يتصدر رئيس وزراء باكستان عمران خان عناوين الصحافة والإعلام في العالم؛ وذلك على خلفية المواجهة القائمة مع المعارضة التي حاولت حجب الثقة عنه خلال جلسة برلمانية مطلع الأسبوع، لكنها باءت بالفشل بعدما أعلن نائب رئيس البرلمان أن حجب الثقة غير دستوري استنادا إلى المادتين (6،5) في البرلمان، وتنصُّ المادة 6 على أن “أي محاولات لتعليق الدستور أو إلغائه باستخدام القوة أو إظهار القوة أو بأي وسيلة أخرى غير دستورية تكون مذنبة بالخيانة العظمى” لتؤول الأمور إلى إعلان رئيس باكستان عارف علوي بحل البرلمان والحكومة بناء على مذكرة من قبل رئيس الوزراء عمران خان، والدعوة إلى انتخابات جديدة مبكرة في غضون 90 يوما، يبقى خلالها خان في منصبه رئيسا للحكومة حتى يتم تشكيل حكومة تصريف أعمال للإشراف على الانتخابات، لكن المعارضة تقدمت بشكوى للمحكمة الدستورية للبتِّ في مسألة حجب الثقة وحل البرلمان، وهناك حالة من الترقب للمشهد السياسي في باكستان خلال الأيام القادمة، ومن الممكن إقرار الإجراء الذي تم وفق الدستور والدعوة لتشكيل حكومة تصريف أعمال لإجراء الانتخابات، وفي حال تم ذلك فهو يعد انتصارا آخر يسجله رئيس الوزراء عمران خان على خصومه السياسيين في المعارضة الذين اتهمهم بالاستناد إلى الخارج لإسقاط حكومته، وكان عمران خان قد فاز بالانتخابات وتولى رئاسة الحكومة في 18 أغسطس 2018م عن حزب إنصاف الذي حصل على أغلبية في الانتخابات .
المشهد السياسي في باكستان منذ الاستقلال في 14 أغسطس عام 1947م يبرز فيه عدد من الأحزاب التي شكلت حكومات سابقة، يأتي في مقدمتها الرابطة الإسلامية والشعب والجمهوري، ولكن يظل الجيش هو مركز الثقل في البلاد والذي كان له الحسم السياسي غالبا. وتجدر الإشارة هنا إلى أن باكستان القوة النووية الوحيدة في العالم الإسلامي، وغالبا ما يشوب علاقتها الكثير من التوترات مع جارتها النووية الأخرى الهند وحدثت مواجهات وحروب بينهما، وبالتالي فإن الجيش يمثل مركز الثقل الوطني في البلاد، وجاء عدد من الرؤساء ورؤساء الحكومات من بين جنرالاته، وعلاقة باكستان مع القوى الدولية طوال العقود الماضية تسير بشكل متوازٍ وإيجابي، بل إن الولايات المتحدة عدَّت باكستان حليفا رئيسيا من خارج الناتو خلال فترة الحرب والوجود الأميركي في أفغانستان؛ نظرا للتسهيلات الكبرى التي حصلت عليها القوات الأميركية في باكستان .
وعودا على بدء، فإن المشهد السياسي في باكستان اليوم يتشكل من خلال مواجهة بين المعارضة ورئيس الوزراء عمران خان الذي اتهم المعارضة بدعم من الخارج لإسقاط حكومته، بينما تتحدث المعارضة عن فشل في مواجهة الحالة الاقتصادية وإنهاء الفساد في البلاد. ولا شك أن ملفي الاقتصاد والفساد هما أكثر الملفات التي تواجه العديد من دول العالم وتتطلبان جهودا كبرى، وفي الحالة الباكستانية تبرز توجُّهات عمران خان في مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تُمثِّل طريق الحرير للقرن الـ(21) حيث تعول جمهورية باكستان على الممر الاقتصادي مع الصين في تهيئة البنية التحية من مطارات وموانئ وطرق وسكك حديد لتحقيق التنمية، وتوفير الفرص الوظيفية لمواجهة البطالة في البلاد، وهو مشروع عملاق تعول عليه باكستان إضافة إلى اتفاقيات تجارية واقتصادية أخرى مع جارتها إيران بتعزيز التبادل التجاري والمناطق الحرة، وذلك من خلال توقيع اتفاقية المواقع الحدودية مع إيران وافتتاح منفذ حدودي ثالث يربط البلدين الجارين، وكذلك هو الحال مع تركيا لتنشيط التبادل التجاري بين البلدين، ولكن كل هذه الاتفاقيات تحتاج إلى مزيد من الوقت لتحقق جدواها الاقتصادية. ولا شك أن هذه والاتفاقيات وخصوصا مبادرة الحزام والطريق مع الصين ينظر لها من قبل المنافسين العالميين على أنها تعزيز لموقف الصين الاقتصادي في منطقة تشكل كثافة سكانية كبرى وتُعد هدفا للاقتصادات العالمية .
