حال كل العلوم التي تتقدم وتتطور مع تعاقب الأمم والحضارات هي حالة الأمة الإسلامية التي كانت زاخرة باكتشافات العلماء القدماء، لقد حفلت الخلافة الإسلامية في تاريخها الطويل بمآثر جليلة سجلها العلماء في مواقفهم الخالدة والفذة مع الحكام وتجاه قضايا أمتهم، ولقد اتسمت تلك المواقف بالصدق والجرأة والإخلاص لله ولدينه الحنيف فكانوا نجوماً وضاءة يهتدي بهم الحكام والمحكومين في ظلمات الحياة.
والبشر بلا علماء تعصف بهم الضلالات والأهواء من كل جانب، ومن هنا كان العلماء من نعم الله تعالى على أهل الأرض، فهم مصابيح الدجى وأئمة الهدى وحجة الله في أرضه، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بهم في ظلمات الحياة في البر والبحر، وقد بدأ اهتمام المسلمين بمختلف العلوم من زمنٍ قديم، لكننا اليوم سنخصص من هذه العلوم الفيزياء، التي اهتموا بها بعد حركات الترجمة التي ترجمت كتب الإغريق ومنها كتب ونظريات أمثال أرسطو أرخميدس وغيرهم، ومما جعل الفيزياء في العصر الإسلامي في تطور هو توافر آلالات مثل الأسطرلاب وإيجادهم للميكانيكا (علم الحيل)، حيث بدأت شرارة اكتشاف المسلمين للفيزياء مع ظهور ابن الهيثم حيث قام بتأسيس علم البصريات واكتشاف خواص الضوء وأهمها أن الضوء يأتي من الأجسام إلى العين بعكس ما كان معترف به سابقاً عند فلاسفة الإغريق، ثم توالت الاكتشافات.
كما قامت العلوم الطبيعية عند المسلمين في بدئها على مؤلَّفات اليونان، تلك التي استند فيها اليونانيُّون إلى الفلسفة المجرَّدة في محاولاتهم فَهْم الطبيعة، ودون أن يكون للتجربة دور يُذْكَر في تلك المحاولات، غير أن العلماء المسلمين ما لبثوا أن طوَّروا هذا الأساس، وخاضوا غمار علم الفيزياء ببراعة وذكاء منقطعَي النظير، حتى لكأنهم أنشئوا علماً جديداً، وذلك حين جعلوا علم الفيزياء علماً يستند إلى التجربة والاستقراء، عوضاً عن الاعتماد على الفلسفة أو التأملات والأفكار المجردة.
كما أشرنا أعلاه، بدأ علماء الأمة الإسلامية بالاكتشافات من خلال التراجم، التي أسهمت بأن يستنتجوا نظريات جديدة وبحوث قل نظيرها، مثل قانون الحركة والقوانين المائية، وقانون الجاذبية الأرضية، كما بحثوا في الوزن النوعي للمعادن والسوائل، واستطاعوا قياس الوزن النوعي للسوائل، وكنا قد أفردنا بحثاً مطولاً عن أشهر علماء الإسلامية وهو العالم الكبير “أبو الريحان البيروني” (محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي، 362 هـ – 440 هـ)، الذي كان له دور كبير في علوم الفيزياء، حيث عيّن الكثافة النوعية لثمانية عشر نوعاً من أنواع الحجارة الكريمة، ووضع القاعدة التي تنص على أن الكثافة النوعية للجسم تتناسب مع حجم الماء الذي يزيحه، وشرح أسباب خروج الماء من العيون الطبيعية، والآبار الارتوازية بنظرية الأواني المستطرقة، بالتالي يعتبر البيروني عالم مؤسس في هذا العلم، ولدينا أيضاً العالم “أبو الفتح الخازني”، (عبد الرحمن الخازني المكنى بأبي الفتح؛ هو العالم المسلم الفيزيائي والأحيائي والكيميائي والرياضي والفيلسوف، وفاة 550 هـ)، الذي أبدع في حقل الفيزياء وخاصة موضوعي الحركي (الديناميكا) وعلم السوائل الساكنة (الهيدروستاتيكا)، لدرجة أدهشت الباحثين الذين أتوا