المسرح الحديث.. قضايا وأفكار (1-2)
ظل المسرح على امتداده الحضاري الطويل يسعى إلى النهوض بالمجتمعات الإنسانية عبر تنويرها، فتناول هموم الناس ونضالهم من أجل نيل الحريات وتحقيق العدالة. وقدم المسرحيون في كل العالم التضحيات عبر العديد من الأدوار الحقيقية والشخصيات التي مثلوها، تجسّدت تلك التضحيات على أرض الواقع كما تمظهرت فوق الخشبة. ومن هنا قال شكسبير مقولته المعروفة عن الحياة والفكر والإنسان: «ما الحياة إلا ظّل يمشي، ممثل مسكين يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح، ثم لا يسمعه أحد». فهل أصوات المسرحي والشاعر والروائي والتشكيلي مخنوقة وممنوعة كحال ذلك الممثل المسكين الذي رآه شكسبير!
سأعتذر لشكسبير لأقول: الحياة هي المسرح الكبير وإن الممثل الذي يتبختر ويستشيط على الخشبة، يريد أن يقول إن منبع الحياة هو الضياء والأمل والبحث عن الجمال، وأن الفنان في كل العالم هو أحد أشكال الانعكاس أو الاشتباك مع المتغيرات الحاصلة في العالم. وقد يعجز الفنان أو المبدع عن تحقيق أحلامه أو تطلعاته في مسرح الحياة، لكنه كفنان حقيقي سيظل يسكن في داخله الأمل والإيمان بالتغيير في جوانب الحياة المختلفة.
ومن أجل الوصول إلى عتبات الجمال في الفن والموسيقى والأدب ظهرت العديد من القضايا والأفكار التي تناولها المسرحيون على جغرافيات الأمكنة المختلفة، فلم تعد خشبة المسرح التقليدية وحدها المهيئة أو الصالحة لتقديم العرض المسرحي، فهناك الساحات العامة والسراديب. وأن الأشكال الإخراجية الحديثة التي نشاهدها اليوم فوق الخشبة والأفكار التي تجري مناقشتها بتيارات فنية مختلفة، هي جهد متواصل ومتراكم عبر العصور. وعندما نحاول تناول بعض مفاتيح المسرح الحديث في عالمنا العربي، وبلورة قضاياه، يمكننا تتبع بعض التيارات الفنيّة المؤثرة التي ساعدت على توجه أشكال الإخراج في المسرح العربي ووصولها إلى ما هي عليه اليوم. فالمسرح الحديث (*) هو مسرح درامي يريد أن يقول شيئًا جديدًا ومعاصرًا ورافضًا لكل ما هو قديم أو تقليدي، ساعيًا إلى تحقيق أحد أنواع المتعة الفنية الخالصة! فيُستخدم من أجل تحقيق ذلك جسّد الممثل والوسائل التقنية وجميع الفنون الممكنة. إنه مسرح ينتصر للروح الخفية والطاقة المختزنة في جسد الممثل؛ بحيث يجعل منه وَحَدة واحَدة وعلامة مجسَّدة فوق الخشبة.
وقد دفع التفكير في فضاءات الإخراج المسرحي المتجددة الكثيرين إلى إثارة هذا السؤال: هل هناك نصٌّ دراميٌّ متعارفُّ عليه في المسرح الحديث؟ إنّ النصّ موجود في المسرح الحديث؛ لكنه نصٌّ جديد له خصائص مختلفة عن المفهوم التقليدي للنص وخصائصه المتعارف عليها. وعليه، يظهر جليًّا أن أولى قضايا وأفكار المسرح الحديث واهتماماته هي ميكانيزم جسَّد الممثل وتبئير فضاءه المادي، أما خصائص النصّ الجديد أو المعاصر المكتوب بلغة الجسّد هي القضية الفكرية الثانية، ويُعدُّ فضاء وعرض المتلقي وأين سيكون من وجهة نظر المتفرجين أو المشاركين في الأداء القضية الفكرية الثالثة. ومع هذه القضايا يمكننا النظر إلى مفهوم آخر للمسرح الحديث، فنعرّفه بأنه الحرية في التفكير والتمرد على المسكون السائد للخروج برؤية جمالية متشابكة مع الوقت والعصر.
