
الرفض الأمريكى للمطالب الروسية يمكن إرجاعه إلى سببين؛ أولهما يتحدث عنه الأمريكيون بصراحة مفاده أن روسيا تريد إعادة بناء نفوذها فى شرق أوروبا التى تضم بشكل أساسى الجمهوريات السوفيتية السابقة مثل استونيا ولاتفيا وليتوانيا (دول البلطيق) إضافة إلى جورجيا وأوكرانيا، أى أنها تريد استرجاع المجد السوفيتى الذى تداعى مع نهاية الحرب الباردة وتفكك حلف وارسو وانضمام معظم أعضائه إلى حلف شمال الأطلسى بزعامته الأمريكية. ويرى الداعمون من الغربيين لهذه الرؤية أن بوتين يتوقع أن الولايات المتحدة فى مرحلة التداعى، وأنها بعد هزيمتها وانسحابها المخزى من أفغانستان ليست مستعدة للتورط فى حرب جديدة فى أوكرانيا، خاصة وأنها تعطى كل الأولوية لمواجهة الصين فى شمال شرق آسيا خاصة فى تايوان، وأن الوقت أضحى مناسباً كى تتحرك روسيا لفرض مطالب أمنية تعيد مجدداً تقسيم النفوذ فى أوروبا، وتؤمن بالتالى الأراضى الروسية، وتمنع أى محاولة غربية للتغلغل إلى الداخل الروسى وتكرار تجربة “الثورات الملونة” داخل روسيا على نحو ما حدث مع دول شرق ووسط أوروبا، وعلى نحو ما كاد يحدث فى كازاخستان لولا اليقظة الروسية التى أحبطت المحاولة.
أما السبب الثانى للرفض الأمريكى للمطالب الروسية فهو المسيطر الآن على الفهم الروسى ويقول أن الغرب خاصة أمريكا وبريطانيا تسعيان بكل جدية إلى دفع روسيا دفعاً وتوريطها لغزو أوكرانيا، على نحو ما حدث من توريط صدام حسين لغزو الكويت، كى يكون هذا الغزو تكئة ومبرراً للقيام بإجراءين تخطط لهما واشنطن ولندن، رغم تردد باريس وبون خشية التداعيات المحتملة خاصة إمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا.
الإجراء الأول هو الإسراع بفرض عقوبات مؤلمة ضد روسيا، جرى إعدادها فعلاً لتركيع روسيا، ضمن محاولات واشنطن ولندن لتحطيم طموحات الرئيس الروسى لأن تكون روسيا شريكاً فى الزعامة العالمية، أما الإجراء الثانى فهو إيجاد المبرر لضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسى، وتكثيف تسليح دول أوروبا الشرقية السابقة ودول البلطيق أعضاء حلف الأطلسى بأسلحة أمريكية متطورة، وتكثيف القواعد العسكرية فى هذه الدول لإحكام الطوق حول روسيا.
وكان حلف الأطلسى قد عزز وجوده على الجانب الشرقى بأربع وحدات قتالية متعددة الجنسيات وتشمل استونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا بعد قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، كما باشر الحلف زيادة وجوده فى منطقة البلطيق ورومانيا وبلغاريا بعد تصاعد التوترات مع روسيا فى الأشهر الأخيرة.
هناك سبب ثالث يرجحه الخبراء يتجاوز حدود الرغبة الأمريكية بمنع روسيا من التحول إلى قوة عظمى فى منطقة أوراسيا (أوروبا – آسيا) هو منع حلفاء واشنطن سواء فى أمريكا أو فى شرق آسيا من التعاون مع المحور العالمى الجديد الصينى – الروسى، ضمن الصراع الأمريكى الأشمل مع روسيا والصين وإحباط جهود روسيا والصين بالسعى لوضع نهاية لهيمنة الدولار على الاقتصادات العالمية .
روسيا تتابع كل ذلك وتحذر منه وتسعى جاهدة إلى كشف هذا المخطط، وأصدرت وزارة الخارجية الروسية بياناً (11/2/2022) قالت فيه أن موسكو “تواجه حملة إعلامية منسقة غير مسبوقة من قبل الغرب تهدف إلى تشويه مطالب روسيا العادلة للضمانات الأمنية فى أوروبا، وتبرير المطالب الجيوسياسية الغربية والانتشار العسكرى على الأراضى الأوكرانية”.
روسيا الآن فى مأزق صعب، فقد صعدت إلى أعلى الشجرة ولا تدرى كيفية النزول السالم والآمن منها، فهى لا تنوى التورط فى غزو أوكرانيا كى تفوت “المؤامرة الأمريكية” عليها، ولا تستطيع أن تنسحب دون ثمن من على الحدود مع أوكرانيا، لأنها لا تدرى ما هى التداعيات المحتملة لمثل هذا الانسحاب، وجل ما تأمله الآن ألا تجد نفسها قد تم اصطيادها مبكراً فى أوكرانيا على غير ما كانت تأمل من حملتها الحالية .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 15 / 2 / 2022م