بعده، ولا تزال نظرياته تدرس في حقل الحركية في المدارس والجامعات إلى يومنا هذا، ومن هذه النظريات نظرية الميل والانحدار ونظرية الاندفاع، وهاتان النظريتان أدتا دوراً مهماً في علم الحركية، ويعتبر الكثير من المؤرخين في تاريخ العلوم الخازني أستاذ الفيزياء لجميع العصور، الذي خصص أغلب وقته لدراسة موضوع السوائل الساكنة، فاخترع آلة لمعرفة الوزن النوعي للسوائل، وناقش ضمن دراسته موضوع المقاومة التي يعانيها الجسم من أسفل إلى أعلى عندما يغمر في سائل، واستخدم الخازني نفس الجهاز الذي استخدمه أستاذه الكبير أبو الريحان البيروني في تعيين الثقل النوعي لبعض المواد الصلبة والسائلة، ووصل الخازني في مقاديره إلى درجة عظيمة من الدقة، لفتت انتباه معاصريه ومن تلاهم.
لكن ما لفت نظري وأنا أنقّب عن هذا العلم ودور علماء أمتي العظماء، مناقشة للفيلسوف روبرت هول (عالم الفيزياء والكيمياء الانكليزي 1635م – 1703م) في مقالة عن الخازني في قاموس الشخصيات البارزة في العلوم كيفية إيجاد الخازني لكثافة الأجسام الصلبة والسائلة، واختراعه ميزاناً لوزن الأجسام في الهواء والماء له خمس كفات تتحرك إحداها على ذراع مدرَّج، سبق الخازني تورشيللي في الإشارة إلى مادة الهواء ووزنه، وأشار إلى أن للهواء وزناً وقوة رافعة كالسوائل، وأن وزن الجسم المغمور في الهواء ينقص عن وزنه الحقيقي، وأن مقدار ما ينقصه من الوزن يتوقف على كثافة الهواء، وبين أن قاعدة أرشميدس لا تسري فقط على السوائل، ولكن تسري أيضاً على الغازات، وكانت مثل هذه الدراسات هي التي مهدت لاختراع البارومتر (ميزان الضغط)، ومفرغات الهواء والمضخات، وبهذا يكون الخازني قد سبق تورشيللي، وباسكال وبويل وغيرهم من العلماء.
ومن علماء الأمة لدينا أيضاً الكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (185 هـ – 256 هـ) علامة عربي مسلم، برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق الذي كان يعرف بعلم الكلام، يعتبر الكندي من أوائل العلماء المجدين في علم الفيزياء والخوض في فروعه، حيث فسر الكندي ظاهرة مهمة وهي زرقة السماء حيث أنه رأي أنها تأتي من نفاعل عدة عوامل عديدة وهي ظلمة السماء مع ذرات الغبار والبخار وضوء الشمس وما نراه من زرقة ما هو إلا الشكل الظاهري لهذا التفاعل، ومؤلفاته شاهدة على بحر العلوم الذي أبدع فيه، منها (سالة في اختلاف مناظر المرآة، رسالة في المد والجزر)، أما الحسن ابن الهيثم، أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم (354 هـ – 430 هـ) عالم موسوعي مسلم قدم إسهامات كبيرة في الرياضيات والبصريات والفيزياء وعلم الفلك والهندسة وطب العيون والفلسفة العلمية والإدراك البصري والعلوم بصفة عامة بتجاربه التي أجراها مستخدماً المنهج العلمي، وله العديد من المؤلفات والمكتشفات العلمية التي أكدها العلم الحديث، فهو بحق من أعظم رموز العلم في الحضارة الإسلامية، وهو صاحب إبداعات فيزيائية مذهلة حيث أنه رائد علمي الفيزياء والبصريات، ومن المؤمنين بالعلم التجريبي والتسليم بالبرهان النظري الصحيح، وآثاره العلمية الباقية خير دليل على عظمته وما زالت وستبقى خير شاهد على عظمة الحضارة الإسلامية ومكانتها المميزة بين الحضارات الأخرى.
