لم يكن مفاجئاً أن يفرض مشهد التصعيد نفسه على الصراع المتفجر بين واشنطن وطهران حول البرنامج النووى الإيرانى وقدرات إيران الصاروخية المتطورة وسياستها الإقليمية. فعلى الرغم من أن “سطح الصراع” ينحصر فى النزاع بين البلدين حول الحل الأمثل والمرضى للطرفين والكفيل بحفظ كبريائهما الوطنى لمعضلة العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووى والشروط الأمريكية المسبقة لهذه العودة وأولها التراجع الإيرانى الكامل عن كل التجاوزات للاتفاق الموقع عام 2015، إلا أن جوهر الصراع يتركز حول هذه القضايا المحورية الثلاث، لذلك لم يكن غريباً أن تندفع إسرائيل، وبقوة، نحو معادلة إدارة هذا الصراع بمجرد معرفة حقيقة نوايا الإدارة الأمريكية الخاصة بالعودة إلى الاتفاق النووى، وهى المعرفة التى تحققت وتأكدت فى الاتصال الهاتفى الذى أجراه الرئيس الأمريكى جو بايدن، بعد تردد وتباطؤ متعمد مع رئيس حكومة كيان الاحتلال الإسرائيلى بنيامين نتنياهو. لذلك توارت فجأة الوساطة الأوروبية لعقد لقاء “غير رسمى” تحضره الولايات المتحدة يضم “مجموعة 4+1” مع إيران، وبرزت وباندفاع الأدوار الإسرائيلية الرامية إلى الحيلولة دون العودة الأمريكية للاتفاق النووى.
وهكذا بات واضحاً أن هناك ثلاثة أطراف أساسية تخوض الصراع فى المنطقة لكل منها أهدافه الخاصة: الولايات المتحدة وإيران الساعيتان إلى تطويع إرادة كل منهما كى يتحقق التوافق حول “حل وسط دبلوماسى” يؤمن عودة أمريكية إلى الاتفاق النووى الموقع عام 2015، ضمن توافق على إرجاء أى مطالب أمريكية لعقد اتفاق آخر بديل وموسع يحقق جوهر المطالب الأمريكية من إيران، ويضمن لإيران إلغاء كل العقوبات المفروضة عليها، ويرجئ معركة تصعيد المطالب ضدها، أما الطرف الثالث فهو إسرائيل التى تسعى إلى “إفساد اللعبة كلها”، والحيلولة دون تحقيق توافق أمريكى- إيرانى يعيد الولايات المتحدة مجدداً للاتفاق النووى الذى وقعت عليه عام 2015 ضمن “مجموعة 5+1” وانسحبت منه إدارة ترامب فى أغسطس 2018 .
إيران أخذت مبادرة التصعيد رداً على ما تعتبره “تلكؤاً” من إدارة جو بايدن فى إلغاء العقوبات المفروضة عليها، وعدم احترام إرادتها الوطنية. فقد نفذت طهران تهديدها الذى أعلنته الأسبوع الماضى بوقف الالتزام بالبروتوكول الإضافى الملحق بالاتفاق النووى والذى كان يعطى لمفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحق فى “التفتيش المباغت” أو المفاجئ لأى منشأة نووية إيرانية دون إخطار السلطات الإيرانية المعنية.
الانسحاب الإيرانى جرى تنفيذه فعلياً يوم الثلاثاء الماضى (23/2/2021) بعد يومين من انتهاء زيارة رفائيل جروسى المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية لطهران (20- 21/2/2021)، الذى كان قد تعمد، على ما يبدو، إحداث إرباك فى الموقف عندما صرح فى ختام لقاءاته فى طهران بالتوصل إلى اتفاق يقضى بمواصلة الوكالة التفتيش لمدة ثلاثة أشهر قادمة، الأمر الذى فجر صراعاً قوياً بين مجلس الشورى الإيرانى (البرلمان) والحكومة التى اتهمها برلمانيون بانتهاك القانون الذى أصدره البرلمان وصدق عليه مجلس الأمن القومى المعروف بقانون “الإجراء الإستراتيجى لإلغاء الحظر وصيانة حقوق الشعب الإيرانى”، وهو القانون الذى يطالب بوقف التزامات إيران إزاء ذلك البروتوكول الإضافى، وقام برلمانيون بجمع توقيعات لتقديم الرئيس الإيرانى وكل من خالف تطبيق ذلك القانون إلى القضاء، الأمر الذى دفع بالحكومة إلى توضيح الموقف وتكذيب ما روجه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية على لسان على أكبر صالحى المدير العام لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية الذى أكد أن ما تم الاتفاق عليه هو “الوقف الكامل لتنفيذ البروتوكول الإضافى وعمليات الوصول إلى المنشآت النووية الإيرانية المنصوص عليه فى الاتفاق النووى”، وأوضح أن ما اتفق عليه أيضاً هو أن “إيران ستقوم خلال ثلاثة أشهر قادمة بتسجيل معلومات بعض الأنشطة ومعدات المراقبة المحددة فى الملحق، وتحتفظ بها عندها، وخلال هذه الفترة لن يكون بإمكان الوكالة الوصول إلى هذه المعلومات وستبقى عند إيران فقط، وإذا تم إلغاء العقوبات المفروضة على إيران فى غضون تلك الأشهر الثلاثة بصورة كاملة ستقوم إيران بوضع هذه المعلومات تحت تصرف الوكالة، وفى غير هذه الحالة سيتم حذف المعلومات إلى الأبد”.
