خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن صورة، وأرسل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمةً للعالمين، قال تبارك وتعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ما بدلوا تبديلا)، هذا الإنسان الذي اختار التحصن بالحصن الإسلامي والدفاع عنه في كل القرون التي خلت، ضحى بحياته وبوقته في سبيل هذه الغاية وما أروعها وأعظمها من غاية نبيلة وجليلة وسامية.
وكل شخص سخّر نفسه لله تعالى وللدين الإسلامي هو الإنسان المسلم الذي تُرفع له القبعة في كل زمان ومكان، فمن رحل عن دنيانا ترك إرثه العريق الذي تتزين به المكتبات الإسلامية ويُدرّس في الجامعات الإسلامية، تركوا علماً شاملاً لكل ما من شأنه أن يطوّر البشرية ويرتقي بالإسلام الراقي أساساً، رغم محاولات الكثيرين شيطنته وشيطنة كل من تخصص فيه ونادى قديماً أو حديثاً بنشر تعاليمه والعمل بها، وأن نكون مسلمين هكذا خلقنا الله، لكن أن نعمل بأخلاق الإسلام هذا ما يجب أن نكون عليه، فلا أحد يولد ويعلم تفاصيل الإيمان الحقيقي إن لم يفتح الباب على مراعيه ويقرأ ويمحص ويدقق حتى يجد ضالته، قد يتأثرون بأسلوبٍ دعوي لإمامٍ ما، وقد تنحرف البوصلة وما بينهما هناك من استغل هذا الأمر وحرّف البوصلة عن مقصدها الحقيقي، فنجد أن بعض الأسماء تمت شيطنتها ووصفها بأنها تستغل الدين الإسلامي لغايات أخرى، ومنهم من نهض بالبعض رغم عدم كفاءته وحاول تلميع صورته لغايات أيضاً بعيدة عن الدين الإسلامي، وهنا ارتأيت أن اتخذ مناسبة صادفت بالأمس لأن أصوب بعض الأمور من منطلق حق لا من منطلق دفاع أو عدم دفاع بل على العكس هو رأي قد يعجب البعض وقد لا يعجب البعض الآخر، لكن طالما أنه مبني على قناعاتي وخلاصة رحلتي في قراءة فكر الجميع فلي الحق في سطر وجهة نظري من منطلق الأمانة العلمية والاستقلالية في القلم، فطالما القلم غير موجه، يستطيع أي كاتب أو باحث الخوض في كل الميادين دون اكتراث للآراء السلبية وفي بعض الأحيان للمتنمرين.
صادف أول أمس وتحديداً في الثاني عشر من شهر فبراير شباط 1949 ذكرى اغتيال الإمام حسن البنّا، واسمه ليس غريباً لدى كل الأمة الإسلامية وبالأخص الدُعاة، حيث كان في زمانه من الدعاة المشهورين، خاصة مع تأسيسه لحركة الإخوان المسلمين ما بين عامي (1927 – 1949) في مصر، فمن يكون هذا الإمام وما هي الأهمية الأكبيرة التي حظي بها في حياته وحتى بعد رحيله عن هذه الدنيا؟ دخل الشيخ البنا المعترك السياسي والمجتمع وهو يحمل نفسية “صوفية جهادية” ويشكل تراثه الفكري مناراً للمسلمين عامةً وأخص هنا في فترة (تأسيسه الحركة)، كان الشيخ حسن البنا أحد الدعاة والنموذج النادر للقادة السياسيين والمفكرين الدينيين الذين لم يألفوا التعب والملل في نشر وترويج الفكر الإسلامي ومعارفه، رغم تحفظي على جزئية المزج بين الحركة الدعوية والسياسة، لأن اجتماعها سوياً بقناعتي يؤثر أحدهما بالآخر، لتقوى جهة على حساب أخرى، ربما هذا ما يحدث في أيامنا هذه، من تبعات تلك المرحلة، فقد استطاع الإمام البنّا في تلك الحقبة بتعبئة جمهور واسع من الشعب المصري وتنظيمه ما جعله بارع في قيادته تلك، وهذا تجلى خصوصاً منذ فترة حداثته عندما كان يحضر المجالات الثقافية والمؤسسات الاجتماعية والجمعيات الخيرية والدينية بصفته مرشداً وزعيماً، ونيّراً ويقظاً وواعياً ذا أثر فاعل في التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في بلاده، فقد تزعم حينها جمعية الحصافية للبر وذلك من أجل صيانة الأخلاق الإسلامية في المجتمع المصري المسلم، والتصدي لفعاليات الهيئات التبشرية الدينية الغربية التي أوفدت إلى البلاد العربية للتبشير بالمسيحية، وهذا أمر طبيعي لشخص امتهن التربية التعليم في مصر باعتباره معلماً في اللغة العربية ومربياً للأخلاق والمعارف الإسلامية، وقد أكمل في هذا المنحى مهاراته وفنونه في نشر وتعليم الديانة الإسلامية وأحكامها، مما ترك ذلك الأثر في تكوينه الفكري وقدراته النفسية والشخصية.
