كلنا يخطئ (أنا وأنت، وهو وهي)، (عالم ومتعلم، كبير وصغير)، كل إنسان مهما كانت مكانته الاجتماعية أو السياسية أو العلمية، فالخطأ طبيعي لأن الإنسان بشر ومعرض للخطأ مهما بلغ من درجات العلم، فلا تغتر بأي إنسان مهما ارتدى وحقّق، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)، تأملها أيها الإنسان.
فهل رجل الدين لا يخطئ؟ يعتقد كثيرون أنه لا يخطئ، وهذا مفهوم نحن من قمنا بترويجه، فلو قرأنا القرآن الكريم بتأمل لن نجد أن هناك رجل دين في الإسلام، بل لدينا شخص متخصص بالشريعة، فالعمائم مهما كان لونها لا تعطي عصمة لمخلوق عن الخطأ فكلنا معرض للخطأ، أو لآفة من آفات العصر كالغرور على سبيل المثال، قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور)، فاليوم لدينا الكثير من العلماء المتخصصين في الشريعة الإسلامية من كل المذاهب الإسلامية تجد فيه زهواً وإعجاباً بنفسه مع أنه عالم، لديه علم وحافظاً للمتون والكتب والمطولات وحافظاً للقرآن الكريم أو لديه من العبادات يحاول أن يظهرها أمام الآخرين سواء على شاشات التلفزة أو في المجالس من خلال حضور خاص له أو استعراض طريقة معينة في الكلام، وهذا يقبل يده وذاك يقبل رأسه، فهكذا نوع من البشر لديه مرض غرور أو زهو، وكل من كان ذلك تأكد أن (عمله محبط)، على الرغم من أن أساسيات دوره أن يكون قدوة لنا وللجميع.
لذلك هذه الآفة موجودة مع الأسف حتى عند أصحاب التخصصات الشرعية، وبذات الوقت من خلالها تتولد الخصومة منذ ذاك الزمان القديم إلى هذا الزمن، حتى بين علماء الدين المتخصصين في الشريعة الإسلامية، وتقرأ على مر التاريخ إلى يومنا هذا، أن هناك ناس كثيرة يحسد بعض العلماء حول أن الله تبارك وتعالى أعطى إنسان ما حظوة ومكانة اجتماعية معينة أو ربما لديه قبول من الآخرين ويلتف حوله طلبة العلم، فنجد الهجمة الكبيرة عليه (شتائم وأقاويل وغير ذلك) ويحاولون بكل ما لديهم من قوة أن يسقطوه، قال تعالى: (فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك).
إذاً، آفات العصر كثيرة، قديماً، كان العالم يكتب اسمه على مؤلفاته بوسم (العبد الفقير لله) أما الآن فالأوصاف والصفات تسبق الاسم وتتجاوز سطور كثيرة الأمر الذي يلغي أي تواضع يجب أن يكون موجود لدى هؤلاء، وبالتالي هذا مرض واسمه مرض حب الظهور كما أسلفت، فلو كان متأدباً بآداب القرآن الكريم لتذكر قول الله تبارك وتعالى: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) ففي هذه الآية الكريمة وتحديداً في شقها الثاني، إن كل إنسان معتداً ومزهواً بنفسه تراه يتدخل حتى في نوايا الآخرين ويسقطهم ويشتمهم، وأعمال وأحمال القلب لا يعلمها الله تبارك وتعالى، فلو كانوا يعلمون ما هي الأخلاق ورقيها لعلموا كيف الإنسان يتلمس الأعذار للآخرين ويغض الطرف ولا يحاول أن يكشف عيوب الآخرين حتى وإن كانت موجودة، فالله سبحانه ستر عليه لا يجوز لك أن تقوم بهتك ستره وفضحه، فأين هي التقوى؟
لنفهم معنى التقوى لا بد من تعريفها لغةً واصطلاحاً، التقوى لغةً: هي مأخوذة من الوقاية وما يحمي به الإنسان نفسه ويحفظ نفسه، وأما اصطلاحاً: أن تجعل ما بينك وبين ما حرم الله حاجباً وحاجزاً، من هذين المعنيين، التقوى تكون لدى الإنسان الذي لديه معتقد بالتوحيد والإيمان قول راسخ في نفسه، والإنسان يتقوى بالله تبارك وتعالى، فإن كان يريد أن يتكلم فليتكلم بالنصح وفعل الخير لا بالذم والقدح، وهنا الأمر ينطبق على كل الشرائح من الناس، قال تعالى: (ولك في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون)، لكن ارتأيت أن أبدأ برأس الهرم لأن ما من أحدٍ معصوم، فكل خطأ يقع من شخص تشن عليه الهجمات وهنا نعتب على علماء بيئة هذا الشخص أو ذاك فأنتم علماء بالحديث على سبيل المثال الذي هو أقرب إلى كتاب الله تبارك وتعالى وعن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنتم قدوة هؤلاء الناس، فإن اختلفتم اجتمعوا وتحدثوا وتناقشوا وضعوا براهينكم لكن لأجل المصالح الدنيوية وتقرب من السلطان والحاكم تجيز لنفسك ما يخالف التعاليم الدينية التي تعلمتها وتقوم قائمة فلان بتحريض من خصومه، لماذا فقط إرضاءً للجهة التي تمولك ومؤسستك مادياً، وفي قرارة نفسك تعلم أن من تشن عليه هذه الحرب الهوجاء هو إنسان صادق.
