لم يرد تحديد للجرائم التعزيرية وعقوباتها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على سبيل الحصر كما في جرائم الحدود بل ترك أمر ذلك لتقدير الإمام أو الحاكم بحيث يكون ذلك التقدير موافق للشريعة الإسلامية ويهدف لتحقيق المصالح، كما لا يكون حسب الأهواء والمصالح الخاصة، بل الغرض من العقوبة هو الإصلاح والتأديب وليس الإنتقام أو الإهانة.
ويتخذ الركن المادي للجريمة صورة عادية إذا توافرت له جميع عناصره من فعل ونتيجة وعلاقة سببية بينهما وكان توافر هذه العناصر راجعاً إلى سلوك شخص واحد إذ توقع عليه وحده العقوبة التي قررها القانون للجريمة، إلا أن هذا الركن قد يتخذ صوراً غير عادية يثور فيها من المشاكل ما يقتضي وضع قواعد خاصة فقد تتحقق بعض عناصر هذا الركن دون بعض كما لو ارتكب الجاني العمل الذي يحظره القانون ولكن لم تتحقق النتيجة الإجرامية التي كان يستهدف تحقيقها وقد يرتكب الجاني الفعل وتتحقق النتيجة المستهدفة به ولكن لا يثبت توافر علاقة السببية بينهما في هذا الوضع يثور التساؤل عما إذا كانت توقع على المكلف عقوبة ويمثل هذا الوضع جريمة ناقصة في أحد عناصرها وإذا قلنا بتوقيع عقوبة فهل تكون العقوبة المقررة للجريمة التامة أم تكون عقوبة أقل من ذلك؟
هذه العقوبات في الشريعة الإسلامية تُعتبر من العقوبات الأصلية كالتعزير، إذ يرى الإمام مالك، أن يعزر الجاني على ما دون النفس عمداً سواء اقتص منه أم لم يقتص لدرء القصاص أو للعفو أو الصلح، على أن يراعي في التعزير أن يختلف بحسب الأحوال، فمن اقتص منه عُزِّز بعقوبة مناسبة يراعي في تقديرها أنه عوقب بعقوبة القصاص، ومن لم يقتص منه يعزر تعزيراً شديداً يردعه عن ارتكاب جريمته فى المستقبل، ويقرر مالك أنه يجب التعزير مع القصاص للردع والزجر ولتناهي الناس عن ارتكاب الجريمة، وأن الجاني إذا كان اقتص منه بمثل ما فعل في المجني عليه إلا أن هذا لا يمنع من تعزيره لأنه ظالم والظالم أحق أن يحمل عليه، في حين يرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أن لا تعزير مع القصاص؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: (والجروح قصاص) فجعل العقوبة القصاص دون غيره فمن فرض غيرها فقد زاد على النص. وهذا ما يراه بعض الفقهاء في مذهب مالك، لكن الرأي الراجح هنا، أن الرأي الأخير أقرب إلى المنطق لأنه إذا كانت عقوبة القصاص تعجز عن ردع الجاني فلا شك أن عقوبة التعزير أعجز عن ردعه وتهذيبه، وإذا كان الأئمة الثلاثة لا يوافقون على جعل التعزير عقوبة أصلية فليس عندهم ما يمنع من جعل التعزير عقوبة بدلية في حالة سقوط القصاص أو امتناعه لسبب من الأسباب إذا رأى أولياء الأمر ذلك، فيقضى بالتعزير سواء حلت الدية محل القصاص أو عفى عن الدية، أما تقدير عقوبة التعزير وبيان نوعها فهذا متروك للسلطة التشريعية المختصة تختار نوع العقوبة وقدرها، أو تترك للقاضي يختار العقوبة من بين العقوبات التعزيرية المحددة، أو التي تحددها له.
ولما كانت عقوبة الحد أو القصاص لا توقع إلا إذا كانت الجريمة تامة أي استوفى ركنها المادي جميع عناصره أما إذا نقص أحد عناصره فلم نعد بصدد جريمة حد أو قصاص وصار توقيع عقوبة الحد أو القصاص على هذا الوضع غير جائز فإذا كان هذا الوضع لا يوقع فيه حد أو قصاص فإن العقوبة التي توقع على الفاعل هي التعزير فقد رأى الفقهاء ألا حاجة لوضع نظرية عامة للشروع في الجرائم تحكمها إذ لولي الأمر أو القاضي تحديد أركان وعقوبة هذه الجريمة التعزيرية، ولا يتعارض مع مبادئ الفقه الإسلامي وضع نظرية عامة للشروع في الجريمة باعتبار ذلك تأصيلاً لحلول جزئية قال بها الفقهاء بالإضافة إلى ذلك فإن المفترض في قانون العقوبات الإسلامي الحديث أن يتضمن تقنيناً للجرائم التعزيرية التي يقدر القانون الإسلامي في مجتمع معين وجوب النص عليها على سبيل الحصر ومن الملائم أن يتضمن هذا القانون نصوصاً خاصة بالشروع في هذه الجرائم باعتبار ذلك النتيجة الضرورية للنص على هذه الجرائم من حيث نطاق العقاب عليه ومقداره، إذ أن قاعدة الشريعة الإسلامية في جرائم الحدود والقصاص أن لا يتساوى عقاب الجريمة التامة بالجريمة التي لم تتم.
بالتالي، إن التعزير عقوبة بدلية للقصاص في حالة الجناية على النفس، إذ أن عقوبة الجناية على ما دون النفس خطأ هى الدية أو الأرش، وهي العقوبة الأصلية الوحيدة وليس ثمة من عقوبة بدلية لازمة للدية، ولكن إذا شاءت الهيئة التشريعية أن تجعل لهذه الجناية عقوبة تعزيرية أصلية أو بدلية فليس في نصوص الشريعة ما يمنع هذا. وإذا كان مالك يوجب التعزير في العمد ولا يوجبه في الخطأ فليس معنى ذلك أنه يمنع من التعزير في الخطأ وإنما معناه أنه رأى عقوبة التعزير واجبة في العمد للردع ولم يرها كذلك في حالة الخطأ، لكن يقصد بالدية هنا، الدية الكاملة والأرش يقصد به ما هو أقل من الدية، والأرش مقدر وغير مقدر.
والواقع أنه لا فرق بين عقوبة الدية في العمد والخطأ من حيث الوجوب وما تجب فيه، والأجناس التي تجب فيها الدية، وغير ذلك من المواضع التي تكلمنا فيها بمناسبة الكلام على الدية، ونستطيع أن نحصر الفرق بين الديات في الخطأ وبينها في العمد فيما يأتي:
أولاً، من يحمل الدية؟ يحملها في العمد الجاني إلا ما استثناه مالك، ويحملها في الخطأ باتفاق العاقلة، ويرى الشافعي وأحمد أن الجاني لا يحمل مع العاقلة شيئاً، ويرى أبو حنيفة ومالك أنه يحمل معها، والمقدار الذي تحمله العاقلة يختلف بحسب آراء الفقهاء في القتل الخطأ.
ثانياً، أوصاف الإبل: الدية في الخطأ تجب مخمسة باتفاق الفقهاء.
ثالثاً، التغليظ في الخطأ: يرى بعض الفقهاء في مذهب أحمد كما يرى الشافعي التغليظ فيما دون النفس ولكن الظاهر أن المذهب هو عدم التغليظ ولا يرى أحد من الأئمة الآخرين التغليظ في الخطأ فيما دون النفس.
رابعاً، تأجيل الدية: تجب دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين إذا كانت كاملة.
بالمحصلة، لم يتفق الفقهاء على تعريف موحد جامع لمعنى الجريمة، وعلى نفس نهجهم الاختلافي سار فقهاء القانون الوضعي ذلك أن تحديد الجرائم نسبي يختلف من زمان إلى زمان ومن مجتمع إلى آخر، كذلك لم تضع أغلب التشريعات الوطنية تعريفاً للجريمة استكفاءً بما ورد من تعريفات فقهية لها، والتي جاءت تعريفاتهم مختلفة باختلاف وجهات نظرهم الفكرية، والتي يمكن حصرها في اتجاهين أساسيين اتجاه اتخذ من الشكل أساساً للتعريف، والأخر اتخذ من الموضوعية أساساً لتعريف الجريمة، ويأتي ذلك لتشعبات الجريمة واختلاف الأدوات في ارتكابها، التي تطورت من جيل إلى جيل، فما كان يصح عقوبة لها في السابق، ربما اليوم لا ينطبق نهائياً لذلك لا يمكن تثبيت تعريف شامل يشمل كل أنواع الجرائم فالتي هي موجودة ووضعت أغلب نظريات الفقهاء تعالجها، اليوم تحتاج إلى قوانين مستمدة من روح الشريعة الإسلامية، ولكن تناسب تطورات المرحلة من مجتمع إلى آخر.
المفكر الإسلامي والفقيه عبد القادر عودة عرّف الجريمة بأنها: فعل أو ترك نصت الشريعة على تحريمه والعقاب عليه، بالتالي، يسعى المشرع من تجريم الأفعال المرتكبة وتوقيع العقوبة الجنائية لتحقيق العدالة الاجتماعية وصيانة أمن المجتمع، والمحافظة على مصلحة الجماعة وصيانة قيمها الأخلاقية كما أن العقوبات تكون متنوعة ومتعددة حسب نوع كل جريمة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.