توقفنا في الجزء الأول عند اللمحة العامة عن مآثر الإمام الصادق ونشأته، واليوم نلج إلى التركيز على العلم الوافر الذي امتاز به الإمام الصادق عليه السلام وكان بحق من رسم خريطة علم متكاملة.
إلى جانب العلوم الدينية، امتد الأمر إلى العلوم التجريبية أيضاً، وهذا يعيدنا إلى مقالاتنا السابقة عن أبو الريحان البيروني والاهتمام آنذاك بعلم الفلك والفلسفة والجغرافيا والطب وسائر العلوم المختلفة، لم يهتم الإمام فقط بعلوم الدين، بل وظّف بعض العلوم لإثبات التوحيد، وعلاقة الدين بباقي العلوم، وهنا لا بد أن نستحضر مثالاً عن تلميذه جابر بن حيان، عالم الكيمياء، إذ ذكر بن حيان في بعض رسائله أن الإمام الصادق له فضل عليه في علمه بالكيمياء، ما يعني أن الأمور العلمية كانت تسير جنباً إلى جنب مع العلوم الدينية.
وبالتالي إن آل البيت عليهم السلام، مدرسة نهل منها جميع المسلمين، وهي امتداد وانعكاس صادق لمدرسة النبوّة، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، ولا ننسى أن الإمام جعفر بن محمد الصادق كان يقول كما قال جده الإمام علي عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني)، إن الإمام هو أحد أعلام المدرسة الربانية، الذي أتاح له عصره أن ينشر فيها من العلوم ما شاء الله له أن ينشر شرقاً وغرباً، والبحث في سائر العلوم سنتطرق إليه تباعاً، والأحاديث التي رواها، كلها وردت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وسنن النسائي وأبي داوود وأبن ماجه ومسند الإمام أحمد بن حنبل وموطأ الإمام مالك بن أنس، فكان هناك أحاديث في العقائد والعبادات والمعاملات وموضوعات أخرى، لكن للغوص في هذه المرويات لا بد بدايةً أن نتعرف على الظروف السياسية التي عاصرها الإمام جعفر بن محمد الصادق.
ولد الإمام الصادق في عهد عبد الملك بن مروان، وعاصر بعض ملوك بني أمية، فكان ذلك العصر مليء بالفتن والثورات والاضطرابات حتى نهاية الدولة الأموية وبدء الدولة العباسية التي بذلت آنذاك جهوداً كبيرة لإرساء الاستقرار السياسي، وقد ترك الإمام الصادق، السياسة، وابتعد عن طريقها، وعكف على العلم، كما العبادة، لكن رغم ذلك الاضطرابات السياسية لم تتركه في حاله، فلقد عاصر ثورة عمه زيد بن علي ضد هشام بن عبد الملك، وبالتالي إن المتتبع للوضع السياسي في تلك الحقبة، يرى أن الاضطراب العقائدي والأخلاقي كان سمة من سمات ذلك العصر، حيث كاد زيد بن علي أن ينتصر على الأمويين لولا وقوع الفتنة بين أتباعه، وقد روى الطبري أن (أتباع زيد دخلوا عليه مرة فقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟ قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما، ما سمعت أحداً من أهل بيتي يتبرأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيراً) وبصرف النظر عن هذه الواقعة التي كانت عبارة عن خدعة للفتنة، لكن كان رده بليغاً وكما نقول دائماً إن مدرسة آل البيت عليهم السلام، كانت تنبذ الفتن والتي هي في عصرنا الحالي “مرض الطائفية”، لكن خلاصة القول في هذه الفترة أن الأوضاع كانت صعبة على الإمام جعفر الصادق عليه السلام، حيث ترتب عليها التضييق عليه وعلى رواية الحديث عنه وبالتالي قلة الأحاديث الصحيحة عنه.
أما في العصر العباسي، حرّك العباسيون العواطف بقوّة، وحاولوا إقناع الناس بأن الهدف من دعوتهم هو الانتصار لأهل البيت، الذين تعرّضوا للظلم، والاضطهاد، ونجح العباسيون إلى حد ما لأن الناس حينها ملت الاقتتال والفتن والثورات، وكانوا يترقبون ظهور الحق على يد أهل بين النبوة، وكنا قد أشرنا في بداية نشوء الدولة العباسية في الجزء الأول عن الثورات والفتوحات والمعارك قبيل الاستقرار، فلم تكن بداية خلافتهم معبدة بالورود، وبالتالي التزم الإمام الصادق بالمستجدات السياسية ووقف منها موقف الحياد، لكنه واصل العمل في نهجه السابق وأخذ يتحرك بقوة ويوسع من دائرة الأفراد الصالحين تحقيقاً لهدفه وهو بناء الإنسان، هذا البناء أيها الأخوة هو أساس نهضة أي أمة، من يزرع يحصد، من يؤمن بأن الإنسان كائن مؤمن تستطيع أن تبني منه مشروعاً حياً لا ينضب إلى نهاية الرحلة، لذلك أشدد دوماً على ان بناء الإنسان لأهم بآلاف المرات من كنز الذهب والفضة، لأهم من السياسة وتشعباتها، والبناء بالعلم والدين والتقوى والمحبة.