بصريح العبارة، هذا الرجل أحيا الأمة بعد سقوط الخلافة العثمانية التي كانت مشروع أمة إسلامية متكامل، لكن تكالب الأمم عليها وبالأخص انكلترا ومعها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ولا ننسى وعد بلفور، وغير ذلك من مخططات الشر، وما كانت لتكون لولا سقوط الدولة العثمانية بما لها وعليها من إيجابيات وسلبيات، لكن لا نستطيع إنكارأن فترة الخلافة العثمانية كانت تحمل لواء مشروع حقيقي لنهضة الأمة الإسلامية التي كانت تحكم نصف الكرة الأرضية، ثم بزغ نجم الإمام حسن البنّا وبالفعل نستطيع القول إنه أحيا الأمة بعد أن ماتت وتم استبدال مشروع الأمة الإسلامي بمشروع القوميات (التركية والعربية والفارسية وغيرهم) وأصبحت الأمة المتحدة، عبارة عن دويلات، وأكرر أن لا أخصص كلامي لما بعد فترة الإمام البنّا بل ضمن فترته فقط، ليس خوفاً ولا ضعفاً لكن من حق الإمام استرجاع مشروعه النهضوي الدعوي والإضاءة عليه من زاوية بسيطة علّها تصل لمبتغاها، فقد كان الإمام يحمل مشروعاً دعوياً وكان حريصاً على تثقيف الناس وتهذيبهم، ومن المعروف أنه اغتيل في يوم 12 فبراير/ شباط من العام 1949، اغتالوا شخص البنّا ظاهرياً لكن الاغتيال كان موجهاً لاغتيال ونسف مشروع الأمة، ومذاك إلى يومنا هذا تسير بعض الأنظمة المستبدة حول العالم على نهد اغتيال كل صاحب مشروع ينهض بهذه الأمة، واغتيال الروح الإسلامية وكل ما هو إسلامي بما في ذلك كل المظاهر الإسلامية واستبدال الواقع والمجتمعات بشعوب مستهلكة، ونجد إلى يومنا هذا أن هذه الأنظمة المستبدة تحرك أدواتها لمحاربة الدعاة وأصحاب المشاريع الحقيقية النهضوية من مفكرين ومصلحين على مستوى العالم.
يقول الشهيد سيد قطب: “في بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور، وحكمة مدبرة في كتاب مسطور.. حسن “البنا”.. إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه.. ولكن من يقول إنها مصادفة، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هي البناء وإحسان البناء، بل عبقرية البناء، لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيراً من الدعاة .. ولكن الدعاية غير البناء .. وما كان كل داعية يملك أن يكون بنّاء، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء.. هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون”.
وهنا يجب أن نقر ونذكر أن الجماعة كانت من أوائل المدافعين عن فلسطين وحاملي لواء القضية الفلسطينية، وهذا بالطبع سبب رئيسي لشيطنتها وتشويه مبادئها وأهدافها لأنها لم ولن تتفق في زمن الإمام مع الأهداف الصهيونية، وبالطبع إن انبثاق حركات المقاومة الإسلامية ولدت من رحم هذا التنظيم والتي كان زعيمها الشهيد أحمد ياسين الذي استلهم مشروع المقاومة والكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني من نهج الإمام حسن البنّا وتأسست حركة حماس من وحي هذا الزعيم، لذلك نجد اليوم الحركة تمت شيطنتها وتُحارب على مستوى عالي جداً هي وكل الحركات الإسلامية التي تحمل لواء العداء للمشروع الصهيوني، فليس من فراغ يتم قتل المسلمين في الهند، وآخر ما كان منع الحجاب في إحدى الجامعات الهندية ونسف عقيدة أكثر من 200 مليون مسلم هندي لصالح الهندوسية، فلو كان لواء الأمة عالياً لما تجرأ نظام ناريندا مودي على سلوك هذا المسلك، كذلك الهجوم على المسلمين في فرنسا والهجوم على المسلمين في كثير من الدول ذات الحكومات غير المسلمة، لكن هل هذا يعني أنه هجوم على مسلمي تلك الدول؟ بكل تأكيد لا، إنه هجوم على الإسلام كدين ويجب على كل مسلم على هذه البسيطة الوقوف أمام هذا الهجوم بكل ما يملكه، وإلا على الدين والدنيا السلام.
