تنهد الفجر من سبات ليلة أمس العميق ، وأزاح برنوصة الصوفي من على جسده القابع في الظلام الدأمس ليكشف عن خيوط سيقانه الفجرية الجميلة ، يسري ضوءه شيئاً فشيء عباب زور النخيل الوارفة فيحتضن غدرها الباسق نحو السماء التي ما زالت تتراقص فيها النجوم نجمة نجمة ، يصقع الديك على وتد زفنه شتائية بالقرب من ابريق الشايب زايد الذي يتوضاء منه قبل كل صلاة ، وكأنه ابريق جاعد بن خميس لا تنضب ماءه ابدأ ولا يجف فاهه .
يوقظ سكون القرية المترامية وسط محيط الجبال صوت الأذان حين يصدح محمد بن سلطان بصوته ، فترتج القرية عن بكرة أبيها ، ويهاجر الجميع مضجعة كما تهاجر الطيور أعشاشها عند الزقزقة ، وكأنها تقول لبعضها هيا للعمل ، وصل بعض المصلين قرب المسجد وكلا منهم يحمل قنديلة بيده ليستبصر به الطريق ويشق الظلام الساكن أمامة عنوه ، البعض منهم يرتدي فانيلة صوف ، ولف مصره على رأسه وأذنيه ورقبته وكأنه درع محارب روماني من العصر القديم ، كما فضل البعض إرتداء معطف شتوي ببلوزاته المزركشة بنقش جميل متداخل ، للوهلة الاولى حين تشاهد صاحب المعطف تتذكر مقاهي بيروت في فصل الشتاء وأناقة العرب بها من الرجال والنساء ، حين يحتسون قدح الشاي او القهوة والأبخرة الحارة تتصاعد من الفنجان لتلتصق على وجوههم وبين شفاههم التي شتاقت إلى رشف ذاك الكوب او تلك الفناجين ، وكأنك تستنشق ذاك النفس العليل الذي يخرج من فاه حسناء في وسط السرير .
بدأ نور الفجر يتسلل بين أشجار الليمون وحبات السنابل في حقل القمح ، كما بدأ يداعب طرقات وسكك وأزقة القرية التي ما زالت تتماغط من سبات الأمس وتجتر جسدها كما تجتر الشاة طعامها من معدتها ، جميلة هي رائحة الغراميل حين تحترق كل صباح بزيت الشحم الطازج الذي تدهنه الأمهات والجدات على الطوبج قبل كل تدويره للغراميل حتى لا يرهق الطوبج فتلتصق به الغراميل او تحترق ، لا تسكن تلك الرائحة الأنف فقط بل تدخل لتتكور في الخياشيم وتجعل لعابك يسح من غير توقف ولا هدى ، أمممم ما أجمل مضاقها حين ترسلها إلى فاهك وهي مخمطة بعسل النحل وسمن البقر المقشود بالسنوت ، طعم ولا اروع ، طعم لا يضاهيه شيئا اخر في الكون ، حتى وجبات الفايف ستار في احد فنادق بيروت لا تعني معه شيئا إطلاقاً ، ونحن نأكل اتابع جدي حين يغرس اصابعة في قلب الصحن ينتشل غرمولين مغرقين بالعسل والسمن ، وكانه يغرسهما غاضباً في عين أحد ألد أعداؤه ، تجانس الحرارة والبرودة بين افواهنا ونحن نرمي الغراميل داخلها وتلك الأدخنة المتصاعدة في ذاك الشتاء يخيل لي في لحظة كأننا في أحدى المقاهي بشارع بيروت نُدخن حبة سجارة ، وكلاً منا معه حسناؤه ، يتلذذ بالنظر إلى عينيها الخضراوتين وشعرها المنساب على جبينها خصلةً خصلة ، آه .. كم أشتاق إليكِ يابيروت ، أجمل سنوات شبابي في جامعتك اتنقل بين الكتب والدراسة وقوام الجميلات الممشوقات المتمايلات كالخيزران ، المتلألأت كحب الؤلؤ والياقوت والمرجان .
قطع شرودي وحبل ذاكرتي لكزة ابي وصوته الأجش وهو يأمرني بأن اتوجه نحو الخب لأدير هندل المكينة التي أشتراها من سنين طويلة من وكالة الخنجي ، كانت تستهويني رائحة الديزل المحروق حين تلفظ المكينة انفاسها الأولى وتكح مخزون السواد القابع في جوفها ، في بعض الأحيان أصعد أعلى الخب لأسكب الماء في بيب المكينة واملاؤه بالماء حتى تنصاع لأوامري وتدور رحها لتدفعُ الماء من اليم إلى الخب فيتدفق الغيز نحو الجلب في ساقية ضيقة صنعت من الحجارة والنورة البيضاء .
قريتي بها من الأحداث والحكايات ما لا يُعد ولا يُحصى ، فقد تكون حقيقة مرت بها كباقي القرى في عُمان في تلك الحقبة من السنين او قبلها بزمن بعيد ، او قد تكون نسجاً أو ضرباً من الخيال ، ما يهمني الآن وليس الأمس ، كم اشتاق إلى العودة لمسكد والعمل بها في أحد الوزارات ، ربما تخمد ما بي من حنين إلى بيروت الجميلة ، فنور شوارع مسكد وأرصفتها وبعض مقاهيها يشعرني بإني في بيروت ، حتى ولو إنه الفارق كبير جدا بين هذه وتلك .
قصة قصيرة بقلم / يعقوب بن راشد بن سالم السعدي