تزخر الأمة العربية والإسلامية بفيضِ من العلماء الذين تركوا بصمة واضحة في المكتبات الإسلامية والعربية، في مختلف الميادين، في الدين والآداب والطب والهندسة وفي القانون وكل المجالات، خاصة أولئك الذين بذلوا حياتهم في سبيل نشر العلم لفائدة الناس دون مقابل وبصبر وعزيمة قل نظيرها.
لدينا العالم الموسوعي العراقي، عبد الحميد العبيدي، الذي رغم أنه كان عالم دين وباحث إسلامي، لكنه لم يطرح نفسه يوماً كذلك، بل كأستاذ في الفقه المقارن، يقدم لكل سؤال أجوبته، التي تعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما اجتهد به العلماء على مختلف مدارسهم أو مذاهبهم، ويخلص إلى (هذا ما اتفقت عليه الأغلبية).
وحين فشلت عشرات البرامج الدينية المتخصصة أن تشد إليها الحضور، تربع برنامج (حوار في الشريعة) الذي كان يُعرض على التلفزيون العراقي، على رأس قمة البرامج الدينية، فقد استطاع أن يكسب جمهوراً استثنائياً من المشاهدين سواء في عددهم أم في تنوع واختلاف أجناسهم وثقافتهم وأعمارهم، فكانت طبيعة البرنامج على سبيل المثال، ذات توجه تخصصي ديني تقوم على صيغة السؤال والجواب، والتعامل المباشر مع استفسارات المشاهدين، وهي صيغة لا تمتلك معها كاميرا التصوير وفن الإخراج أية فرصة للتلاعب والتحليق والإبداع والشد، فأين يكمن سر النجاح ؟ ولماذا استطاع (حوار في الشريعة ) أن يتبوأ مثل هذه المكانة في حين فشلت عشرات البرامج الدينية المتخصصة المماثلة أن تشد اليها الحضور؟ ركيزة النجاح الرئيسة بلا أدنى شك تتمثل في شخصية الضيف الثابت على البرنامج، وهو المفكر الإسلامي عبد الحميد العبيدي أستاذ الفقه المقارن في جامعة بغداد للعلوم الإسلامية في العاصمة المصرية القاهرة، لما يتمتع به من مواصفات يندر اجتماعها أو توفرها في شخص واحد، وفي المقدمة منها ذلك التزاوج بين حافظة قوية لكامل النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة والأحكام الفقهية للمذاهب الاسلامية وأقوال العلماء والفقهاء والمجتهدين، وبين قدرة عالية على استحضار النصوص المناسبة والآراء الفقيهة على كثرتها وتنوعها وكأنها مطبوعة في ذاكرته أو بتعبير أدق ماثلة أمام عينيه.
مواصفات الراحل العبيدي لا تقف عند هذه الحدود المتعلقة بمجال تخصصه الديني للفقه المقارن، وإنما تتعداها إلى ما يصح أن نطلق عليه (الموسوعية في الثقافة) فهو يمتلك حافظة قوية وذهنية حادة قادرة على استذكار الاستشهادات المناسبة سواء تعلق الأمر بالحكم الديني والتفسير القرآني، أو تعلق الأمر بتواريخ السيرة الذاتية لمئات الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية وعموم التفاصيل المرتبطة بأحداث وحوادث التاريخ السابق للإسلام والتاريخ العربي الإسلامي، مع وقوف دقيق على علوم العربية لغة ونحواً وبلاغة وصرفاً وتطوراً ومقارنة ونطقاً وإملاء، إلى جانب خزين من محفوظاته الشعرية التي يغبط عليها.
لقد كان للعالم عبد الحميد العبيدي ظهور كثير في القنوات الفضائية مفتياً لأسئلة المشاهدين، وكان لاختصاصه في الفقه المقارن أثر في عرضه للمسائل الفقهية يطريقة الاستدلال بالقرآن والسنة النبوية ثم عرض أقوال الفقهاء واختيار القول الراجح الذي يراه، ومن أبرز كتب عبد الحميد العبيدي التي قام بتأليفها (الصيد والتذكية في الشريعة الإسلامية)، و(العوامل الفكرية في العالم الاسلامي).
بوفاته، لقد فقد العراق اليوم نجماً لامعاً وبيرقاً عالياً من بيارق العراق العلمية الذي تخرج على يده الكثير من العلماء والمفكرين، ونتقدم بأحر المواساة الصادقة لذوي الراحل ومحبيه وطلبته وتلاميذه، ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته.
عبدالعزيز بن بدر القطان