بالتالي، نهض الإمام حسن البنّا في مرحلته وكان ابن تلك المرحلة، ويجب الانتباه على أنه من الصعب جداً استنساخ تلك المرحلة لأنه كان لها ظروفها وملابساتها التي من الصعب إعادتها وتكرارها، في الوقت الحالي، فلربما لو كان الشهيد حي، لتغير الكثير، وهو كان قد قال في إحدى تصريحاته، يما يعني أنه كان تمنى لو بقي في سلك التدريس وابتعد عن السياسة، فهذا يعني أنه كان رجل مرحلة لتلك الحقبة، فالظروف التي عاصرها الإمام في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، ودائماً ما نرى أن الشخصيات الفكرية أو السياسية أو الفكرية هي وليدة مرحلتها، كأن نذكر عبد الكريم الخطابي في ليبيا، أو عمر المختار، أو أحمد ياسين أو عز الدين القسام، مع حفظ الألقاب، كلهم أبناء مرحلة معينة، لكن وتطبيقاً للقاعدة القرآنية التي أتبعها، (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، ومن الواجب والأخلاق الإنصاف عندما نريد التحدث عن شخصية كان ولا زال لها وزنها وثقلها في ميدان من الميادين، فالإمام البنّا لا بد أنه قرأ الواقع الذي نعيشه اليوم، واستلهم دعوته من وحي الظروف التي استجدت والتي كانت تُطبخ في مطابخ الغرب إن كان زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة العربية وتقسيم الأمة إلى دويلات وما شابه ذلك، وما تحدث عنه السابقون شهدناه اليوم بأم العين، من تطبيع مخجل، وارتماء في حضن الصهيوني، والانبطاح العربي، لذلك أجزم أن محاربة أي شخصية كانت ضد الكيان الصهيوني هي جزء من مشروعهم الإستعماري الشيطاني، فمن يهاجم الإمام اليوم، هو المطبّع وهو الذي اختار الوقوف إلى جانب الصهاينة وهو اختار أن يكون ضد الإسلام ككل، ورفع لواء المدنية، والاعتراف بالمثلية وكل ما هو شائن، ودعم الإلحاد والاستشراق وأكثر من ذلك، فتح مراكز متخصصة لنشر الإلحاد ومحاربة الإسلام تحت بند (الإنفتاح)، وتسقيط العلماء الربانيين، فسابقاً كان يتم شراء المرتزقة من الكتّاب والمستشرقين المأجورين في حال كان يُراد تسقيط شخصية ما، وما كلامي إلا جرعة أمل لرفع معنويات أبناء هذه الأمة، فنجد هؤلاء يحرفون الكلام ويكذبون عن لسانه، فأصبح هناك كمية هائلة من التضليل والهجوم على الإسلام والمسلمين، فنجد أن كل رمز إسلامي أو عربي هناك حملة ممنهجة لتسقيطه، فحولوا كل أداة ممكنة لهذه الغاية، إن كان فنياً أو أدبياً وحتى تزوير التاريخ، فهل نسي الشعب مسلسل (أم هارون) وإبعاد المسلسلات التاريخية عن الدراما بصورة عامة وكذلك البرامج الدينية الحقيقية واستبدالها ببرامج لعلماء السلطة، وهل نسي الشعب مآسي الإيغور، وهل نسي الشعب كلام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والصور المسيئة للرسول الكريم صلى الله الله عليه وآله وسلم كله قائم ومستمر لأن الأمة اليوم يُرثى لها.