وبعد أن تولى أبو جعفر المنصور الحكم خلفاً لأخيه أبي العباس السفاح علم 136 هـ، بالغ بالتضييق على الإمام جعفر بن محمد الصادق، فمثلاً استقدم العلماء ليغطوا على علمه، لإضعاف الانجذاب الجماهيري نحوه، لكن الصادق بقي على حياده، ومكملاً في نهجه، وهذا يبين لنا أنه ما كان يخشى إلا الله تبارك وتعالى وكان ضد السلاح بل بناء المجتمعات كما أشرنا أعلاه لا بد أن يخرج من المجتمع نفسه وذلك بالعلم والإيمان لأنهما كفيلان بالقضاء على الجهل، لنتأمل هذه الحكمة وهذا التفكير “أفلا تتدبرون”، سبحان الله جل جلاله، بين الحرب والسلام يقف رجل إما يأخذ شعبه إلى التهلكة، أو ينقلهم إلى بر الأمان، وعندما يكون الإنسان مصمم على تحقيق هدفه لا يقف شيء عائقاً أمامه.
لكن من بعد كل هذا السواد لا بد للإشراق أن يبرز، ولا بد للنور أن يسطع، رغم كل هذا المشهد السياسي والعواصف السياسية لم تقف عائقاً كما أشرنا، أمام الإمام الصادق، فلقد كان عصره من أزهى العصور الإسلامية من الناحية العلمية، حيث ظهر جل أئمة الفقه، والتفسير، والحديث، والكلام، وغيرها، من العلوم الإسلامية التي أخذت في الازدهار في عهد الدولة الأموية لكنها حققت المجد في عهد الدولة العباسية، ففي العهد الأول لم يكن هناك انفتاحاً على حضارات أخرى، بعكس العهد العباسي الذين انفتحوا على الشعوب الأخرى، وازدهرت حركة الترجمة، فتمت ترجمة الكثير من الكتب والثقافات، وتم افتتاح مدارس ومراصد وأنشأ الخليفة المأمون دار الحكمة، وكان العلماء مقربين من الولاة، وقد اغتنم الإمام الصادق تلك الفرصة العظيمة، وحركة الازدهار، وأسس مدرسة علمية وليس من المبالغة أن تسميتها الحقيقية بوزن جامعة إسلامية، خلفت ثروة علمية، وخرجت عدداً وافراً من رجال العلم، وأنجبت خيرة المفكرين وصفوة الفلاسفة، وهذا ليس غريباً عمن نشأ في مهد العلم في بيت النبوة، حيث شرب العلوم الإسلامية وعلوم القرآن والسنة والعقيدة وكل العلوم الأخرى، كدراسة الكون ،وأسراره، وعلوم الفلك، الإمام الصادق، درس السماء والأرض، والإنسان وشرائع الأديان.
لقد اعتبره أبو حنيفة النعمان أستاذه في الفقه، وهنا لا بد من التنبيه مجدداً، على مسألة قول : (لولا السنتان لهلك النعمان، وهذا القول غير موثق في أيٍّ من كتب أبي حنيفة النعمان، الي كان منشغلاً بعلومه بين البصرة والكوفة وبغداد)، وقد كان من مظاهر سعة علمه أن أخذ من علومه أربعة آلاف من الرواة وبدورهم نشروا هذه العلوم ومعالم الدين وأحكام الشريعة الإسلامية، وأول ما عني به عليه السلام كان تفسير القرآن الكريم، واهتم الإمام جعفر الصادق باحاديث جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، اهتماماً كبيراً بعد أن كثر الكذب والوضع عليه، وعلى الرغم إمن كثرة الرواة والتلاميذ، عن الإمام جعفر، إلا أن مروياته التي نقلت في كتب أهل الحديث والأثر المعتمدة ليست بالكثيرة، يقول ابن حيان عن الإمام عليه السلام في كتابه “الثقات”: (كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً).
