لطالما كانت القضية الفلسطينية قضية العالم، عابرة للقارات، اخترقت فكر وعقل كل مقاوم وكل مؤمن ومسلم وحر، فلسطين شاغلة الدنيا وكل الناس، مقدساتها الإسلامية والمسيحية تذكرة عبور لقلب كل الناس، الحجر فيها ينطق، وأزقتها في كل زقاق حكاية، والحكاية مستمرة حتى التحرير.
ولكل يوم من أجندة العام، هو يوم فلسطين، يوم القدس، ويوم حيفا ويافا ونابلس ورام الله وغزة والخليل والجليل وعكا، والنقب، وكل شبرٍ منها، وإحياء أيامها ليس بإطلاق المناسبات الاحتفالية بهذا اليوم أو ذاك، بل إحياء أيامها يتطلب تضافر كل الجهود، بالتبرعات والدعاء والاحتضان، لأن فلسطين هي كرامة وشرف هذه الأمة، وبدونها لا أمة تسمو بين الأمم، وإن كنت أمثّل بموقعي الوظيفي حضور فعاليات تتعلق بها، إلا أن خطابي حينها يكون يمثل الجهة التي أعمل بها، ولا يمثل بالضرورة قناعاتي الخاصة التي أفرد لها منابري الخاصة التي تعبّر عمّا يجول في خاطري من مشاعر وحب نما معي وكما يقول (كل شبر بنذر) منذ نعومة أظافري وأن حي بفلسطين وفلسطين حية بداخلي لا تموت إلا بموتي، وهنا استحضرتني ذاكرتي، لأسرد موقف حصل معي وأنا صغير، كان والدي الشهيد بدر عبدالله القطان، حريصاً على إلباسي أنا وأخي الوشاح الفلسطيني في كل مناسبة تخص فلسطين، في نقابة العمال الكويتية حيث كان والدي أحد أعضائها البارزين والناشطين فيها، فقد كانت القضية الفلسطينية تعني لوالدي الكثير وكان يشرّبنا هي بكل تفاصيلها، وعندما نقول فلسطين، نستحضر العملاق الوطني مارسيل خليفة وكنا نردد في طفولتنا دائماً (منتصب القامة أمشي)، بالتالي، المواقع الرسمية ليست دائماً المكان المناسب للتكلم عن المشاعر الخاصة، وغالباً لا تعكس حقيقة ما يدور في داخل كل شخصٍ منا.
يوم القدس، هو يوم كل العرب وكل المسلمين حول العالم، القدس ليس حكراً على أحد ولا حتى هي ملك أهلها، هي ملك كل غيور على هذه الأمة ومقدساتها، ومن نادى بالقدس لم يكن بالأمس، بل بدأ منذ ثلاثينيات وأربعينات القرن الماضي، والعالم متنبّه لما يُحاك ضد هذا البلد العظيم المقاوم، لكن مع الأسف ودائماً ما أكرر، إن كان الغيارى مغيبين عن تاريخ أمتهم فلن يستطيعون ربط الماضي بالحاضر، ومهمتي التي أسطر ليست باليسيرة، فدائماً ما أحاول تبسيط هذه المعلومات التاريخية وزرعها في عقل المتابع ليعرف تاريخ هذه الأمة العريف والمتجذر، فمن لا ماضٍ له لا حاضر يعيش فيه، وكان أول من حمل لواء القضية الفلسطينية، أمير البيان، الأديب شكيب أرسلان (1869 – 1946)، لقد كان أرسلان سوريّاً ومصرياً وفلسطينياً وليبياً وجزائرياً وسعودياً، لقد كان عربياً بكل ما للكلمة من معنى، حتى أنه كان عثمانياً، ويعد الأمير من أوائل الذين تنبهوا للخطر الصهيوني قبل حلول نكبة 1948 بأعوام عديدة أي قبل وعد بلفورالمشؤوم 1917، فشهر قلمه وفكره وكتب مئات المقالات لفلسطين ولم يبخل بوقته فجال شرقاً وغرباً من أجل فلسطين والعروبة والإسلام، أيضاً كلنا يعلم عن المشروع الإسلامي الذي أحياه وجدده الإمام حسن البنّا (1906 – 1949)، ووضع له مسارات وإستراتيجية خاصة مع إحساسه المبكر بخطر الكيان الصهيوني الذي يستهدف فلسطين، وبدأ يُنبِّه لهذا الخطر الشديد منذ عام 1929م محذراً من تصاعد الخطر اليهودي في فلسطين، ومشيراً إلى “أن اليهود تنتبه مطامعهم أمام غفلة المسلمين”، مبيناً ذلك في مقالاته ورسائله التي كتبها منها ما كتبه في عام 1930 أبدى فيه عدم رضائه عن ردود أفعال المسلمين في مواجهة هذا التحدي؛ لأنها لم تزد عن الاحتجاجات، وأن خطة اليهود تقوم على الاستحواذ عليها بالقوة وطرد أهلها، وهنا لا بد من القول إن الجيوش العربية لم تكن جادة في تحرير فلسطين، لأن الأنظمة التي كانت تحكمهم آنذاك كانت من صنيعة الاستعمار، بالتالي كان شغلهم الشاغل ليس تحرير فلسطين بل تصفية كل من ينادي بالتحرير كالشهيد البنّا والشهيد سعادة.