هنا استحضرني مقال كنت قد قرأته يقول في جزءه القصير: (ألَّف الدكتور طه حسين كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” وقد أحدث دويّاً، واختلفت الآراء بين مادح وقادح، وقد دُعِي الأستاذ المرشد حسن البنا ليُدلي بدلوه حول الكتاب وحُدّد الموعد، ووُزّعت الدعوات، وقبل الموعد بخمسة أيام، قرأ الأستاذ الكتاب في التزام أثناء ذهابه وإيابه من المدرسة، وذهب إلى دار الشبان المسلمين في الموعد المحدد، فإذا بها ممتلئة برجالات العلم والأدب والتربية، ووقف الإمام على المنصة، واستفتح بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، ثم بدأ ينتقد الكتاب بكلام من داخل الكتاب، فأخذ يأتي بفقرات ويشير إلى رقم الصفحات، والحاضرون يتعجبون من هذه الذاكرة، وتلك العبقرية، وفي الختام أبلغ السكرتير العام للشبان المسلمين الأستاذ المرشد بوجود الدكتور طه حسين في مكان خفي، وفي اليوم التالي طلب الدكتور طه مقابلة الأستاذ المرشد، فقابله، ودار حديث أكبر فيه الدكتور طه الأستاذ المرشد، ثم قال الدكتور طه: “ليت أعدائي مثل حسن البنا، إذن لمددت لهم يدي من أول يوم، يا أستاذ حسن، لقد كنت أستمع إلى نقدك لي وأطرب. وهذا النوع من النقد لا يستطيعه غيرك”).
الإمام حسن البنّا كان ينتمي إلى مدرسة الإسلام الحركي إن صح التعبير، أي أسلوب الدعوة والاهتمام بالجانب الحركي الذي تتبناه حالياً أغلب الجماعات الإسلامية بشقيها (السني والشيعي)، المتطرفة منها أو المعتدلة، في كل أنحاء العالم، كلهم ينتمون إلى مدرسة الإمام حسن البنّا، مع التأكيد إنه إذا ظهر من بعض الحركات شذوذ فكري أو انحرافات، فهذا لا ينطبق على الإمام لا من قريب ولا من بعيد، نعم أخذوا منه المنهج، لكن آلية التطبيق وفهم هذا المنهج أصبحت برسمهم هم، لا هو، كما قراءة القرآن الكريم، الجميع يقرأ القرآن، لكن هناك من يقرأه ويقول الله أكبر ومن ثم يذبح، فهل هذا كمن يقرأ القرآن بحكمته وتعاليمه قطعاً لا، شتّان بينهما، وهل بذلك يكون كل الإسلام إرهاب، أيضاً لا، بالتالي، تكمن المشكلة بالفهم وطبيعة تلقي هذا الفهم.
ولدى الإمام وعلى عكس ما يصوره البعض، انه كان فقيراً بما يكتزن من معلومات، بل لديه كتاب في التفسير وقرأت رسائله فهو عالم وابن عالم، والده محقق في الحديث النبوي، لكن كونه اهتم بالجانب الدعوي فكان إنتاجه العلمي قليل، فلم ينتج إلا بعض المقالات والرسائل، فمثلاً الإمام جمال الدين الأفغاني الحسيني، كان من المهتمين بالجوانب الفكرية، وأسس مدرسة انتمى لها عبدالله النديم ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، إلى جانب مدرسة محمود عباس العقاد وطه حسين كذلك اهتموا بالجانب الفكري، وتعد امتداد لمدرسة الأفغاني، ولنا وقفة بكل تأكيد معهم تباعاً، لكن ربما التقوا في محاربة الحركات التبشيرية في تلك الحقبة، خاصة وأنها جاءت مع المستعمر وتحديداً في فترة الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت قبل قيادة حملته على مصر، واستمرت إلى يومنا هذا، وربما انتهى بشكله القديم لكن تم استنساخ أشكال كثيرة منه، مثل غلاة العلمانيين واللادينيين والليبراليين، أمثال سيد القمني الذي توفى قبل أيام وقال عن نفسه إنه كافر وملحد، وكان يكتب في مجلة الملحدين العرب، ورغم ذلك إحدى الدول الخليجية قامت بتكريمه بحفاوة عالية جداً وتخصيص منبر قنوات مهمة للتمجيد به، رغم اعترافه إنه ملحد لكنهم يصفونه بأنه عالم تنوير إسلامي، فأين الإسلام من ذلك، بينما تتم شيطنة من نادى بنصرة وإعلاء الدين الإسلامي.