لكن من أجل الدينا ومن أجل المال والمركز والتقرب إلى صاحب النفوذ، تهاجم وتنتقص من فلان وبالتالي هنا تسقط التقوى لتصبح إنساناً بلا تقوى وتتاجر بالدين وبالقرآن الكريم وآياته وبالأحاديث النبوية الشريفة، لذلك ما أجمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا منهج الإنسان، قال عدي بن حاتم: سمعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) أخرجه الشيخان البخاري ومسلم، وفي هذا الحديث شاهد تقوى الله تبارك وتعالى، فمن يدرك عظمة وقوة هذا الكلام حتى ولو كان لديه ربع التقوى لوقف خاشعاً أمام جزالة هذه الكلمات.
فكل عالم (متعالم) لينتبه إلى قوة الآية وخطورتها (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) فالله تبارك وتعالى أعلم بمن اتقى، ويعلم ما في نفوس الجميع، ولم ينصبك وكيلاً على الأرض لتشهر بالناس فقط لأنهم ليسوا على معتقدك أو مذهبك أو أنك تغار منهم أو ما شابه ذلك، قال تعالى: (إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) فتصنيف الناس تقاة أو فاسقين أمر ليس من شأنك (الله أعلم بمن اتقى) فعندما تريدون قدح وذم الناس تذكروا هذه الآية الكريمة لعلكم تتعظون قبل فوات الأوان، فلو كان أحد منا يطبق هذه الآية الكريمة وغيرها من آيات كتاب الله العزيز، لكانت مجتمعاتنا من أرقى المجتمعات، مجتمعات تحفظ ألسنتها، وتنتج، لكن للأسف الانشغال بالآخرين قوض قوتنا وأضعفنا ولا وازع أخلاقي يغير سلوك هؤلاء “البعض الكثير”، فلو كان الإنشغال بتهذيب النفس وتعليمها لكنا في عالم آخر، نقدم أموراً كثيرة لأنفسنا وأسرنا ومجتمعاتنا وكل بحسب تخصصه.
مع الأسف الشديد مجتمعاتنا العربية والإسلامية تعشق الكلام والكارثة أننا غلبنا إسلام المذاهب على إسلام القرآن الكريم ولو كان إسلام القرآن الكريم مقدم على مذاهبنا، لكان مجتمعنا إسلامي بحق ينعم بنعمة الأمن والسلام النفسي الداخلي ولما رأينا أياً من هذه الأمراض الاجتماعية المنتشرة حتى ما بين بعض أدعياء العلم أو الذين يسمون أنفسهم علماء دين لكن مع الأسف هم اليوم الأكثرية ومقربين جداً من السلطة ومن المسؤولين والسياسيين وأصبحت لهم قوة وأتباع وأصبحوا أمناء لمراكز وأحزاب ومؤتمرات التقريب ما بين المذاهب الإسلامية، وهم أبعد الناس عن هذا الخلق الإسلامي والخلق القرآني.
ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم الهداية لهم ولنا، وهذه نصيحة من القلب لكل إنسان بأن الإنسان لا يزكي نفسه ويزهو بعلمه، أو بعبادته أو صلاحه أو تقواه، أو بأن الله سبحانه وتعالى منحه بعض النعم، تواضع وأنت الظافر وانصح من ابتلاه الله ولا تفضح، لأن الكمال لله تبارك وتعالى.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان