رسائل احتفالات الفلسطينيين فى أرجاء وطنهم المحتل داخل الخط الأخضر (إسرائيل) وخارجه (الضفة الغربية وقطاع غزة) وفى المنافى المنتشرة فى أنحاء المعمورة بالذكرى الخامسة والأربعين لـ “يوم الأرض” الاثنين 30 مارس الفائت لن تمر هباء لا بالنسبة لمن بيدهم مقاليد قيادة كيان الاحتلال الإسرائيلى ولا بالنسبة لمن يهيمنون، أو يعتقدون أنهم يهيمنون، على القرار الوطنى الفلسطينى فى السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة بتياراتها المتناحرة. فالشعب الذى يخرج كل عام، مدعوماً بالأحرار من كافة دول العالم، ليحيى ذكرى “يوم الأرض” ليؤكد تمسكه بأرضه وهويته الوطنية، وبحتمية العودة إلى فلسطين واندحار المشروع الصهيونى، خرج هذا العام ليجدد هذه الرسائل وليؤكد على حقيقة حرص على أن تصل للقادة الفلسطينيين وهم يتصارعون على الانتخابات التشريعية المقرر أن تجرى يوم 22 مايو المقبل، تقول أن ما أفرزته الانتخابات العامة الإسرائيلية التى جرت يوم الثلاثاء (23 مارس 2021) من نتائج يؤكد أن كيان الاحتلال الإسرائيلى يتجه من إفلاس إلى جمود ومن جمود إلى فشل ومن فشل إلى تداعى يدفعه دفعاً إلى نفق مظلم مسدود ومصير لم تعد معالمه خافية على أصحاب العقول فى هذا الكيان، وأن المطلوب من الفلسطينيين الآن، أكثر من أى وقت مضى، هو الصمود على المشروع الوطنى الفلسطينى الذى يجب أن يكون الوجه النقيض للمشروع الصهيونى الذى يعكسه بجدارة حالياً تيار اليمين الإسرائيلى المتطرف الذى تؤول إليه الآن مقاليد القيادة فى كيان الاحتلال بزعامة حزب الليكود وعلى الأخص حزب “الصهيونية اليهودية” الذى يقوده بتسلئيل سموتريتش الذى وضع لبناته الأولى الحاخام العنصرى “مائير كاهانا” والذى كان أحد تلاميذه “جولد شتاين” الذى نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمى عام 1994.
فإذا كان حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو هو الذى صاغ وأقر ما يعرف بـ “قانون القومية” العام قبل الماضى، وهو القانون الذى يؤكد على أن “أرض إسرائيل (فلسطين) من نهر الأردن إلى البحر المتوسط يجب أن تكون لشعب واحد هو الشعب اليهودى دون غيره” أى إقامة دولة بدون مواطنين فلسطينيين، وإذا كان “حزب الليكود” قد وضع على رأس برنامجه الانتخابى (انتخابات مارس 2020) ضرورة “العمل من أجل إقامة إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل” فإن حزب الصهيونية اليهودية الذى يحمل أيضاً اسم “القوة اليهودية” بزعامة بتسلئيل سموتريتش يقود الدعوة حالياً إلى إقامة “إسرائيل الكبرى” وعدم السماح مطلقاً بإقامة دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب إسرائيل، ويتعامل بازدراء مع مفاهيم من نوع: التمييز العنصرى والعرقى، وحرية التعبير، والديمقراطية، والليبرالية، ويعتبرها “مفاهيم كاذبة ومضللة تعزز من قدرة العدو (الفلسطينى) على الانتصار”، ليس هذا فقط، ولكن يقول فى فقرة من برنامجه الانتخابى الذى خاض به انتخابات الشهر الماضى ما نصه: “نحن فى حزب الصهيونية اليهودية (القوة اليهودية) نعترف بوجود مشكلة ديموغرافية (سكانية)، لكننا مصممون على معالجتها بالقوة والإرادة. ولذلك لقد ألزمنا أنفسنا بتحقيق الوجه الحقيقى لأطفالنا من خلال مواجهة التحديات، لا من خلال تجاهلها، ومن خلال ضرب العدو وهزيمته لا من خلال الاستسلام له، ومن أجل القتال من أجل الدولة اليهودية”. ويزيد على ذلك فى فقرة أخرى “أن ذلك يتحقق من خلال تشجيع الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، ومواصلة الاستيطان، وتهجير العدو (الفلسطينى) من أرضنا”. هذا الحزب الفاشى الذى حصل على 6 مقاعد متحالفاً مع حزبين فاشيين آخرين هما حزب “عوتسماه يهوديت” وحزب “نوعم” يعتبر الحليف الرئيسى لبنيامين نتنياهو، ويكمل بتطرفه ما سبق أن تضمنه حزب البيت اليهودى بزعامة نفتالى بنيت فى برنامجه الانتخابى عام 2006 من إعلاء لشعار “لا حاجة للإعتذار” والتى كانت تعنى أن “على اليمين الدينى أن يخرج من حالة الدفاع عن النفس والاعتذار عن وطنيته، وعن إخفاء حبه لإسرائيل، وتمسكه بمشروعه الاستيطانى، وأن يعلن إيمانه العميق بالقيم اليهودية وبتفوق إسرائيل العسكرى”.
