في أجواء فقهية صوفية تقليدية، في السودان، وفي بيت علمٍ وقضاء، أفاض عليه والده الذي كان يعمل قاضياً شرعياً، بعلم أصول الفقه، وأولى اهتماماً خاصة باللغة العربية التي مكنت شخصيتنا لليوم من حفظ القرآن الكريم، بعدة قراءات في سنٍّ صغيرة، كما أتاحت حياة التنقل برفقة والد هذه الشخصية فرصة التعرف على الكثير من مدن السودان العريقة وقبائلها الأصيلة، هذه العوامل جعلت المفكر السوداني، حسن الترابي (1932 – 2016) مثالاً فريداً في زمانه.
وما إن تخرج المفكر حسن الترابي من كلية القانون، حتى حصل على منحةٍ لدراسة الماجستير في جامعة لندن، وعاد إلى السودان بعد أن أنهى درجة الماجستير وأصبح مدرّساً في جامعة الخرطوم، حيث التقى بالسيدة “وصال المهدي” طالبته في كلية القانون، وشقيقة صديقه آنذاك، السيد الصادق المهدي، إمام الأنصار، والذي أصبح فيما بعد زعيم حزب الأمة السوداني، بالتالي، ومع عودة الترابي، ومن خلال الأجواء السياسية المحتدمة التي ظهر فيها، أعاد الحياة للحركة الإسلامية والتي شهدت منذ بدايتها، مشكلة الجنوب حيث اندلعت الحرب الأهلية، قبيل استقلال السودان، في العام 1956، وقبل أن يتولى الفريق إبراهيم عبود، الحكم.
وما إن سقط حكم عبود نتيجة المظاهرات ضد سلطته آنذاك وبعد مضيّ بضعة شهور فقط، حتى استقال الدكتور حسن الترابي، من الجامعة، ليدخل معترك السياسة من أوسع أبوابه، في منتصف الستينات من القرن الماضي، بحزبٍ أطلق عليه اسم، “جبهة الميثاق الإسلامي” وذلك خلافاً للتسمية المعتادة للحركة الإسلامية المرتبطة بـ “الإخوان المسلمين”، رغبةً منه في تجنب تعريضها للمعاناة التي كانت تشهدها حركة الإخوان في مصر آنذاك، حيث خاض الترابي باسم “جبهة الميثاق الإسلامي” غمار معركة الانتخابات البرلمانية في العام 1965، في ساحة أقل ما يمكن وصفها بأنها ساخنة جداً، تسيطر عليها قوى الحزب الشيوعي، بالإضافة إلى وجود طائفتي الأنصار والختمية واللتين تدعمان حزب الأمة والحزب الاتحادي الوطني.
تمكن حزب الأمة من السيطرة على العدد الأكبر من مقاعد البرلمان ليكون الحزب الأول، فيما تلاه حزب الاتحاد الديمقراطي، وحل الحزب الشيوعي في المرتبة الثالثة من حيث عدد الأصوات، من هنا، بدأ الترابي بإقامة التحالفات داخل البرلمان، وذلك لمواجهة الحزب الشيوعي وموازنة ثقله، كما تم انتخابه على رأس لجنةٍ لكتابة الدستور السوداني، فيما بدأ سنته الأولى في البرلمان كشخصية مثيرة للجدل، ومع خروج الشيوعين من المشهد السياسي، لم يحتملوا فكرة احتمال وصول الترابي بحركته، ليكون الحزب الأول في الانتخابات المقبلة كما كانت تشير المعطيات آنذاك، فاختاروا أن يقطعوا عليه الطريق وذلك بانقلابٍ عسكري، تم ترتيبه حيث وضع جعفر النميري في مقدمته.
بالتالي، تم تأسيس الجبهة الوطنية آنذاك كمعارض سياسي خارج السودان، وعقب التأسيس بسنوات ترأسها السيد الصادق المهدي بعد أن أفرج عنه من منفاه في القاهرة، والذي كان قد سجن فيه عقب ما لقيه الأنصار من تنكيلٍ على يدي النظام آنذاك، فقضى عليهم النميري في مواجهة عسكرية دامية، انتهت معها المهدية، فيما أبقى على الترابي في محبسه في سجن كوبر بالسودان، فباتت الساحة خالية من الإسلاميين، وهذه فرصة استغلها الشيوعيون الذين رأوا بأن الوقت قد حان للانقلاب على حليفهم النميري، ويستولوا على السلطة.
إلا أن ثورة شعبان التي تم التخطيط لها، فشلت في إسقاط حكم النميري، وبقي حسن الترابي أسيراً لديه، فيما استمر العمل بمحاولة إسقاط النظام عبر الجبهة الوطنية السودانية المعارضة التي تطورت من تحالف سياسي إلى تحالف عسكري.