زيارة عمران خان إلى روسيا أواخر فبراير الماضي شكَّلت إحدى أبرز مفردات السياسة والاقتصاد لحكومة باكستان برئاسة خان، وهناك توجُّهات لتحل باكستان بديلا لاستيراد ربع إنتاج الغاز الروسي عبر ميناء كراتشي وتوزيعه عبر خطوط خاصة لباقي أقاليم باكستان، حيث يمكن لباكستان عبر مشروع “باكستان ستريم” استيعاب ١٦ مليار متر مكعب من الغاز الروسي، وهذا المشروع يُمثِّل انفتاحا كبيرا للاقتصاد الباكستاني وتوفير أسواق بديلة للاقتصاد الروسي، وهو ما أزعج منافسي روسيا والصين في صراع المحاور الدولية، باعتبار أن التوجُّه الاقتصادي لحكومة باكستان يميل باتجاه الشرق على عكس الاتجاه السائد طوال العقود الماضية، وهذا التوجُّه ـ بلا شك ـ يُمثِّل موقفا سياديا وطنيا لدى حكومة عمران خان، بل إن خان كان واضحا جدا في الرد على سفراء الدول الأوروبية الذين طالبوا الحكومة بإدانة العملية الروسية في أوكرانيا فجاء الرد من قبل خان مباشرة: “نحن لسنا عبيدا لكم”. كل هذه المواقف والمؤشرات تبرز شخصية النظام السياسي القائم في باكستان برئاسة عمران خان، لذا يشير بعض المراقبين إلى أن المعارضة تحاول إسقاط الحكومة بدعم خارجي، وهو ما ذكره خان حرفيا في التلفزيون الرسمي وأمام وسائل الإعلام مطالبا الشعب الباكستاني بالخروج في مظاهرات لمواجهة المؤامرة، وأعلن أنه سيقود “شخصيا” مظاهرات ليلية لمدة أسبوع ضد “المؤامرة الأميركية” لإسقاط حكومته، مبديًّا استغرابه من رفض المعارضة قرار حل البرلمان، ومعتبرا أنها متآمرة مع الخارج وتخشى الانتخابات المبكرة.
الرئيس عمران خان كانت له مبادرات سياسية عظيمة على مستوى العالم الإسلامي، حيث تبنى في أكتوبر من العام 2019م محاولة ترتيب مصالحة بين إيران والسعودية، وقام بجولات مكوكية في البلدين في مساعٍ خيرة تسجل في رصيده السياسي، وكتبتُ مقالا حول الأهمية الاستراتيجية لجولة عمران خان. ومؤخرا وقف خان في مقر الأمم المتحدة موجِّها وبلهجة شديدة الإدانة لما يتعرض له المسلمون في الهند رغم حساسية العلاقات بين البلدين، لكنه آثر أن يصدح بكلماته القوية في موقف إنساني يشار إليه بالبنان، كذلك فإن موقف عمران خان رافض لموضوع التطبيع مع الصهاينة، وكذلك موقفه من وجود القواعد الأجنبية في بلاده معلقا على ذلك بالرفض أن تكون بلاده منصَّة لقواعد عسكرية وأمنية. فقد صرّح في يونيو من العام الماضي، قُبيل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لموقع “أكسيوس” الأميركي، بأنَّه لن يسمح على الإطلاق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) باستخدام قواعد في باكستان للقيام بعمليات في الداخل الأفغاني، ولا يفوتنا أن نشير كذلك للمواقف الإنسانية العظيمة منذ بواكير عهده بإنشاء مستشفى للسرطان والعديد من المواقف الإنسانية والاجتماعية في باكستان، والتي تعبِّر عن شخصية إنسانية عظيمة يحق أن نتوقف معها، ونشير لها بالثناء والتمجيد، ومن حسن الطالع لأي دولة وجود شخصية عظيمة مثل عمران خان على رأس حكومتها، ونأمل أن تحظى الأمم بأمثاله حفظه الله .
خميس بن عبيد القطيطي