لم يغير نفتالى بينيت من تعنته وتجاوزه لكل الممنوعات من أجل إقامة “إسرائيل الكبرى” وهو الآن ينافس بنيامين نتنياهو على قيادة الحكومة المنتظرة متزعماً لحزب “يمينا” الذى فض تحالفه مع سموتريتش زعيم الحزب الصهيونية اليهودية ليتحرر من قيود سموتريتش وتحالفه مع نتنياهو لا لشئ إلا لأنه يريد أن يكون الزعيم الجديد لإسرائيل بدلاً عن نتنياهو، على قاعدة المزيد من التشدد اليمينى بل والتطرف فى استخدام كل ما لا يجوز استخدامه لتحقيق مشروع “الدولة اليهودية الكبرى”.
وإذا كان “التطرف” هو المفارقة الأولى التى كشفتها معركة الانتخابات العامة الإسرائيلية الأخيرة فإن “الجمود” هو مفارقتها الثانية فالنتائج التى أفرزتها هذه الانتخابات لم تأت بجديد يخالف نتائج الانتخابات السابقة، ربما يكون الجديد هو تدنى معدلات التصويت سواء بالنسبة للناخب اليهودى أو بالنسبة للناخب الفلسطينى. والجمود الذى نعنيه هنا له وجهان، الأول أنه، وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات هى الرابعة على مدى عامين فقط إلا أنها لم تقدم لإسرائيل حزباً أو تكتلاً قادراً على القيادة وتشكيل الحكومة، وربما يكون الحل هو اللجوء إلى انتخابات أخرى خامسة أملاً فى الخروج من هذا الجمود، حيث لم يستطع بنيامين نتنياهو حتى الآن تشكيل تكتل يحظى بأكثر من 52 مقعداً من إجمالى 120 مقعداً، ولم يستطع الطرف الآخر المناوئ الذى يتزعمه “ياثير لبيد” زعيم حزب “يش عتيد” (هناك أمل) من جمع أكثر من 57 نائباً فقط وسيظل الطرفان فى حاجة ماسة إلى “ابتلاع السم” والقبول بالتحالف مع طرف عربى وبالتحديد “القائمة العربية الموحدة” (الحركة الإسلامية الجنوبية) التى انشقت عن القائمة العربية المشتركة وقبلت الدخول فى شراكة حكومية مع الأحزاب اليهودية فى مفارقة ثالثة مع معتقدات تيار التطرف اليمينى الذى يتعامل مع العرب فى فلسطين باعتبارهم “الأعداء الذين يجب التخلص منهم بالقضاء عليهم”. أما الوجه الثانى للجمود فهو عجز كيان الاحتلال عن تقديم قيادة بديلة لبنيامين نتنياهو المتهم بـ “خيانة الأمانة” و”جرائم مخلة بالشرف” والذى يؤكد يوماً بعد يوم أنه على استعداد للتحالف مع الشيطان ليبقى رئيساً للحكومة كى يفلت من المحاكمة.
المفارقة الرابعة وسط هذا كله كشفها بجلاء مدير معهد أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى الجنرال فى الاحتياط “أودى ديكل” فى تقرير نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية الذى تحدث عن التهديد النووى الإيرانى باعتباره “تهديداً آجلاً” بالنظر إلى ما اعتبره “التهديد العاجل” متمثلاُ فى هجوم صاروخى من جبهتى الشمال (حزب الله فى لبنان) والشرق (سوريا حيث توجد ميليشيات موالية لإيران) مدعوماً بالقصف الصاروخى للمقاومة فى قطاع غزة. فقد اعتبر الجنرال “ديكل” أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية هى “نقطة ضعف مصيرية فى قدرة الدولة على مواجهة معارك قتالية مطولة”. حقيقة تتعارض كلية مع كل أكاذيب تحول إسرائيل إلى “قوة عظمى إقليمية” وتؤكد العجز عن مواجهة التحديات فى كيان يزعم التفوق المطلق فى القوة العسكرية .
أربعة مفارقات إسرائيلية كبيرة ارتبطت بالانتخابات العامة الإسرائيلية التى تزامنت مع إحياء الشعب الفلسطينى لذكرى “يوم الأرض” الذى يعنى “الصمود والأمل فى العودة والتشبث بها”، لا ينافسها غير المفارقة الخامسة التى كشفتها صراعات الانتخابات الفلسطينية المبكرة والتى تقول أن القيادات الفلسطينية مازالت عاجزة عن قراءة وفهم تحولات مجرى الصراع مع كيان الاحتلال الإسرائيلى .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام 6 / 4 / 2021م