يبدو أن مرور ما يقرب من ستة أسابيع على بدء العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا (24 فبراير 2022) أضحى كافياً للبحث عن إجابة للسؤال المحورى: ما هى المكاسب وما هى الخسائر التى تحققت للطرفين المتصارعين فى أوكرانيا؟ قبل الإجابة على هذا السؤال لابد أولاً من البدء بالإجابة على سؤال آخر: من يصارع من فى أوكرانيا؟ حتماً روسيا لا تصارع أوكرانيا، لأن أوكرانيا ليست إلا ميداناً للصراع، وربما تكون أوروبا هى الأخرى مجرد ميدان للصراع المتفجر بالأساس بين الولايات المتحدة وروسيا، ومن ثم فإن البحث عن مكاسب وخسائر الحرب فى أوكرانيا يجب أن تركز على أمريكا وروسيا، وبالطبع دون إنكار الأثمان الفادحة التى تدفعها أوكرانيا نظير قصر نظر من يحكمونها، أو لسوء نواياهم وخضوعهم لأجندات أجنبية تتجاوز أصولهم الوطنية إلى انتماءاتهم وارتباطاتهم الدينية خاصة الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى اليهودى ذى الارتباطات الصهيونية.
ولحسم هذه الجبهة الأدنى من المواجهة أى الجبهة الأوكرانية- الروسية يكفى أن نشير إلى ما أوردته وكالة “إنترفاكس” (السبت 2/4/2022) من أن موسكو تعتبر أن وثائق مسودة اتفاقية سلام قد وصلت إلى مرحلة متقدمة بما يسمح بإجراء محادثات مباشرة بين الرئيسين الروسى فلاديمير بوتين والأوكرانى فولوديمير زيلينسكى وهذا معناه أن الطرفين الروسى والأوكرانى اقتربا من التوصل إلى اتفاق ربما ينهى الحرب شرط أن يحقق المطالب الأساسية التى دخلت روسيا بسببها للحرب فى أوكرانيا. عندما يتحقق ذلك تكون روسيا قد حققت ما أرادته من هذه الحرب.
الأمر على الجبهة الأهم الأمريكية – الروسية ليس مختلفاً كثيراً إذا أخذنا فى الاعتبار أمرين أولهما ما سبق أن أكده المفكر الاستراتيجى الألمانى كارل فون كلاوزفيتز بأن “هدف الحرب هو فرض إرادتنا على الآخرين” أى انتصار إرادة طرف على الطرف الآخر، وثانيها ما أورده الكاتب البريطانى الجرئ “جون بيلجر” فى مقدمة كتابه الشهير “حكام العالم الجدد” الصادر عام 2003 والذى حذر فيه من أن الحرب العالمية الثالثة ستنطلق من أوكرانيا. جون بيلجر قال فى مؤلفه المذكور أن الولايات المتحدة درجت على الترويج، منذ أكثر من عقدين، لمفاهيم كاشفة لما تريده هذه الدولة من نوع “لعبة الحرب النووية” و”الحرب الدائمة” و”الحرب مع روسيا” باعتبارها حربا حتمية، موضحاً أن الهدف الحقيقى الأمريكى هو “السيطرة، ليس فقط على أوكرانيا، رغم أهمية مثل هذه السيطرة، عسكرياً واقتصادياً، بل وضع اليد الأمريكية على موارد الطاقة الضخمة فى روسيا والمحيط المتجمد الشمالى ، ثم تفكيك روسيا نفسها”.
لو أخذنا كلام كلاوزفيتز وكلام جون بيلجر سيكون فى مقدورنا أن نقول أنه، وبعد مرور ستة أسابيع من الصراع الأمريكى (الاقتصادى) – الروسى (العسكرى) فى أوكرانيا يمكننا قبول ما كتبته صحيفة “الجارديان” البريطانية (26/3/2022) من أن الغرب “أوقع نفسه فى فخ العقوبات ضد روسيا” ما يعنى أن الحرب الاقتصادية الأمريكية- الأوروبية على روسيا قد ارتدت على من فجروها، بدليل حالة الهلع الأوروبية الحالية من قرار الرئيس الروسى فلاديمير بوتين (31/3/2022) بالتوقف عن بيع الغاز الروسى للأوروبيين بالدولار أو باليورو وفرض الروبل الروسى عملة واحدة لتثمين مبيعات الغاز الروسى لتلك الدول. بعد هذا القرار أبلغت روسيا الدول الغربية أن عليها البدء بدفع ثمن الغاز الروسى بالروبل وإلا ستتوقف الإمدادات، وقال بوتين ” لا أحد يبيع لنا أى شئ مجاناً، ولن نقوم بأعمال خيرية أيضاً”.