وفي وقتٍ كان الكثير في غفلةٍ عما يُدبَّر حتى إن رئيس وزراء مصر عندما سُئل عن الاضطرابات الحادثة في فلسطين أجاب أنه رئيس وزراء لمصر وليس لفلسطين، في هذا الوقت المبكر استوعب الإمام الشهيد أبعاد المشروع الصهيوني والمعلومات المرتبطة به، ليبدأ التواصل الميداني مُذاك الوقت، حدد الإمام الشهيد الرؤية والمنطلق والثوابت بشأن هذه القضية؛ حيث ينطلق الإخوان المسلمون في تعاملهم مع القضية الفلسطينية من حقيقة أساسية جوهرها: أن أرض فلسطين هي أرض عربية إسلامية، وقف على المسلمين جميعاً حتى تقوم الساعة، يحرم التنازل عن شبر واحد من ثراها مهما كانت الضغوط، فهي بالتالي أمانة في أعناق أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل حتى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومَن عليها، وأن قضية فلسطين هي قضية العالم الإسلامي بأسره وليست قاصرةً على أهلها الفلسطينيين، وأن المقاومة بكل أبعادها ومحاورها هي الطريق لاسترداد أرض فلسطين؛ فاليهود لا يفهمون إلا لغة القوة، ليس أولها حشد المقاومين، ولا جمع التبرعات، وهو ما عرف لاحقاً باسم “التنظيم السري”، ما يعني أن فلسطين والقدس كانت حاضرة منذ ذاك الزمن.
ليس الإمام البنّا من تنبّه لخطر الكيان الصهيوني وحده فقط، فبينما هو يشحذ الهمم ويعد العدد لغاية نبيلة، كان هناك في الشام من رأى ما رآه البنّا نفسه، وهو الزعيم أنطون سعادة (1904 – 1949)، الذي نادى بوحدة الأرض شعباً وأرضاً وعقيدةً، وعاند بقوّته التقسيم منذ وعد بلفور واتفاقية سايكس – بيكو، كان يرى في إنقاذ فلسطين، إنقاذاً لسوريا الكبرى، الزعيم أنطون سعاده مثّل قامة فكر مقاوم إلى حدّ بذل النفس في سبيل القضية. ورّث المقاومة فكراً وعملاً لأجيال، وتخرّج من مدرسته الشهداء دفاعاً عن لبنان وسوريا وفلسطين، واجه بقوة الكلمة والفكر والموقف وبالنار والحديد الفكر الاستعماري والاحتلال الفرنسي والمشروع الصهيوني والهيمنة الأميركية ودعاية الإمبريالية وخيانة الأنظمة، فكانت القدس حاضرة في خطبه وكتبه ومقالاته، حباً وعقيدة لا تملّقاً كساسة اليوم من ساسة السلطات خصوصاً، المقاومة الواعية الهادفة التي تحرّر الأرض والإنسان وتضمن الخير والارتقاء وتحقيق الأهداف، فهو القائل: “لا خير ولا ارتقاء… من دون الأرض” والمقاومة التي نظر لها وعمل وفقها هي المقاومة القوية التي تنبثق من قوة الأمة لتحفظ الحق وتقاتل لأجله، وهنا يعتبر سعادة أنّ “الحق القومي لا يكون حقاً في معترك الأمم إلا بمقدار ما يدعمه من قوة الأمة، فالقوة هي القول الفصل في إثبات الحق القومي أو إنكاره”.
كان سعادة والبنّا يحملان قضية واحدة رغم المسافة التي تفصل بينهما، لكن كل منهما من موقعه، تنبّها للخطر القادم إلى هذه الأمة ومن يقرأ التاريخ جيداً يعرف تماماً أن يوم القدس هو يوم العرب والمسلمين والمؤمنين جميعاً، وكل من يحب فلسطين هو زعيم هذه القضية، فلقد تولّوا الاهتمام بهذه القضية من منطلق عروبي وديني وقومي وفكري ولو فينا أحد قارئ لعرف أن يوم القدس رفعه هؤلاء من أربعينيات القرن الماضي، وغيرهم الكثير، وهنا لا بد من القول إن السبب الرئيس لسقوط الخلافة العثمانية المتمثلة بالسلطان عبد الحميد الثاني (1868 – 1944)، هو عدم موافقته بيع القدس، بخلاف ترويج المستشرقين، السلطان عبد الحميد كان مناصراً للقضية الفلسطينية وكان ضد العصابات الصهيونية، لكن الغرب الاستعماري تآمر عليه، وزوّر تاريخه كي يشوهوا صورته لأن هكان حجر عثرة في طريق التمدد الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المباركة.
السلطان عبد الحميد: (لا أستطيع أنْ أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة، لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي، وأسلافي قاتلوا من أجل هذه الأرض ورووها بدمائهم، فليحتفظ اليهود بملايينهم).
اليوم فلسطين هي أمانة في أعناقنا، والخطابات والشعارات لن تحررها، رغم أن لها وقعها المعنوي لكنها فعل مقاوم كل حسب استطاعته وذلك بإحياء أمجاد هذه الأمة وإحياء حب فلسطين في نفوس الجميع، فيوم القدس يومنا كلنا نادى به الزعماء العرب وتتالت المناداة لغاية نبيلة هي فلسطين قضيتي وقضية الأمة العربية والإسلامية وكل عشاقها حول العالم.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.