قال الدكتور مصطفى السباعي عن شخصية الإمام البنّا: “ليس للعظمة مقياس خاص، قد يكون العظيم عالماً، فاتحاً أو مخترعاً أو مربياً روحياً أو زعيماً سياسياً، ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم وينشؤون الأجيال، ويغيرون مجرى التاريخ، وحسن البنا كان أحد هؤلاء الخالدين..”.
ولد الإمام حسن البنا في قرية المحمودية بمصر (1906 – 1949)، وتنقل بين المدارس وخرج من منزل أسري غاية في العلم والدين، وكان يرى أن الإنسان يجب أن يعمل للإسلام، ومؤلفاته التي تركها، خير دليل على ذلك، مثل: (كتاب رسالة الدعوة، أصول الدعوة، أصول العشرين، المأثورات، رسالة التعليم، رسالة الجهاد، كيف نفهم الإسلام، ودعوتنا)، هذا التوجه لهذا الإمام جعله محط أنظار الانكليز لإسكاته، فكان كالصخرة الشامخة في وجه الاستعمار والصهيونية وأذنابهم، فحاولوا من خلال العروض المغرية لإخوته والمقربين منه تارة، وتارة أخرى بالتهديد والفصل والنقل من الوظيفة والسجن والاعتقال إلا أن ذلك ما كان يزيده إلا إصراراً على إكمال دعوته، فما كان منهم إلا أن اغتالوه ليسكتوه نهائياً وحينها خرجت الجملة الشهيرة للملك فاروق (الآن استقر عرشي)، لكن دعوته استمرت وانتشرت فكان اغتياله الشرارة التي حركت الدعوة إلى أوجها في تلك الحقبة، ولكن لا بد من معرفة الأسلوب الذي كان سائداً قبيل حادثة الاغتيال، فقد تميزت الدعوة الإسلامية من أول يوم لها بالعودة إلى الأصالة الإسلامية بمصدريها الكتاب والسنّة، متجاوزة الخلافات المذهبية، وكانت جهود الإمام منصبة على ضرورة صب الجهود من أجل بناء جيل مؤمن يفهم الإسلام فهماً صحيحاً على أنه دين ودولة، وعبادة وجهاد، وشريعة محكمة تنظم حياة الناس، الجدير بالذكر أن الساحة الإسلامية في ذاك الوقت كانت مقتصرة على تيارين رئيسين هما: الدعوة السلفية والطرق الصوفية، فكانت دعوة الإمام إلى أن يشتمل الإسلام كل مفاصل الحياة، وضمت الحركة شريحة واسعة من الشباب الطامح والمثقف، وعليه لم تنتهِ الحركة آنذاك باستشهاد الإمام، واعتقال رجالها، وإغلاق دورها، بل نمت وامتدت وخرجت إلى العالمية، لكن ما حدث لاحقاً من تشعبات وأخطاء كما أشرت سابقاً هو برسم المعنيين والقائمين من بعد الإمام، فلا يجوز تحميله طرقاً لم يكن بعلمها وربما لا يريدها.
لم يكن يدرك الإمام حسن البنّا، منذ 72 عاماً، أن مسيرته ستنتهي اغتيالاً، حيث يعد اغتياله من أكثر الجرائم غموضاً في العالم العربي، ومن مساء الثاني عشر من فبراير/شباط من العام 1949، في شارع الملكة نازلي تحديداً، أطلق مجهولان ستة أعيرة نارية على الإمام البنّا، قبل أن يفرا في سيارة سوداء، للتعتيم على الجريمة، صُودرت جريدة المصري التي كانت قد نشرت رقم سيارة الجناة، بعد أسابيع قليلة حُفِظ التحقيق وقُيدت القضية ضد مجهول لكن رقم السيارة السوداء ظل يتنقل بين الناس ومعه الكثير من علامات الاستفهام بشأن واحدة من اكثر الجرائم السياسية غموضاً في العالم العربي، جريمة اغتيال مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا.