كان السجن ذاك الفسحة التي أكسبت المفكر حسن الترابي المجال للتأليف، ومنذ أولى مؤلفاته برز الترابي كمفكر وسياسي في آنٍ معاً، فكتب كتابيه، “قضايا الوحدة والحرية، وتجديد أصول الفقه”، أتبعهما بكتابي، “تجديد الفكر الإسلامي، والأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة”، وكان في كل ذلك ينزع إلى التجديد والتأصيل، فكتب كتاب “تجديد الدين” كما كتب في الإيمانيات، فكان كتابه “الصلاة عمود الدين”، وقد انشغل الترابي بموضوع الحكم والتجربة السياسية، فكتب كتابه “السياسة والحكم”، كما كان مغرماً ومسكوناً بقضية التوحيد، فعكف على مؤلفه الذي لم يكتمل مع شديد الأسف، “التفسير التوحيدي للقرآن الكريم”، بالتالي يمكن تلخيص فكر الترابي بكلمتين عكف طيلة حياته على الاهتمام بهما هما “التوحيد والتجديد”.
ومع حرص الدكتور الترابي على نشر أفكاره تنظيراً، حرص أيضاً على بث الحياة فيها، وتطبيقها في أرض الواقع، وعلى هذا المنوال، استمر في تنفيذ استراتيجية التمكين، التي أطلقها مستغلاً لوجوده في نظام جعفر النميري، ففي العام 1983، تمكن الترابي من إقناع النظام القادم على رأس انقلاب شيوعي، من تطبيق الشريعة الإسلامية، لكن لم ترضَ قطاعات واسعة عن تلك القاونين، مثل مسألة تحريم الخمر وتمكين المرأة من الحياة السياسية وفق ضوابط شرعية، حيث عرفت هذه القوانين فيما بعد، بقوانين “سبتمبر” بحسب ما سمّاها معارضوها، وعلى رأسهم السيد الصادق المهدي، والأستاذ محمود محمد طه، والذي أعدم بتهمة “الردّة” آنذاك، وكان قد أدخل الدكتور الترابي الردة في القانون الجنائي السوداني.
استمر الترابي، في نظام النميري، نائباً عاماً ووزيراً للخارجية، ورافقه في سفره، فكان يجتمع ويلتقي بالناس معبراً عن أفكاره بلغتهم التي أتقنها، حيث كان يعرف الانكليزية والفرنسية والألمانية، فانتبه الغرب له، فيما بدأ النميري يشعر بمنافسة الرجل له، فحرضت الولايات المتحدة النعيمي ضد الحركة الإسلامية وتصفية رموزها، على إثر ذلك تم اعتقال الترابي، وخلال أيام قليلة حتى خرج الناس إلى الشارع ضائقين ذرعاً بما وصل له السودان من غلاءٍ في الأسعار وصعوبة في الأوضاع المعيشية، وما حصل في الجنوب، تقودهم النقابات والاتحادات والأحزاب، منتفضين في وجه حكم النميري، فأعلن وزير دفاع النظام آنذاك، المشير عبد الرحمن سوار الذهب، انحياز القوات المسلحة السودانية للشعب، معلناً نهاية حكم جعفر النميري، واستلام سوار الذهب.
لكن سريعاً ما تنازل سوار الذهب عن السلطة، ولاحقاً تم انتخاب الصادق المهدي، ليكون رئيساً للوزراء، والذي أصبح في مواجهة مباشرة مع الترابي، الذي انخفضت شعبيته لما كان له من ارتباطٍ بنظام النميري.
بالتالي، لم تكن المنعطفات التي مر بها الترابي، منذ حكم إبراهيم عبود حتى انتهاء حكم جعفر النميري، سوى سحابة صيف في ظل الأحداث السياسية المتلاحقة التي عصفت به، فيما تلا من سنوات.
لاحقاً قام الترابي بتشكيل الجبهة الإسلامية القومية، ورغم عدم فوزه شخصياً بالانتخابات، إلا أن حزبه تمكن من دخول البرلمان، في ظل الحكومة بقيادة الصادق المهدي، في الوقت الذي كانت استراتيجية الترابي قائمةً وتنتشر في قواعد الشعب السوداني، وفي العام 1989، شهد السودان انقلاباً عسكرياً أطاح بحكومة الصادق المهدي، لكن هذه المرة على يد الحركة الإسلامية ومن ورائها حسن الترابي، وفي مقدمتها عمر البشير.
فكان على الترابي الذي اختار أن يحكم من الكواليس، مواجهة التحدي الأصعب للتوفيق بين عناصر وأجهزة تدير الدولة في الظاهر، وبين قيادة الحركة الإسلامية التي توجهها في الباطن، فيما بات يُعرف بالسودان “بين القصر والمنشية”، أي بين مقر السلطة ومقر الترابي، وفيما كان القصر الجمهوري في السودان يمارس بروتوكولات الدولة، ظل حسن الترابي يحكم من بيته، الذي أصبح قبلةً للملتفين حول أفكاره، وعلى الرغم من تطلع الحركات الإسلامية الناشئة لتجربة الدكتور حسن الترابي، واستقباله لهم، إلا أن علاقته بالتنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين، ظلت متوترة وشابها الخلاف.