ابتدع ابن الهيثم طريقة فلكية يمكن عن طريقها تعيين ارتفاع القطب عند أي مكان وبالتالي معرفة خط عرض ذلك المكان، وهذه الطريقة لا تزال مستخدمة إلى وقتنا الحاضر، إلى جانب دراسته علم الضوء، وتمكن بواسع علمه وثاقب بصره أن يضع حجر الأساس لهذا العلم ليبني عليه علماء العلم الحديث صرحه الشامخ من خلال كتابه الرائع المناظر والذي تناول فيه مسائل رئيسية في انعكاس الأشعة وانكسارها ومن ثم تأثيرها، كما طور علم البصريات بشكل جذري ودرس تركيب العين، ومن أهم مؤلفاته (كتاب المناظر، كتاب الجامع في أصول الحساب، كتاب المختصر في علم هندسة اقليدس) وغيرهم.
وبعيداً عن العاطفة والكلام النظري المجرد؛ فإن جهد علماء المسلمين في ذلك جاء واضحاً وصريحاً، تدعمه النصوص الكثيرة الموثّقة في مخطوطاتهم، والتي ألَّفوها قبل مجيء نيوتن بسبعة قرون، وكان الشيخ الرئيس للعلوم ابن سينا، أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، عالم وطبيب، 370 هـ – 427 هـ) في كتابه (الإشارات والتنبيهات) صاغ ذلك بلفظه فقال: “إنك لتعلم أن الجسم إذا خُلِّي وطباعه، ولم يعرض له من خارجٍ تأثيرٌ غريبٌ، لم يكن له بُدٌّ من موضع معيَّن وشكل معيَّن، فإن في طباعه مبدأ استيجاب ذلك، وليست المعاوقة للجسم بما هو جسم، بل بمعنى فيه يطلب البقاء على حاله”، فكان تعبيره للقانون الأول للحركة يمتاز عن تعبير إسحاق نيوتن الذي جاء بعده بأكثر من ستة قرون؛ وفيه يؤكد على أن الجسم يبقى في حالة سكون أو حركة منتظمة في خط مستقيم ما لم تجبره قوى خارجية على تغيير هذه الحالة؛ بما يعني أن ابن سينا هو أول من اكتشف هذا القانون.
بالتالي، لم يهتم علماء الأمة الإسلامية بعلوم الفيزياء فقط، بل أضافوا إليه الكثير حيث أنهم استطاعوا أن يصلوا إلى الكثير من الحقائق العلمية وأن يبتكروا العديد من القواعد والنظريات الفيزيائية كما أنهم ألفوا الكثير من المؤلفات التي تمت ترجمتها إلى اللغة اللاتينية لتكون مراجع يلجأ إليها الطلاب والدارسين في أوروبا، فلا يستطيع أي شخص إن ينكر فضلهم ودورهم في علم الفيزياء وفق منهج علمي ليس له نظير، وكما أقول دائماً، هذه العلوم متاحة لمن يريد التبحر فيها، لكن الجهود الفردية تثري الأفراد، في حين لو كانت الجهود جماعية لأغنت المجتمعات، وهذا برسم كل المتخصصين في كافة العلوم، فإن لم نقرأ ونتعلم مما تركوه لنا، سيبقى مجتمعنا متكلاً استهلاكياً لا حول له ولا قوة، لكن يبقى الأمل في أن تنشط الحركة العلمية انطلاقاً مما تركه لنا العلماء الأوائل، إن كان في الفقه والشريعة أو الأدب واللغة العربية ومختلف العلوم الأخرى لننهض بأمة حقاً هي امتداد للخلافة الإسلامية التي آمل من كل قلبي أن نعود أمة اليوم كما كانت أمتنا في الأمس.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.