66 يوماً كانت تفصل بين ليلة اعتقال أعضاء الجماعة وليلة اغتيال حسن البنا، تلك كانت أيامه الأخيرة عاشها ينتظر أن يتم التخلص منه بين لحظة وأخرى، كل الشواهد كانت تؤكد له ذلك، كتب خطاباً إلى محافظ القاهرة يقول فيه أشعر أنني مهدد بالقتل وأرجوا تعيين جندي مسلح لحراستي على نفقتي الخاصة لكنه لم يتلق رداً، أفضى إلى من بقي حوله رؤية تكررت في منامه وفسرها لهم مهمتي انتهت أنا غائب عنكم غيبة طويلة وبقدر ما كانت مهمة المجني عليه معقدة وحساسة كانت أيضاً مهمة الجاني.. لم يكن أمراً سهلاً اغتيال رجل مثل حسن البنا. كان البنا شخصية بالغة التفرد اتفق أعداؤه ومؤيدوه على انه كان رجلاً شديد الذكاء حاد الذاكرة ثقته بنفسه لا حد لها يحمل إيماناً عجيباً بفكرته ويسعى دائماً لاكتساب الأصدقاء، عُثر معه بعد اغتياله على مبلغ ستة جنيهات هي كل تركته ومسبحة رخيصة من 99 حبة، استطاع في 15 عاماً أن يزور قرابة ألفي قرية مصرية كان حديثه ساحراً وأسلوبه بسيطاً يحمل دعوته إلى الناس في يسر ويشرحها بألفاظ سهلة ومن دون تكلف، له قدرة فذة على التأثير في مستمعيه، استطاع في سنوات قلائل أن يجمع أعداد هائلة من المخلصين لفكره ولشخصه، اعتاد على إلقاء محاضرة كل ثلاثاء يتجمع فيها مريدوه ليستمعوا إلى حديث المرشد كما أحب أن يُلَقب، هذا اللقاء الأسبوعي سُمي حديث الثلاثاء.
يقول المؤرخ والمفكر الإسلامي، المستشار طارق البشري: (لما انفصلت القيادة والدعاوى السياسية عن المورد الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يظهر فكرة شمولية الإسلام وهذه أساس فكرة دعوة حسن البنا وأساس دعاوى يعني التكوينات الثقافية اللي بلورها حسن البنا واللي تبلورت بعد كده على يد مثقفين زي الشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي من تلامذته بعد كده على المدى اللي إحنا شايفينه دلوقتي اللي هي فكرة إنه يعني الحركة الإسلامية معناها شمولية الإسلام يعني باعتباره دين ودنيا في نفس الوقت يعني يبقى هو المرجعية الأساسية الحاكمة لعلاقة الإنسان بربه وهو المرجعية الأساسية الحاكمة لنظم المجتمع ولمعاملاته وفكرة الشريعة الإسلامية وإدخال الشريعة الإسلامية كانت قائمة في هذا الوقت).
في هذا المناخ المتأجج بالصراعات والتناقضات تفاعلت شخصية حسن البنا، اختلطت عاطفته الدينية بعاطفته الوطنية، تأثر بفكر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لكن تأثره الأكبر كان برشيد رضا الذي يمثل مدرسة المجددين المحافظين وأصبح رافضاً لكل ما له علاقة بالحضارة الغربية، بعد عشر سنوات من تأسيس الجماعة ومع نجاح الحركة وانتشارها قرر حسن البنا الانتقال إلى مرحلة التنفيذ مرحلة الجهاد، تلك الخطوة التي كان لها أكبر الأثر في تصعيد حالة التوتر التي سبقت عملية اغتياله ولأن البنا لم يكن ليؤمن بالطفرات فقد شرع بتحويل القطاع من الجماعة من العمل المدني إلى العمل شبه العسكري عن طريق التطور والتدرج فكون فرق الرحلات ثم فرق الجوالة بمظهرها العسكري، كانت صلة حسن البنا بالقضية الفلسطينية قد بدأت عام 1936 عندما اشتعلت الثورة العربية الكبرى فاشترك متطوعون من الإخوان مع الثوار الفلسطينيين وجمعت التبرعات والأسلحة لدعم الثورة وعندما أصدرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947 بدأت جريدة الإخوان تدعو الجيوش العربية إلى دخول الحرب وشارك حسن البنا في تشكيل لجنة وادي النيل لجمع الأموال والسلاح للمتطوعين وفي عام 1948 قامت كتيبة من فدائي الإخوان بالرد على مذبحة دير ياسين فقاموا بتفجير مستعمرة كفار دروم ثم حاولوا مهاجمة مستعمرة دير البلح.