إذ أن مسألة الرواية عن أهل البيت عليهم السلام، هي سهلة جداً لأن منهج أهل البيت هو منهج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنهج القرآن الكريم وبالتالي المتقدمين الذين رووا في القرنين الثاني والثالث للهجرة لأهل البيت، وهم الأوثق، وأما المتأخرين من الفرق الإسلامية الأخرى، بدأوا التدوين في نهاية القرن الخامس الهجري، لكن من باب الإنصاف أن أهل مدرسة الحديث والأثر في صحاحهم ذكروا مرويات لآل البيت، كالإمام الباقر وأبيه علي وجدهم الحسين والحسن، ولأمهم وأبيهم عليهم السلام، لكن مسألة الرواية بشكل عام موضوع شابه شيء من الغلو، لكن الروايات بطبيعة الحال موجودة في الكتب المعتمدة الصحاح لدى الثقات كما أشرنا أعلاه، وقد رووا في غير ذي باب كما ذكرنا آنفاً في العبادات والمعاملات والعقائد، وغير ذلك، وبالتالي إن الإمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، فقد روي له في كتب مدرسة أهل الحديث والأثر أجمعها، ما عدا الإمام البخاري، الذي روى معلقة واحدة فقط، كحال الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل، لأن الإمام الشافعي شرطه في الكتابة غير شروط الأئمة الآخرين، حيث كان يهتم بعلوّ السند، بغير النظر إلى من روى، لإنشغاله بالعلو والأسانيد المتصلة، التي لا تشوبها علّة.
وبالتالي كما أشرت إن مسألة الرواية عن الإمام الصادق مسألة جدلية، لكنها لا تعني أن الرواية عنه غائبة كلياً، والرواية عنه موجودة، واهتم بها الأوائل ويكفي أن أهل مدرسة الحديث والأثر قد رووا عنه وعن طريقه مما حصلوه من أحاديث، لأن واحداً على سبيل المثال من الأسباب التي جعلت الإمام البخاري يعرض عن الرواية عن الإمام جعفر بن محمد الصادق أن هلم يسمع طريقاً صافياً نقياً إليه، بينما الإمام مسلم وغيره كانوا قد التقوا بأناسٍ صلحاء وثقات رووا عنه وكان الطريق عبر ابن جريج و سفيان الثوري وهما إمامين جليلين من مدرسة أهل الحديث والأثر.
وبالتالي، إن الغالبية العظمى من أسانيد الإمام جعفر الصادق صحيحة، والرواة عنه معظمهم من الثقات، وقد بلغت أحاديث الإمام الصحيحة الموثقة لدى علماء أهل الحديث والأثر، 206 حديث وذلك لأن الغاية تنقية تراثه من المكذوب عليه، فهو مذهب فقهي متكامل ومن أقدم المذاهب الفقيهة، قال تبارك وتعالى: (فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلّمناه من لدنّا علماً).
والإمام جعفر الصادق غصنٌ من دوحة النبوة المباركة نبت نباتاً حسناً في حديقة الصدّيق أبي بكر العطرة، جمع عليه السلام بين شرف النسب المصفّى من جهة الأب حفيد علي، والنسب المعتَّق من جانب الأمّ سليلة “عتيق” (أبو بكر الصديق)، إذ كانت العلاقات وثيقة أكيدة بين بيت النبوة وبيت الصديق لا يتصور معها التباعد والاختلاف، قال تبارك وتعالى: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون)، وحفيدة أبو بكر الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر الإمام الخامس وحفيد علي كما يذكر الكليني في أصوله تحت عنوان “مولد الجعفر”، وهو والد جعفر الصادق أمه فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان الصادق عليه السلام يقول: ولدني أبو بكر مرتين.
في مسيرة جعفر الصادق كان رجل علم وتزكية وإصلاح، وهو ما ساهم في جعله مرجعية علمية في عصره، كما يفسر محاربته للغلوّ والغلاة الذين اتهمهم بوضع الحديث عليه وعلى علماء وأئمة آل البيت عموماً. ويبقى السبق للإمام الصادق في كافة هذه العلوم بحيث كان المنارة التي شعت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري لتذكي فتيل النهضة العلمية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولتلفت أنظار علماء الغرب إلى ذلك العبقري الفريد الذي تمتع بنبوغ متميز لم يسبقه سابق قبله بألف عام ولم يلحقه لاحق بعده خلال ألف عام، ذلك هو الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، وللحديث بقية.
د. عبدالعزيز بن بدر القطان