هذا الهلع تزامن مع ارتداد مقاطعة النفط الروسى بقرار من الرئيس الأمريكى جو بايدن على الأسواق الأوروبية والأمريكية بعد فشل الرئيس بايدن فى إيجاد مصادر بديلة لتعويض السوق النفطية عن النفط الروسى، ما أدى إلى ارتفاع أسعار النفط ومشتقاته لدرجة باتت مؤلمة للمواطن الأوروبى والأمريكى الذى أخذ يتساءل عن أى أهداف تلك التى تبرر التورط فى صراع مع روسيا من أجل أوكرانيا أخذاً فى الاعتبار فداحة الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة ليس فقط فى سوق النفط ومشتقاته بل فى أسعار الغذاء التى تضاعفت تداعياتها فى معظم دول العالم الثالث النامية.
وإذا كان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لم يستطع ضبط أعصابه فى الرد على القرار الروسى بفرض الروبل عملة وحيدة لشراء الغاز الروسى وقوله “هذا غير ممكن” و”لا تنص عليه العقود” فإن المستشار الألمانى كان أكثر صدقاً فى تعبيره عن واقع أزمة “العقوبات المرتدة” على ألمانيا خاصة وأوروبا عامة عندما قال “لا ينبغى للعقوبات أن تلحق ضرراً بالاتحاد الأوروبى أكثر من روسيا” وقال فى ما يشبه التمرد على القرار الأمريكى أن “وقف النفط الروسى لا يمكن تنفيذه بين عشية وضحاها” محذراً من أن “ألمانيا مهددة بالركود إذا اتخذت خطوات متسرعة”.
مردود العقوبات التى فرضت على روسيا أخذ يفرض نفسه بقوة لدرجة أخرجت الرئيس الأمريكى جو بايدن عن صوابه بعد ثلاثة اجتماعات قمة حضرها فى أوروبا لحلف شمال الأطلسى والاتحاد الأوروبى ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى. ففى زيارته لبولندا وأمام لاجئين أوكرانيين لم يستطع الرئيس بايدن السيطرة على عمق شعوره بـ “الإخفاق” عقب هذه القمم الثلاث مع الحلفاء وقال أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين “لا يمكنه البقاء فى السلطة”. كلام بايدن اعتبره الإعلام الأمريكى “زلة لسان” واضطر وزير الخارجية الأمريكى انتونى بلينكن ليخفف من وقع تلك الزلة فى اليوم التالى مباشرة (الأحد 27/3/2022) بقوله أنه “ليس لدى بلاده أى خطط استراتيجية لتغيير النظام فى روسيا” بايدن نفسه اضطر للتراجع عن قوله وفسره بأنه كان مبنياً على شعور شخصى بـ “الغضب الذى أشعر به تجاه هذا الرجل وليس تغييراً فى السياسة الأمريكية”. لكنه رفض الاعتذار وقال “لن أقدم اعتذارات عن مشاعرى”. ما أدى بمجلة “ناشيونال انترست” الأمريكية إلى وصف الرئيس الأمريكى بأنه “ليس كفؤاً للسياسة الخارجية لبلاده”.
وإذا كان بايدن قد رفض الاعتذار عن مقولته بحق الرئيس الروسى فإنه لم يستطع أيضاً إخفاء شعوره بالإخفاق فى إدارة العقوبات ضد روسيا وبالذات قرار مقاطعة النفط الروسى وعجزه عن توفير ما يعوض السوق النفطية العالمية من هذا النفط وفشله أمام الحلفاء “النفطيين” فى توفير هذا التعويض ما أجبره على صرف مليون برميل نفط من الاحتياطى الاستراتيجى النفطى الأمريكى فى محاولة لخفض أسعار مشتقات النفط فى السوق الأمريكية وتبريره ذلك بأن أكثر من 36 دولة فى العالم ستلجأ إلى نفس الأسلوب التى قررت أن تضخ فى السوق عشرات الملايين من براميل النفط الإضافية.
إذا أخذنا كل هذه المؤشرات فى الاعتبار فى الوقت الذى توشك فيه روسيا أن تحقق شروطها التى دخلت بسببها الحرب فى أوكرانيا فى مفاوضات باتت وشيكة ، مع الأخذ فى الاعتبار أن المفاوض الأوكرانى يتحرك بإملاءات أمريكية، لتأكدت إجابة سؤال من يكسب ومن يخسر فى أوكرانيا خاصة فى ظل “فخ العقوبات” الذى وقع فيه الغرب، وأمريكا بالتحديد، فى صراعها مع روسيا .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 5 / 4 /2022 م