تم استدعاء الإمام إلى جلسة مفاوضات مع ممثلي الحكومة في مقر جمعية الشبان المسلمين فذهب في الموعد المحدد قضى ساعته الأخيرة في التفاوض حول قرار حل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال أعضائها والذي صدر قبل شهرين من تلك الليلة، في الثامنة والثلث مساء وعندما خرج البنا من مقر الجمعية بصحبه صهره عبد الكريم منصور ليستقلا سيارة تاكسي كانت تنتظرهما ظهر رجلان يعبران الطريق جريا وأطلقا عليهم الرصاص، فر القاتلان داخل سيارة فورد ليموزين سوداء استطاع شاب أسمر مجهول الهوية حتى الآن أن يلتقط رقم السيارة ويمليه على محمد الليثي سكرتير لجنة الشباب بالجمعية وكان هذا هو الخيط الوحيد للوصول إلى القتلة، لم يمت الإمام رغم إصابته بست رصاصات، كان من الواضح أن خطة القتلة لم تنفذ بإحكام فحاولوا تدارك ذلك سريعاً لم يكن حسن البنا يعلم أن أوامر مشددة قد سبقته إلى مستشفى القصر العيني تمنع أي شخص من القيام بأي محاولة لإيقاف النزيف وُضِعَ على فراش وترك ينزف لمدة ثلاث ساعات على مرأى من المحيطين به وبعد منتصف الليل بقليل توقفت أنفاسه وفارق الحياة.
رحل حسن البنا تارك وراءه جدل عظيم وتناقض صارخ بين أتباع وجدوا فيه إمام ومجدد قل نظيره وبين أعداء اتهموه بأنه كان المؤسس الأول لمدرسة العنف والإرهاب، أحداث خطيرة سبقت اغتيال المرشد العام للإخوان المسلمين جعلت منه عدو لكل القوى السياسية والاستعمارية في المنطقة، كانت بداية تلك الأحداث قبل عشر سنوات من الاغتيال عندما أنشأ البنا تنظيم مسلح يتسم بالسرية التامة والطاعة المطلقة قادر على القيام بعمليات عنيفة على مستوى عال من الدقة اختلفت الآراء حول الهدف الذي أنشئ من أجله هذا التنظيم، في جامع قيسون في نفس المكان الذي كان حسن البنا يَئم فيه آلاف المصليين لم يكن هناك رجل واحد ليصلي على الإمام، قامت قوات الشرطة بإخلاء المسجد واعتقال كل من يحاول اختراق الحاجز الأمني من حوله، بعد الصلاة حمل النعش على كتف الأب وعدد من خدام المسجد إلى السيارة التي اتجهت في موكب مشدد الحراسة إلى مقابر الأسرة في منطقة الإمام الشافعي، ثلاثة وأربعون عاماً عاشها حسن البنا كل يوم فيها كان خطوة نحو تحقيق مشروعه، لا يستطيع أحد أن ينكر عليه شعبيته المتزايدة والتي أهّلته ليكون رجل الساحة السياسية القادم وبلا منازع.
قيل إنه كان يشق طريقه إلى الحكم عن طريق التجهيز لانقلاب مسلح فلقد استطاع الجهاز السري تحت قيادته أن يقوم بتجنيد ضباط داخل الجيش المصري كوّنوا تنظيم سري آخر أعلن عن نفسه عام 1952 تحت اسم تنظيم الضباط الأحرار، وتقول المعلوات إن علاقة جمال عبد الناصر بالنظام الخاص علاقة وثيقة، ومشروع الانقلاب مشروع إخواني أولاً وأخيراً كان في رأس حسن البنا وتكلم فيه مع عزيز المصري باشا ووافقه عليه وترك لهم مهمة الإعداد والترتيب لانقلاب 23 يوليو الذي حدث بشكل يختلف عما كان في خيال حسن البنا.