يمكن تتبع نشأة مفهوم المسرح الحديث في العالم ككل في البيان (**) الرسمي لحركة المستقبلية في الفن الذي أطلقه في عام 1909م الشاعر والباحث النظري الأديب الإيطالي (فِلِيبي تومازو إميليو مارينيتي 1876-1944م). لقد ارتكز البيان على نقاط تدعو إلى تمجيد الآلة والسرعة «والحركة المغامِرة والأرق المحموم والخطوات الوثَّابة واللكمات والصفعات»، وتحقير النظرة إلى الشعر الذي بحسب اعتقاد (فليبي) أنه لم يعبر إلا عن «الأشياء الخامدة والاستسلام للملذات»، بالإضافة إلى ذلك، مجَّد البيان العنف والقسوة وحقّر من شأن الأفكار الجميلة التي يناضل من أجلها الرجل وتحقير وضع المرأة. ويُذكر أن فليبي عندما قرأ البيان قال يصفه بأنه «صفير مثل رصاصة مجنونة على الأدب.» فإذا جرى هدم الأدب ما الذي سيبقى لنا؟
البيان الرسمي لحركة المستقبلية – كتيار فنيٍّ تأسس في إيطاليا وروسيا معًا- كان له صرخته الحّادة والمدوية، فقد رفض البيان أشكال الفن التقليدي، ورفض كل ما هو مترِّسب في الماضي، ودعا فِليبي أيضًا إعلاء ثقافة الهدم للمرجعيات «سنهدم المتاحف والمكتبات والأكاديميات من كل نوع ونكافح ضد الأخلاقية والنسوية، وكّل المخازي النفعية الانتهازية»، دون أن يغفل بيانه الدعوة إلى ابتكار كل ما يمكن أن يتناسب بالضرورة مع عصر الآلة والسرعة من صيغَ جديدة. لا شك كان للحرب العالمية والنووية آثارها العميقة ليس على الطبيعة فحسب بل وعلى جوهر الإنسان نفسه. عندئذ سيغدو اكتشاف جوهر الإنسان في مواجهة الآلة أحد أشكال ردود الفعل الطبيعية على بيان (فِليبي) المتطرّف.
كان لهذا البيان أهميته وتأثيراته وتجلياته على قضايا المسرح الحديث. إن عروض المهرجانات المسرحية اليوم قد تأثرت ضمنيا بصيغ الحركة المستقبلية في الفن، كالتجريبية، والمونودراما (شكل تجريبي يستند إلى الممثل الواحد)، وما بعد الدراما (مسرح يتخلّص من المعايير الأدبية الدرامية كشرط لوجود الحدث المسرحي دون التخلي عن المفاهيم المسرحية المتعلقة به والمناسبة له، كأطروحات تيس ليمان الذي نشر في عام 1999م دراسة بعنوان مسرح ما بعد الدراما)، والديودراما (مسرح الثنائيات فقط)، وجماليات فن الأداء التي برزت مع الفنانة اليوغسلافية مارينا أبراموفيتش، فجميعها صيغ أخذت تلقى رواجا في نظرية علم جمال العرض ويؤكد ذلك حدوث التأثر بأفكار وقضايا الحركة المستقبلية في الفن، ولا ينفيه.
من أهم أعلامه: أدولف أبيا، مسرح القسوة لدى أنتونين آرتو، المسرح الملحمي لدى برتولد بريخت، إي كوردن كريك، لويجي بيرانديللو، برنارد شو، وقسطنطين ستانسلافسكي.
الفقرات المستشهد بها مستقطعة من ترجمة حسين الحاج على موقع boringboooks.net المنشور بتاريخ 03 نوفمبر 2018م