وواصل الترابي رحلاته منطلقاً بعلاقاته من الإقليم العربي والإسلامي إلى العالمية، يحمل أفكاره ويطرق باب الحوار مع الآخر، حتى دعاه الكونغرس الأمريكي لإلقاء كلمةٍ فيه فلم يتردد، وبعدها صدر له كتيّب صغير بعنوان “الترابي يحاور الغرب” يشرح أهمية هذه الرحلة، ولكن حدث أمر فهم على أنه محاولة أمريكية لاغتيال الترابي في كندا، دخل على إثرها في غيبوبة لعدة أيام، دون تدخل من الشرطة الكندية، ما أكد محاولة الاغتيال تلك.
بعد ذلك رفض الدكتور الترابي التدخل الأمريكي بحجة حماية الكويت، ونتيجةً لهذا الموقف، فُرضت على السودان عقوبات عديدة، فيما استمر الغرب منزعجاً من الترابي بسبب علاقاته الموتورة حسب وصفهم إن كان مع قادة حماس أو إيران، وحركة تونس وأغلب الحركات الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، لكن دخول كارلوس إلى السودان، شكّل تحدٍّ جديداً كان على الترابي مواجهته، خاصة وأن كارلوس كان مطلوباً لكثير من الجهات وخصوصاً فرنسا، وأما فيما يتعلق بعلاقة الترابي بأسامة بن لادن، فكانت جداً محدودة وكانت في سياق الأعمال في مجال الزراعة آنذاك، ولم تكن هناك أية صلة بما يخص مستقبل بن لادن فيما بعد، لكن الغرب حاول اتخاذ دخول كارلوس وبن لادن إلى السودان كذريعة لاتهام الترابي بأنه يدعم الإرهاب.
لكن لم تكد تستقر الأمور، حتى فجرت حادثة جديدة كادت أن تودي بالسودان عندما تم اتهام حسن الترابي بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق، محمد حسني مبارك، وإلى جانب كل الأحداث المتلاحقة في العشرية الأولى لحكم الإنقاذ، كان على الترابي مواجهة الكثير من التحديات الداخلية، وفي مقدمتها مشكلة الجنوب، ورغم صمود مشروع الترابي في وجه العواصف الخارجية التي أحاطت به، إلا أنه تمكن من التعامل معها، وكان عليه التعامل مع صراعٍ اشتد بمرور الوقت وتوجيه الدفة لمشروعه بالاتجاه الذي يريد، لكن وقف البعض في وجهه من أبناء الحركة أنفسهم لتقليص دوره، لأن ما نادى به مثل خلع البزات العسكرية وانخراط العسكر بالحالة المدنية لم يعجب البعض، ونادوا بتقليص دوره كأمين عام للحركة ما يعني تقليص فرص التغيير وجاء ذلك بما عرف حينها بـ “مذكرة العشر” وهذا ما يمكن تسميته بانقلاب داخلي، فكان رد الترابي أن سعى إلى ثورة دستورية داخل النظام نفسه.
قدم الترابي فكرتين للخروج من مأزق المفاصلة، أولها الحوار الوطني، وهو ما استجاب لها الرئيس عمر البشير، فيما طرح فكرة أخرى سماها المنظومة القائمة أي فكرة تجميع كل الأحزاب تحت راية الإسلام، وبعد 15 عاماً في مركب المفاصلة إن جاز التعبير، اختار الترابي أن ينهي الخلاف ويطوي صفحته وعاد الحوار مجدداً في رحلة طويلة وشاقة شارفت على نهايتها.
المفكر الدكتور حسن الترابي، شخصية أثارت الجدل، بحفاظه على الدين الإسلامي وتطوير منظومة الحياة الحديثة بما لا يعيق تطبيق الشريعة الإسلامية، خصومه ضاق بهم أن يجمع هذا الشخص بين الاثنين، فأرادوه ان يحدد موقفاً إما التشدد الأعمى أو الانفتاح الكبير، لكن التوازن الذي حظي به عندما قرأ الآخر وطبق نظرية الحرية والديمقراطية من منظورٍ إسلامي، هو أمر كبير على أن يفهمه الجهلة الذين يرون في الحياة السياسية مجرد عبور لمناصب أعلى غير آبهين بحياة الناس ومتطلباتهم، فدفعوا بأبنائهم إلى الموت، إلا الترابي الذي ترك للآخر حق تقرير مصيره كما حدث في انفصال جنوب السودان عن شماله، هذه الشخصية الإسلامية المنفتحة من الصعب أن تتكرر وهو الذي أفنى عمره كله لأجل قضية لا قبلها ولا بعدها، هي عزة ونصر الإسلام للحفاظ على الأوطان.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.