التصعيد الإيرانى تفاقم بدخول المرشد الأعلى الإيرانى على خامنئى طرفاً فى المواجهة بين البرلمان والحكومة الإيرانيتين بإعلانه أن إيران “بإمكانها تخصيب اليورانيوم حتى 60% إذا احتاجت لذلك ولن ترضخ أبداً للضغوط الأمريكية” موضحاً أن الأوروبيين والأمريكيين “استخدموا لغة غير عادلة ضد إيران.. إيران لن تذعن للضغوط .. موقفنا لن يتغير” ورفع المرشد من وتيرة التصعيد عندما قال أن إيران “لم تسع أبداً لبناء أو استخدام أسلحة نووية لأن ذلك محرَّم فى الإسلام”، لكنه أكد “إذا أردنا (امتلاك السلاح النووى) فلا أحد يستطيع منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، لكن إيران لا تسعى لامتلاك تلك الأسلحة”.
تصعيد إيران الذى وصل إلى الذروة فى الشأن النووى تزامن مع تصعيد آخر ضد الأمريكيين فى العراق عبر ميليشيات عراقية موالية بدأت بقصف دقيق لقاعدة أمريكية فى قلب مطار أربيل بكردستان العراق ثم تلتها عمليات قصف للمنطقة الخضراء فى بغداد حيث مقر السفارة الأمريكية، ويبدو أن واشنطن قررت حينئذ أن تغير من نهج التعامل الدبلوماسى مع إيران لتحريك أزمة الاتفاق النووى باللجوء، ولو رمزياً، إلى التعامل العسكرى حيث قامت القوات الأمريكية بشن هجوم على موقع عسكرى تابع لميليشيات موالية لإيران أبرزها “كتائب حزب الله” العراقية يقع داخل الأراضى السورية بالقرب من مدينة البوكمال على الحدود العراقية- السورية مساء الخميس (25/2/2021). هذا الهجوم جاء مباغتاً ودون إفصاح عن أسباب واضحة ومحددة سوى الإعلان عن أن القوات الأمريكية استهدفت قوات تابعة لإيران لها علاقة بالهجمات على القوات الأمريكية فى العراق.
هجوم متعجل جاء بعد يومين فقط من اتصال هاتفى أجراه الرئيس الأمريكى يوم الثلاثاء الماضى مع مصطفى الكاظمى رئيس الحكومة العراقية، أى بعد 48 ساعة فقط من هذا الاتصال الذى أوضح بيان للسفارة الأمريكية بالعراق أنه ناقش الهجمات الصاروخية الأخيرة ضد أفراد القوات العراقية وقوات التحالف، وأنهما (بايدن والكاظمى) اتفقا على محاسبة المسئولين عن هذه الهجمات بالكامل، كما ناقشا معاً أهمية دفع عجلة الحوار الإستراتيجى بين البلدين وتوسيع التعاون الثنائى فى القضايا الرئيسية.
هذا الهجوم الذى تم دون إعلام الكونجرس ودون تنسيق مع روسيا الموجودة فى سوريا التى قالت أن الجانب الأمريكى لم يبلغها بالهجوم إلا قبل دقائق من وقوعه، يثير تساؤلات حول مغزاه هل هو مجرد “قرصة أذن” لإيران، لعدم التمادى فى التصعيد والانضباط فى المطالب، والعودة مجدداً إلى العمل الدبلوماسى، أم هو مجرد بداية لتصعيد عسكرى حقيقى أمريكى مع إيران، تأمله إسرائيل وتدفع نحوه، خاصة أن هذا الهجوم تزامن مع الإعلان عن تعرض سفينة نقل إسرائيلية لهجوم فى مياه بحر عمان على مقربة من مضيق هرمز كانت قد تحركت من ميناء الدمام السعودى على الخليج العربى متجهة نحو سنغافورة. لم تتهم إسرائيل رسمياً أى طرف لكن صحيفة “هآرتس” والقناة 13 العبرية قالا أن الهجوم إيرانى، ملمحة إلى علاقة صداقة بين مالك السفينة وبين يوسى كوهين رئيس الموساد.
إلى أين ستتجه الأحداث خاصة من المنظور الإسرائيلى على ضوء تفاقم التعقيدات بين تل أبيب وواشنطن حول رغبة الإدارة الأمريكية العودة إلى الاتفاق النووى، وتقييمات القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين لهذا الاتفاق بأنه “تهديد وجودى” يستدعى التحرك الإسرائيلى لإنهائه، كل هذا يحدث متزامناً مع تسريبات إسرائيلية نقلتها وكالة اسوشيتدبرس عن بناء منشأة نووية جديدة بالقرب من مفاعل ديمونا النووى الإسرائيلى.
هل ستنجح إسرائيل فى فرض الخيار العسكرى على واشنطن بديلاً للحل الدبلوماسى لوضع نهاية تريدها للاتفاق النووى مع إيران؟ أم وصلت إلى قناعة بعبثية الجرى وراء سراب توريط الأمريكيين فى الخيار العسكرى ومن ثم لم يعد أمامها غير خيار “الاعتماد على النفس” وهل تقدر عليه؟ أسئلة مهمة فى حاجة إلى المزيد من التعمق فى إشكاليات التخطيط الإسرائيلى للخروج من مأزق الاندفاع نحو حافة الهاوية مع إيران .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام
2/ 3 / 2021م