بالعودة إلى ملابسات التحقيق في جريمة اغتيال الإمام، بدأ أول تحقيق في الجريمة بعد ساعات من وقوعها اختفى الشاب الذي التقط رقم السيارة تقدم محمد الليثي وأدلى بشهادته وذكر الرقم اتضح أن السيارة مملوكة لمحامي يدعى فهيم بولس ومؤجرة لوزارة الداخلية ليستقلها عقيد يعمل في إدارة المباحث الجنائية اسمه محمود عبد المجيد، شهدت مجموعة من الضباط أنهم كانوا مع المذكور في بهو فندق إيدن وسط البلد من الغروب وحتى ساعة متأخرة من ليل يوم الحادث وأن السيارة كانت تقف تحت أنظارهم أمام الفندق، بعد خمسة أسابيع صدر قرار بحفظ التحقيقات لعدم معرفة الفاعل، كان الشارع المصري في هذا الوقت يهمس بالحقيقة ولكنه لا يستطيع أن يجاهر بها رأى الناس أن الجريمة تمت أخذا بالثأر نفذتها الشرطة المصرية لحساب الحكومة السعدية ردا على عملية اغتيال النقراشي باشا رئيس الحزب، لكن رجال الإخوان كانوا يرون للجريمة أبعاد أكبر من ذلك منها أن قرار الاغتيال كان لصالح قوى استعمارية كانت تخطط لمستقبل المنطقة وفقاً لمصالحها.
شهد العام الأخير من حياة البنا توتراً حاداً بينه وبين جميع القوى في الساحة السياسية إذ كان عاماً حافلاً بسلسلة من أحداث العنف والاغتيالات لكن البنا أعلن رفضه التام وحزنه الشديد لوقوع تلك الاغتيالات بما يعني أنه لم يكن الآمر بتنفيذها، ولم يكن من مصلحة حسن البنا أن تحدث هذه الحوادث ولا من مصلحة الإخوان، لكن البعض لم يصدق ذلك ورأى أن كل عمليات التنظيم السري كانت بعلم وتخطيط من حسن البنا، وفي ذلك، ظلم كبير جداً للرجل وتاريخه، بعد الحادث امتنع الملك فاروق عن الظهور في أي مكان وعن الصلاة في المساجد وتم اتخاذ احتياطات أمنية صارمة لتأمين حياته بعد ثلاثة أشهر أقيلت وزارة إبراهيم عبد الهادي وتولى حسين سري الحكم، أعيد التحقيق في القضية ولكنه انتهى مرة أخرى بالحفظ، ليكون الكل متورط ومتآمر ومنفذ وشريك بعملية الاغتيال تلك.
من هنا، أكرر لا أمجد أشخاصاً بعينهم، فلكل شخص ما له وما عليه، لكن لا بد وأن ننصف الناس، ومن الرجولة الكاملة ومن الإنصاف الحديث عنهم في ظل الهجمة الشرسة والكبيرة على الإسلام والمسلمين وعلى رموزنا الإسلامية وإن شاء الله تعالى مستمر في هذا النهج، وأفخر في كل رمز يستحق مني التقدير، وأما السلبيات لن أذكرها متعمداً لأني لست ممن يطعنون الأمة الإسلامية وأبنائها في ظهرهم، بل سأضيء على الإيجابيات لأن هذا جل اهتمامي، اليوم مقتضى النخوة الدينية والإسلامية الكلام عما يرفع معنويات أبناء أمتي، الإمام ترك مدرسة دعوية مهمة سواء اتفق البعض معها أم لا، الإمام كان رائد الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر، لكن مع كل التقدير والاحترام لكل المنتمين إلى مدرسة الإمام حسن البنّا أن يعقدون هدنة مع أنفسهم، ويراجعون أنفسهم، فالإسلام يجب أن ينتشر بثقافة المحبة الخالصة، وأنا أقرب إلى نفسي مدرسة الإصلاح التي كان فيها المعلم الأول وفيلسوف الشرق، السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، والإمام محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ومحب الدين الخطيب، لكن الإسلام موجود وسيبقى محفوظاً في الصدور، والقرآن الكريم أيضاً محفوظ في الصدور، والسنة النبوية الشريفة محفوظة في السطور والصدور، ولها أسانيدها ولها حفّاظها ولها رجالها، ولها فرسانها، والحمدلله على نعمة التوحيد، والإسلام ونعمة العلم والعلماء الربانيين في كل مكان في العالم، ورغم هذه الهجمة الشرسة، الإسلام بخير ولا زالت الأمة تنجب العلماء الغيورين على هذا الدين العظيم وعلينا بكل ما اوتينا من قوة صد كل الهجمات أياً كان مصدرها لأن الإيمان الحقيقي ستطلب ذلك إلى قيام الساعة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.